اشكالية العدواة في النظام السياسي العربي
|
*سماحة السيد جعفر العلوي
معرفة العدو قضية محورية في رسم علاقات الإنسان بمحيطه وتحديد سلوكه، وهكذا تكتسب أهمية معرفة ما يندرج تحته، ومن ذلك ما قاله أمير المؤمنين: (أَصْدِقَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ وَأَعْدَاؤُكَ ثَلَاثَةٌ. فَأَصْدِقَاؤُكَ: صَدِيقُكَ، وَصَدِيقُ صَدِيقِكَ، وَعَدُوُّ عَدُوِّكَ. وَأَعْدَاؤُكَ: عَدُوُّكَ، وَعَدُوُّ صَدِيقِكَ، وَصَدِيقُ عَدُوِّك). وأكدت الآيات القرآنية على معرفة العدو، ومنها قوله تعالى: "إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ" (سورة فاطر /الآية 7).
بيد أن العداوة لا تنحصر في الجهة التي تتعدى على الحقوق – العدوان - حيث قد يصطنع الإنسان بنفسه العدو من خلال سوء علاقاته مع الاخرين، وهذا المعنى يتشظى في أكثر من اتجاه؛ منه العجز عن تمييز العدو من الصديق، وحينها يقوم الإنسان بسلوك عدواني تجاه غير الأعداء، ومنه قوله تعالى: "قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِين" (سورة يوسف /الآية 5). وحينها تكون خيارات سلوك العدو المصطنع مفتوحة، ومنها أن يكون الطرف الآخر حياديًّا، وإنما ينتج الأذى عن طبيعة العلاقة التي يرسمها الإنسان، ومنه قوله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ" (سورة الأنفال /الآية 28). فالمال لن يؤذي الإنسان وإنما هو سلوك الإنسان ما يجلب له الأذى. إذن؛ إن ما يصنع العداوة أو الصداقة في قسم كبير منه طريقة تفكير الإنسان هو وما يحمله من معارف تجاه الآخرين أو ما يرسمه لذاته من موقعية تجعل الآخرين مناوئين كأن يود استغلالهم.
استعداء الشعوب
هذا الحديث ليس دردشة ثقافية وإنما هو لتصويب النظر على داء الأنظمة السياسية في العالم الثالث، ومنه بطبيعة الحال العالم العربي. فضبابية تحديد العدو الخارجي هي مشكلة السياسات الخارجية لأنظمة العالم الثالث، وأيضاً تحديد العدو الجدّي والداخلي هو الأكثر تعقيداً ممَّا يصنع تباين المسارات بين الشعوب والأنظمة.
إن إشكالية ما يُعرف بالإرهاب لا تعدو أن تكون تضخيماً وتهويلاً، بل وأحياناً تخليقاً وافتراءً ناتجاً عن النظرة العدوانية للشعوب من قبل النخب السياسية، أو يكون «الإرهاب!» نتيجة (رد فعل) الممارسة العدوانية الفرعونية. قال تعالى: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ" (سورة البقرة /205)، فالحكم الفاسد كما هو السبب في تقويض المجتمعات وتدهور الاقتصاد فهو أيضاً سبب أساس للثورة الاجتماعية.
ويبدو أن من مناشئ الاستعداء هو العلو والتكبر وهو ما يعبّر عنه القرآن الكريم بـ (الاستكبار) بحيث إن التربع على العرش يتطلب ممارسة استضعاف شريحة واسعة من المجتمع لتكون عمالة منخفضة الأجر، كما يتطلب تمييز طبقة يعتمدها للحكم تدافع عنه لأنها تستفيد منه. من جهة أخرى تكون العنصرية باختلاف مشاربها العرقية والقبلية والدينية والاقتصادية أحد أسباب استعداء عامة الشعب، خصوصاً حين تتداخل مع (العلو) فتشكل عصبة الحكم الفاسد.
ان الحمية الجاهلية – العصبة / العنصرية- تعرقل التقدم الحضاري الذي ينشده الإنسان في ظل القيم المثلى، خصوصاً العمل الصالح الذي يستبدل بالعصبيات. وإذا كنا اليوم نلاحظ بوضوح العنصرية الصهيونية، فهي إنما بدأت بالافتراء على الله تعالى: "وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَآءُ اللهِ وَأَحِبَّآؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنْتُم بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَلِلهِ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ" (سورة المائدة /18). هذه العنصرية تجعل الآخر منعدم الحقوق والاعتبار، فالنفسية المتشكلة بالنظرة العنصرية تضيق بالخير للآخر لأنها لا تراه يستحق الحياة إلا أن تكون حياته في إطار منفعة الشعب المختار أو القبيلة المختارة. هذه النظرة الاستعلائية تفسر لنا سلوكيات النخب السياسية حين تمنُّ على الشعوب ببعض الفتات مما هو حق لها أصلاً، وهكذا يتخذون عباد الله خولاً ومال الله دولاً.
إن مشكلة الشريحة المساندة للنخبة السياسية، والتي تستجيب للسياسات الفاسدة والظالمة، أنها تنتفع بالفساد مهما تذرعت بمبررات التعقل والواقعية أو حتى الدين. قال تعالى: "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ" (سورة الزخرف /54). فما كان لفرعون أن يستخف القوم ويبعدهم عن العقل والرشد إلا أن استثار غرائزهم وشهواتهم (مصالحهم)، وما كان لاستثارة الأهواء أن تؤثر فيهم فيطيعون فرعون إلا بوصفهم فاسقين قد استمرؤوا الفساد وظلم العباد.
لو تمثل الفقر رجلا لقتلته
إن النظم العربية في غنى عن اختلاق الأعداء ومعاداة شعوبها فلديها ما يكفيها من التحديات الكبيرة التي تشدُّها في درك التخلُّف. ويبدو أن الباحثين الاستراتيجيين يشيرون عادة للمخاطر من قبيل ندرة المياه، الأقليات العرقية والمذهبية، الصراع العربي الإسرائيلي، الأرهاب... ويشير بعضهم للفقر والفساد ضمن المخاطر الاستراتيجية، ويبدو أنهما الأهم لاتصالهما بالاقتصاد والمجتمع والسياسة، وأيضاً البنية الفاسدة المنتجة للفقر لا تستطيع التغلُّب على التحديات الأخرى بصورة جدية.
وإذا كان ثمة مرادف للتخلف بمعنى التلازم فهو الفساد. وهكذا فالتخلف عنوان لأوجه الفساد المتعددة. ومن بين الأوجه السيئة للفساد التي قد تكون من أشدها هدماً، أو ربما يكون آلية الفساد في تقويض المجتمعات ألا وهو الفقر. فالتلازم بين الفقر والفساد أمر جدلي، فهو إحدى نتائج الفساد، كما أن استشراء الفساد يُعمِّق ويُعمِّم الفقر.
إن من توالي الفسادِ الفقرَ العام والغنى الفاحش الخاص، والفقر يقمع النوازع الخيِّرة في الإنسان لصالح البحث عن البقاء، بينما يقتل الغنى الفاحش النوازع الأخلاقية لتستبدل بقيم الثروة.
وهاتان الصورتان (الغنى والفقر) نجدهما بوفرة في عالمنا العربي، فالبيوت المتهالكة والقصور الفارهة، وطوابير الخبز وحفلات البذخ. هذا التقابل ليس في دولتين أو شعبين وإنما في البلد الواحد، وأيضاً ليس ثمة بلد عربي بمنأى عن ذلك حتى دول الخليج النفطية.
ويُصاب الإنسان بالاشمئزاز من هذه الصور المتقابلة والمتفاوتة بفحش، والذي يتعجب المرء من ألفتها، كأنما الفقر قدر المجتمع والغنى قدر حفنة من المحظوظين، وكأن لا علاقة بين فحش ثراء هؤلاء وفقر المجتمع. ويُصاب الإنسان ايضاً بالغثيان من تخمة خطاب الإشفاق على الفقراء من النخب السياسية، والأكثر سوءاً أن تتجاهل النخب السياسية أسباب التخلف أو عدم الاستقرار الاجتماعي.
إن تراجع القيم الأخلاقية وتآكل الروح الاجتماعية وزعزعة الثقة بالنظام السياسي، كل ذلك يصدر عن الفقر، ويسهم الفساد في إيصاد أبواب المعالجات الهادئة، مما يجعل مقاربة المجتمعات غير يسيرة، فيتمهد الطريق أمام الاعتصامات والتظاهرات التي أصبحت مألوفة في أقنية الأخبار، والقادم أعظم.
وكلما اتَّسعت الفجوة بين الحاجات الأساس للفقراء وقدرتهم الشرائية، ازداد الميل إلى عدم الاستقرار الاجتماعي وأصبحت البيئة ملائمة للتطرف وهدر الإمكانات المادية والبشرية. وفي هذا الصدد، أشار الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان في اختتام مؤتمر الأمم المتحدة حول الدول الأقل تقدماً، إلى (ارتفاع عدد الدول الأكثر فقراً من 21 دولة العام 1971 إلى 49 دولة العام 2001). وهذا يعني أن الإخفاق الاقتصادي في 49 دولة في العام قاد إلى وضع إنساني بائس لشعوبها، وهيَّأ البيئة لاضطرابات وأزمات عدة، حيث إن السياسة الاقتصادية تهدف في الأساس إلى تحقيق رفاهية المجتمع ورفع مستوى المعيشة.
تصحيح العلاقة
أصبح واضحاً عدم كفاية الحلول والإجراءات الأمنية لمواجهة التحديات التي تهدد الأمن والاستقرار في العالم العربي. وعلى أقل تقدير ينبغي أن تكون المعالجات الأمنية بعد بدء جهود الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي.
إن أزمة الثقة بين المواطن والنظام السياسي ناتجة بدءاً من استغلال النخب السياسية جهد المواطن دون اعتبار لحقوقه وكرامته، ومن جهة أخرى تباين مساراتها مع تطلعاته وثقافته، وبعبارة موجزة؛ إن بدء الأزمة هو أن المواطن يستشعر أن النخب السياسية تلحق به الأذى وتستغله فمن الطبيعي أن يبادلها العداء. ومن هنا فإن المقولات المؤسسة على انصياع المواطن لإرادة النظام، وتحديد المواطن الصالح وفقاً لمزاج النخب السياسية؛ هي ثقافة فرعونية تمتهن الإنسان وتجانب الحق، ولن يكون مآلها إلَّا المزيد من المشاكل.
إن أساس شرعية النظام السياسي أن ينبثق عن إرادة المجتمع، وأن يمتثل لقيم العدالة والحرية، وأن يستجيب لتطلعات المجتمع. وبالتالي بقدر ما يكون النظام السياسي مخطئاً في معاداة المواطن فإن استشعار المواطن العداء للنظام السياسي الذي يُلحق به الأذى يكون مبرراً من حيث المبدأ. لذا فإن المبادرة لتصحيح العلاقة تبدأ من النخب السياسية لأنها المشكلة أساساً ولامتلاكها أدوات القدرة والفاعلية، وبالتالي هي التي تتحمل المسؤولية بالدرجة الأولى، بينما قصارى ما يتحمله المواطن في مجابهة العدوان الذي تمارسه النخب هو الحكمة في ممارسة حقه الطبيعي.
|
|