شوارب "صدام" والانتخابات العراقية.. ثقافة قسوة الأب.. وعبودية الأبناء
|
حيدر الجراح (*)
في جميع المجتمعات، كل ظاهرة سياسية أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية تستبطن الكثير من التغير في بنية هذه المجتمعات وأنساقها وقيمها.. وهذا التغير يحمل وجهين هما السلب والإيجاب وهما يسيران متوازيان داخل كيان هذه المجتمعات أثناء حدوث الظاهرة وبعدها..وتحدث متغيرات كثيرة في السلوك العام لهذه المجتمعات من خلال تراكم الانجازات والأخطاء. في الكثير من مجتمعاتنا العربية لا يحدث التغيير إلا ببطء شديد لا يتناسب وحجم الظاهرة الفاعلة فيه.. فتراه يعاني شدا وجذبا الى الفترة السابقة للظاهرة أو محاولة تجاوزها، فهو يقدم خطوتان للخلف وخطوة واحدة للأمام.
ظواهر المجتمع العراقي كثيرة جدا مثلما أزماته الممتدة عبر قرون طويلة. الكثير من هذه الظواهر ممتدة بحمولاتها النفسية والثقافية في وعي الناس رجالا ونساءا، لا تنفك تطاردهم أو يطاردوها بحثا عن وهم آمن بالاطمئنان إلى صحة ما توارثوه دون محاولة منهم للامساك بهذا الوهم ونقده أو تفكيكه..
في التاسع من نيسان العام 2003 سقط صدام ورجال حكمه، وسقطت معه حقبة امتدت إلى أكثر من ثلاثة عقود.. وبسقوطه خرج الفرد العراقي من قمقمه، قمقم الاستبداد والدكتاتورية والتسلط والمقابر الجماعية والغازات السامة.. ولكن الكثير من مفاعيل سياسات صدام ورجالاته وثقافة تلك الحقبة لم تسقط.. بل أخذت بإفراز نتوءاتها على الساحة العراقية. ووجدت الحركات المتطرفة حواضنها الطبيعية في مثل هذه المفاعيل والحمولات التي اكتنفتها ومارست اشد أنواع القسوة والعنف متماهية مع خطوات الرئيس والأب والقائد الأوحد.. ونال ما نال الكثير من مناطق العراق من هذه القسوة المفرطة في اشد حالات تجلياتها المجنونة. وهروبا إلى الأمام، الذي مارسته وسائل الإعلام العربية بقصد التضليل الإعلامي والإيديولوجي اخذ الحديث عما يجري في العراق يأخذ منحى آخر عبر نشرات الأخبار وبرامج الحوارات السياسية والتقارير التلفزيونية.. وهو إن جميع ما حدث ويحدث هو بسبب الاحتلال، وغيبت حقيقة إن الاحتلال كان نتيجة للاستبداد، وجميع ما حدث هم من جملة الحمولات التي استبطنها نظام حكم الفرد الواحد طيلة عقود أربعة منصرمة.. والاحتلال قد يكون سببا واحدا من عدة أسباب ولن يكون السبب الأوحد في ما حدث أو يحدث.. ولا داعي لاستذكار ما حدث بعد العام 2003 والتي تجد جذورا لها ممتدة في النسيج الاجتماعي والثقافي العراقي وليس وليدة لحظتها الاحتلالية ان صح التعبير. من هذه الظواهر ظاهرة تقديس القوة وجميع المظاهر المرافقة لها بدءا من طبيعة العلاقات الناظمة لأفراد المجتمع العراقي مرورا بثقافة الفساد الإداري والمالي (المحسوبية والغنيمة) والعنف الأسري والمجتمعي، المعنوي منه والمادي ،إضافة إلى الاتكالية والفوضى والجشع والاستغلال وجميع المظاهر الأخرى لتقديس القوة والتي جعلت بعض العراقيين في أحاديثهم حتى بعد هذه السنوات يقولون لا يمكن أن يحكمنا الا شخص مثل صدام ..!؟.
وقوة الحاكم وبطشه واستبداده لا يمكن ان تترافق مع حرية الفرد المحكوم..بل انها تقود سريعا الى علاقة تمتاز بنوع من العبودية لهذه القوة ولجميع رمزيتها الدالة في السلوك والكلام. رب سؤال يطرح نفسه هل فشلت النخب السياسية العراقية ومثلها الثقافية في تشكيل وعي جديد للفرد العراقي طيلة هذه السنوات السبع المنصرمة؟. الجواب كما يتجسد على ارض الواقع، نعم فشلت في ميداني التنظير والعمل، وأسست لقطيعة واسعة مع أفراد المجتمع الذي يتقدم عليها أحيانا في بعض المفاصل. فشلت في خلق وعي جديد لهذا الفرد الذي كان ولا يزال يرى (في الغالب الأعم) في صدام حسين الأب الوحيد الواجب طاعته والقادر على لجم الأبناء رغم قسوة هذا الأب وغضبه !؟. في متابعتها للانتخابات البرلمانية الأخيرة نشرت جريدة الشرق الأوسط في طبعتها العراقية تقريرا حمل عنوانا رئيسيا هو (العرب السنة يصوتون بقوة لصالح القوائم العلمانية أملاً في العودة إلى السلطة) وكان العنوان الفرعي لهذا التقرير هو (يفضلون شخصية قوية.. واحدهم يشيد بعلاوي ويصفه بأنه صدام بلا شارب) .. الشرق الأوسط العدد 11425 الأربعاء 10-3-2010. ويذكر التقرير قول احد الذين صوتوا لعلاوي من هذه المحافظة قوله: "علاوي هو الأفضل.. هو صدام حسين آخر لكن بدون شارب.. وقد أيده أصدقاءه المحيطون به". تعكس هذه الكلمات ميل أهالي هذه المحافظة إلى الشخصية القوية التي تظهر الكثير من الحزم وهي صفات تجد الكثير من القبول لدى أبناء المحافظة ذات الطابع العشائري.. هكذا علق كاتب التقرير..
قول الرجل يحمل دلالات ضمنية بالخضوع لمنطق القوة، حتى لو كانت هذه القوة غاشمة، مستبدة، منفلتة، لا تقيم وزنا في ابسط تجلياتها، للعرف العشائري الموجود في هذه المحافظة أو المحافظات الأخرى. انه ينتخب القوة التي أعطت الأمر في يوم ما بدكّ مدينة الفلوجة، والتي اعتبرها أهالي تلك المحافظة رمزا وطنيا للمقاومة العراقية الشريفة ؟!. على حد وصف أدبيات وخطابات تلك الفترة.. لكن ذاكرة الشعوب قصيرة.وهذا القول يحمل دلالة ضمنية أخرى، ان هذه القوة لا يمكن ان يقف شيء في طريقها وهي التي أعطت الأمر أيضا بضرب المدينة المقدسة للآخر المختلف مذهبيا، والذي خرق الامتياز التاريخي للسنّة في السيطرة على مقاليد الحكم.. لا يهم قسوة الحاكم وبطشه، إذا حمل العصا على أبنائه وعبيده وسامهم سوء العقاب، فطاعة الأب واجبة، حتى مع توحشه، وهي ثقافة رعوية بامتياز، يمتدح المجتمع العراقي منها سلوكا وقولا.وصورة أخرى لهذا الانشداد إلى القوة الغاشمة، والتي شخصنها القائد الضرورة، في جميع تصرفاته وسلوكه السياسي والشخصي اليومي، وهي صورة (...) وهو يطلق النار من بندقية في الهواء وهو ممسك بها بيد واحدة، ويحيط به محازبيه، بعد فوز قائمته قي الانتخابات، ويقول في تعليل هذا التصرف: لقد فزنا.. وهذه تحية للنصر. وهي عين الصورة التي كانت تطالعنا بها وسائل إعلام دولة البعث، للقائد الضرورة وهو يمسك ببندقيته بيد واحدة والسيكار الكوبي بفمه وهو يطلق النار احتفالا بنصر مزعوم أو نحو عدو مفترض وهو محاط بحمايته التي تمتاز وجوه أفرادها بالشوارب الكثيفة..
ثقافة الشوارب البعثية وثقافة رجالاتها لازالت فاعلة في المجتمع حتى بعد هذه السنوات السبع المنصرمة وستبقى فاعلة بدون العمل الدءوب من قبل النخب السياسية والثقافية لتأطير وعي جديد وتنمية سياسية وثقافية شاملة..
(*) شبكة النبأ للمعلوماتية
|
|