ضحايا الفلسفة الاغريقية.. السهروردي مثالاً
|
*أنور عزّالدين
اذا نريد ان نتعرف على كيفية تسرّب الفلسفة اليونانية الى بلاد الاسلام، يجدر بنا تسليط الضوء على رموز حملت هذه الفلسفة فكراً وعملاً بل واعتنقتها الى حد الاندماج والانصهار! كيف لا... وقد وجدت في هذا الافكار الوسيلة التي تناسبها لتقبل حقائق الدين والكون والخلق. انه (شهاب الدين السهروردي) الذي يُسمى بـ (شيخ الإشراق)، وما يزال اسمه بارزاً في بعض البلاد الاسلامية. لكن قبل الدخول في سيرة هذا الفيلسوف، نشير الى ملاحظتين أساسيتين :
1- يبحث الانسان عادة عن مقياس للثقافة يستطيع ان يحدد به الافكار التي ترد عليه، فيميّز بين ماهو نافع وما هو ضار من الافكار التي يستقبلها. وأي ثقافة إنما تنتهي بالتالي الى خطوط عريضة تجمعها الفلسفة، فكل ثقافة تقع ضمن اطار معين، وتنطلق من قواعد اساسية محددة. وهذه القواعد هي التي يجب ان نقف عليها ونفهمها لكي نفهم طبيعة تلك الثقافة.
وبما ان التاريخ يشير الى وجود اتجاهين في الفكر: أحدهما مادي وإلحادي، والآخر: ديني وسماوي، فان ثقافة البشرية جمعاء تعود بالتالي إلى خطين اساسيين : خط الفلسفة الالحادية الشركية، وخط الفلسفة الايمانية التوحيدية. وبالتالي فان كل ما عند البشر من الثقافات يعود الى أحد هذين الجذرين الرئيسين؛ جذر الشرك أو جذر التوحيد.
2- كما ان المسيحية أبتليت بالخلط بين الوثنية والدين في القرنين الثاني والثالث للميلاد، فان الاسلام أيضاً أبتلي بنفس الداء، وذلك في نفس الفترة الزمنية، أي في القرنين الثاني والثالث الهجري، وهذا التشابه في الفترة الزمنية، أثار تساؤلات الباحثين والعلماء في هذا المجال، فالافلاطونية الجديدة التي مزجت الديانة المسيحية بالفلسفة الاغريقية، انبثقت ابان القرن الثاني والثالث للميلاد بينما نرى انه في القرن الثاني والثالث الهجري كان نشوء هذا الغزو في أوساط المسلمين. فنشأت افكار الصدور والحلول حيث نجد آثار هذا الغزو والتأثر في رسائل اخوان الصفا، التي تشكل أفكار مجموعة من الفرقة الاسماعيلية الباطنية التي عمدت الى عرض الافلاطونية الجديدة بتعبيرات اسلامية فقالت بأن الصادر الاول هو الولي وبحلول روح الله في أئمة الاسماعيلية.
تجربة الخلط بين الدين والوثنية
ان الفلاسفة الذين حاولوا صهر الحكمة الإلهية والافكار الشركية الوضعية في بودقة واحدة ليستخرجوا منها سبائك معينة وضمن قوالب ضيقة تتمشى ومآربهم هم الذين قاوموا رسالات الانبياء و وقفوا في صف المتسلطين على رقاب الناس؛ كما حصل مع نبي الله عيسى بن مريم عليه السلام الذي خاطب الناس بفطرتهم؛ وقال اني رسول الله اليكم، اخبركم بما تدخرون في بيوتكم، وأحيي الموتى باذن ربي، وان الله يشفي الامراض العضال على يدي، واني ابرئ الاكمه والابرص باذن الله، وان هذه معجزاتي التي جئت بها، وهذه اخلاقي وهذه رسالتي.. صار الناس يؤمنون برسالته شيئا فشيئا حتى القرن الثالث من الميلاد وحينما رأى الفلاسفة ان الناس بايمانهم بالمسيح ابتعدوا عنهم وانعتقوا من تسلطهم. حينها عمل بعض الفلاسفة على خط يستقطب الزخم الجماهيري من جهة ويحافظ على جوهر افكارهم الفلسفية من جهة أخرى، فعمدوا الى خلط الافكار الاغريقية الجاهلية الوثنية بتعاليم المسيح فقالوا بالاقانيم الثلاث؛ وقالوا نحن نؤمن بالمسيح، ولكن المسيح ليس بشراً مثلنا، وانما هو إله. ونؤمن بمريم، ولكن مريم ليست كأي انسانة أخرى، وانما هي روح القدس. فعيسى ابن الله، والواسطة هي روح القدس، وبالتالي افرغوا الديانة المسيحية من روح التوحيد.
ثم يعيد التاريخ نفسه في الامة الاسلامية التي آمنت بالرسالة المحمدية، حيث راح الناس يقرؤون القرآن الكريم ويفسرونه وفق الروايات وبما يفهمونه من اللغة العربية بتفاسير بسيطة تلتئم مع بساطتهم وفطرتهم. غير أن من تسلط باسم الدين واغتصب الخلافة الشرعية من أهلها، عمدوا الى تشجيع الافكار الفلسفية التي أبعدت الناس عن رسالة الدين في رفض الخنوع والخضوع لاي سلطة غير سلطة الحق والعدل، فكانت الافكار التي أبعدت الناس عن مواجهة المتسلطين.
التصاغر أمام افلاطون
البحث في جذور التفكرات الدخيلة في الاسلام يستوعب مجلدات عدة، لكن التركيز على دراسة شخصية روادها الاوائل كالحسن البصري و واصل بن عطاء يعطينا تصوراً واضحاً عن الارضية التي قامت عليها الافكار الفلسفية في أوساط المسلمين. أما مؤسس فكرة الاشراق بين المسلمين ؛ وبالذات في البلاد الشرقية كايران والعراق وسوريا وتركيا، فقد تأثرت به الفرق الصوفية كما تأثر به الفلاسفة الشرقيون مثل ملا صدرا الشيرازي.
لقد طاف السهروردي البلدان، حيث عاش فترة في زنجان ثم ذهب الى اصفهان ودرس فلسفة ابن سينا، ومن هناك ذهب الى آذربيجان ثم الى حلب حيث القى رحله هناك متقربـاً الى حاكمها الملك الظاهر ابن صلاح الدين الايوبي، إلا أنه جوبه بمعارضة من قبل الفقهاء الذين كانوا يحذرون من عودة الحركات الباطنية، فكان نتيجة لتلك المعارضة ان كفّروه للاتهامات التي وجهت اليه من قبيل انه يكفر بختم النبوات بالنبي وبإمكانية ان يبعث الله تعالى نبياً جديداً بعد خاتم النبيين صلى الله عليه وآله! وكانت عاقبته الاعدام بامر الملك الظاهر، ومن هنا اطلق عليه لفظ المقتول، واطلق تلاميذه عليه كلمة (الشهيد). غير ان شيخ الاشراق هذا الذي قتل في الثلاثينات من عمره كان له الاثر السلبي البالغ في الثقافة الاسلامية، لذلك يجدر بنا ان نقف قليلاً عند افكاره.
كان السهروردي متأثرا بثلاث شخصيات هم افلاطون وزرادشت وهرمس الذي يكاد يكون مجهولا لدى الكثير بل لدى المؤرخين ايضا، حيث يقولون ان هرمس هذا كان حكيما كبيرا في التاريخ، بل وبعض المسلمين يدّعون ان هرمس هو النبي ادريس. غير ان هذا الادعاء بعيد عن الحقيقة كل البعد، لان افكار هرمس بعيدة عن افكار النبي ادريس، وهي بالتالي بعيده عن افكار القرآن الكريم التي هي بدورها تعبير عن افكار كل رسول من الرسل عليهم الصلاة والسلام.
وربما تتجلى لنا الافكار التي تأثر بها شيخ الاشراق
من خلال بعض عبارات كتاب له حيث يقول: (كانت في ايران القديمة أمة تدار من قبل الله وحكماءهم الشامخون كانوا يختلفون كليا مع المجوس، واني سجلت الاصول السامية لعقائدهم التي هي أصالة النور، وقد كملتها تجربة أفلاطون الى مرحلة الشهود، وذلك في كتابي المسمى بحكمة الاشراق، ولم يسبقني الى هذا العمل أحد).
فالذي يبدو واضحاً من هذا القول ان هذا الرجل قد تجاوز رسالة الاسلام وارتبط بالفرس القدماء، وهذه الحقيقة يؤكدها الفيلسوف المعروف الملا صدرا الشيرازي حيث يقول: (الرجل - يعني شيـخ الاشـراق السهروردي - كان متأثـراً بفلسفة النور عند المجوس).
هذا من جانب، ومن جانب آخر فان هذا الرجل كان منهزماً نفسيا امام الثقافات الاغريقية. فمن خلال تعبيراته نستطيع ان نقف على حقيقة وطبيعة هذا الجانب من شخصية السهروردي الذي يقول: (شاهدت ارسطو وقد ترآى لي شبحاً فسألته ما رأيك في أفلاطون ؟ ويجيبه - شبح ارسطو الذي مات قبل سهروردي بقرون متطاولة - بأن افلاطون هو اكبر فيلسوف واعظم عارف، وبأنه مؤسس الثقافة الانسانية. ويسرد سهروردي عن لسان شبح ارسطو فضائل لا تحصى عن أفلاطون. ثم ان شيخ الاشراق يسأل أرسطو عن مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون، فيجيب شبح أرسطو - على لسان السهروردي طبعا - ان مدى فهم الفلاسفة المسلمين لافلاطون كنسبة الواحد الى الألف. وهذا النقل المستوحى من شيخ الاشراق، يظهر مدى ذوبان الرجل في الافلاطونية، فيحاول ان يظهر ان افلاطون هو القمة الشامخة في واقع الفلسفة، وانه ليس لدى الفلاسفة المسلمين شيء. فهو ينقل ايحاءً ورؤيا عن ارسطو لتبريرما يذهب اليه، وما حكاه عن أفلاطون ليس وحياً منزلاً عبر شبح أرسطو، بل هو في الواقع تعبير عما يدور في خلد السهروردي. لأنه كان متصاغراً أمام أفلاطون، حتى قيل : ان السهروردي من أكثر فلاسفة المسلمين الذين صرفوا أوقاتهم في تفسير كلمات أفلاطون.
من هنا نتساءل حين نجد أحد المؤلفين المعاصرين يكتب كتاباً عن السهروردي ويسميه (الفيلسوف الشهيد)، ونعرف وباقرار السهروردي نفسه أنه انما كان يستقي أفكاره من هرمس وزرادشت وافلاطون، كيف يمكن أن يكون هذا شهيداً من أجل الاسلام، بينما شهداء الاسلام الذين سقيت بدمائهم شجرة الاسلام أمثال زيد، ويحيى بن زيد، ومحمد النفس الزكية وأخيه إبراهيم أولاد عبد الله بن الحسن، والحسين شهيد فخ وغيرهم لانجد من يكتب عنهم، فضلاً عمّا يُغمز به هؤلاء الشهداء ويؤخذ عليهم اجتهادهم في سبيل إقامة الحق وطلب الرضا لآل محمد صلى الله عليه وآله؟
*الفلاسفة الذين حاولوا صهر الحكمة الالهية والافكار الشركية الوضعية في بودقة واحدة ليستخرجوا منها سبائك وقوالب ضيقة تتماشى ومآربهم، هم الذين قاوموا رسالات الانبياء و وقفوا في صف المتسلطين على رقاب الناس
|
|