الامام الحسين عليه السلام. . آية العقل والعاطفة
|
*إعداد / بشير عباس
الاحاديث النبوية الشريفة كلها غاية في الادب الإلهي، وتجسد العظمة في الفكر والبصائر والاخلاق والايمان وبين هذا وذاك ثمة أحاديث قدسية صدرت عن رسول الله صلى الله عليه وآله، تدفع المهتم بها الى التمعّن والتعمق أكثر فأكثر، ليصل بمستواه وبصيرته الى العمق الإيماني المطلوب، الذي كان ينشده هذا النبي القدوة صلى الله عليه وآله للمؤمنين.
ومن جملة تلكم الاحاديث قول الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله بأن الحسين: (مصباح هدى وسفينة نجاة)، وقد وصف هذا الحديث بأنه مكتوب على يمين العرش، في اشارة الى عظمة وقدسية هذا الحديث المبارك ولكي نكون بمستوى المسؤولية الدينية والحضارية، لابد لنا من التدبر والاحاطة بأبعاد هذا الحديث. فهو وغيره مما فاض على لسان سيد المرسلين وأهل بيته الطيبين الطاهرين عليهم السلام، ليس من نوع الكلام أو القصص الصادرة عن غيرهم من البشر، حتى يكون بوسعنا ان نمر عليها مرور الكرام، أو أنها من نوع الكلام الذي ما ان يسمع حتى ينسى، فتدبرنا وتعمقنا وإحاطتنا ـ بما في وسعنا ـ بكلامهم الشريف، يعكس مدى اهتمامنا وتعظيمنا لمكانتهم السامية؛ كما يعكس الاهتمام والتعظيم المفروضان علينا من قبل الله سبحانه وتعالى اولا وآخراً.
مسؤوليتنا إزاء الحسين عليه السلام
مع ان اهتمامنا بهذه الاحاديث الفذة، إنما هي بمنزلة المؤشر العملي لإنقاذنا من براثن الدنيا وغرورها، ولكي تكون منهجا ودرسا أساسياً مقارناً للقرآن الكريم في حياتنا وكدحنا الى الله عزوجل. فماذا يعني قول الرسول صلى الله عليه وآله بأن الحسين مصباح الهدى؟ وماذا تعني الهداية؟ وماذا يعني أن يكون أبو عبدالله عليه السلام مصباحاً؟ وما هو المصباح؟ وما هو دور المصباح في حياة الإنسان؟ وما هي مسؤولية الانسان تجاه هذا المصباح؟ ثم ماهي سفينة النجاة؟ وكيف يكون الحسين سفينة النجاة؟ وماذا يتوجب علينا ان نعمل تجاه هذه السفينة؟
هذه الاسئلة ليس الهدف منها البذخ الفكري أو الأدبي، إنما لإلفات نظر المؤمنين الى ضرورة التعمق في حقيقة الامام الحسين عليه السلام ودوره الرباني العظيم، فضلاً عن ضرورة وعي مسؤولياتنا تجاه سيد الشهداء وأبي الاحرار عليه السلام وقضيته السرمدية. فالاجابة ليست معقدة بقدر ما هي عميقة، ونحن في هذا الاطار يهمنا النهوض بمستوياتنا حتى نتوصل الى الحقائق النورانية لهذا الحديث النبوي الشريف الذي بين ايدينا.
من هنا؛ تنبغي الاشارة الى حقيقة ان الانسان يتركب من بعدين اساسيين: ولا غنى لاحدهما عن الآخر مطلقا؛ البعد الاول: البعد العاطفي، والثاني: بعد الفكر والعقل والبصيرة. فالبعد الأول يحتل موقعا من الانسان أشبه ما يكون بموقع الوقود من السيارة، حيث لايعقل مطلقا أية حركة لهذا المصنوع البشري دون امتلاكه للطاقة. وبمعنى آخر؛ تكون السيارة غير ذات قيمة فيما لو افتقرت الى الوقود، بغض النظر عن كون هذه السيارة ذات تكنولوجيا عالية أو هابطة.
ولكن السؤال الراهن هو: هل إنّ الوقود بمفرده كافياً لحركة السيارة؟ وبطبيعة الحال فإن الجواب سيأتي منفيا تجاهه، على اعتبار ان ثمة ابعاداً اخرى لها الدور الكبير في حركة هذه السيارة، هذه الابعاد تتمثل تارة في المحرك وأخرى في العجلات، واخرى في الاجهزة الاساسية المتعددة. وهذه الحقيقة تنطبق تمام الانطباق على حقيقة الوجود وشخصية الانسان، ولاسيما الافراد الاحياء قوة وفعلا. فمن الصعب جدا تصور العاطفة في الانسان تمثل الدافع للحركة والنشاط والفعل وردّ الفعل.
فمن تنعدم فيه الشهوة والاحساس بالجوع والألم وتلمس الراحة، فهو لايعدو عن كونه موجودا جامدا، إذ ان مجمل هذه الاحاسيس وغيرها تعني وجود الانسان فالاب يكون أباً حقيقيا حينما يرى الجوع يعضّ أولاده فيسارع الى تأمين ما يريدون من الطعام، لأنه يقدر مسؤوليته تجاه عائلته من جهة، ويعرف معنى الجوع وتأثيره من جهة ثانية. فهو يعمل المستحيل لكي يوفر الامن المعيشي لهم. وكذلك الام التي تترك نومتها الهنيئة لتقوم بإرضاع طفلها الذي يقرصه الجوع، والداعي في ذلك بالطبع العاطفة والحنان اللذان تحملهما له، لان هذه الأم تعرف أسباب ودوافع البكاء لدى رضيعها.
إذن فالعاطفة في المثالين المذكورين هي المحرك، وهي الدافع الذي على أساسه يقوم أهم ركن في بناء العائلة المتفاعلة. ثم هناك الجانب العقلي في حركة الناس، ومن دون العقل سيفقد العاطفة مصداقيتها.
وما يهمنا في هذا الجانب هو التأكيد على أن الامام الحسين عليه السلام هو الذي يوفر للأمة الاسلامية حاجتها العقلية كما وفّر لها حاجتها العاطفية. فالحسين عليه السلام كما اصبح للمسلمين بمنزلة نقطة الرجاء والعاطفة بنص الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله حيث وصفه بـ (سفينة النجاة) التي تؤدي دور المنقذ أثناء وبعد الامواج والعواصف والدوّامات، فهو ـ ايضاـ بشعاراته ومنجزاته الدينية أصبح (مصباح الهدى) بالنسبة للمؤمنين الذن تعترض طريقهم الانحرافات الفكرية والسياسية.
العاطفة والهداية
إن الامة الاسلامية ومنذ استشهاد أبي عبد الله الحسين عليه السلام لاتزال تتدفأ بحرارة الثورة الحسينية. فالحسين عليه السلام قتيل العبرات؛ بمعنى أنه قد قتل لكي يوفر في الامة المسلمة الدموع، لإن الانسان المسلم حينما تدمع عينه ويخشع قلبه سيكون قابلا لاستلهام المعاني الحية لتعاليم الدين الحضارية، وسيكون مثله مثل الارض القابلة لامتصاص غيث السماء حيث تهتز وتربو، دون الارض الصلدة التي لاتستجيب لنداء المطر ورسالته الداعية الى الانبات. فعندما يبكي المرء ويخشع قلبه بأخذ الآيات القرآنية الكريمة موقعها منه، وتجد استجابة طيبة لديه من أجل الاعتقاد والتمسك بها وتطبيقها. ولكن الانسان الأبله أو المستهزئ الذي لاتربطه أية عاطفة بالآيات السماوية، لن ينتفع بها، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وآله: (أين الله ؟ فقال: عندالمنكسرة قلوبهم).
لذلك فاننا نرى ونشهد على أن المقيم للشعائر الحسينية يتحول الى انسان نزيه وطاهر ونظيف، ونظرا الى ان دموعه التي ذرفها، وقلبه الذي خشع، قد غسلاه وطهراه من ذنوبه؛ فهو مغسول بالعاطفة والحماس.
والمسلك في ذلك يبدو واضحا، حيث يعود المقيم للشعائر الحسينية الى قاعدة محاسبة الذات بصورة إرادية أو لا إرادية. فهو على يقين من العظمة اللامتناهية التي يتمتع بها سيده ومولاه الحسين بن علي عليهما السلام، وهو يعرف من خلال التاريخ ما قام به هذا السيد العظيم من تضحية وشجاعة لانظير لهما على مر الزمان فتراه يعود الى ذاته ويؤنبها إزاء التقصير في ارتكاب الذنوب، والانهزام تجاه المصاعب والعقبات. ولاشك أن التوبة العملية هذه مع ما يزامنها من اعتقاد راسخ بولاية الحسين وأهل البيت عليهم السلام، توبة حقيقية مقبولة لدى الله سبحانه وتعالى.
إذن؛ فالعاطفة الصادقة على جانب كبير جدا من الاهمية في حياة المرء حيث تحركه وتدفعه وتخلق أمامه اهدافا وغايات سامية، على اعتبار ان حياة الانسان لاتسمى حياة ما لم يسعَ الانسان الى تحقيق شيء فيها.
إن أصحاب الحسين عليه السلام وصلوا الى هذه الحقيقة، حيث لم يغادروا الحياة ما لم يطمئنوا الى أن التاريخ سيكتب منجزاتهم بحروف من نور في قلوب المؤمنين المصرين على الثأر لدين الله من الظالمين والجبابرة.
وهنا يجب أن نلتفت الى ان المصباح هو الذي يشع بالنور، والهدى هو الذي يهدي الانسان الى الطريق المستقيم، وإننا كأمة مسلمة نعيش مع سيد الشهداء في عواطفه ومأساته فقط مع بالغ الاسف.
وللتوضيح أقول: إن تاريخ كربلاء ينقل لنا بأن الامام الحسين عليه السلام واصحابه استمهلوا الاعداء سواد ليلة عاشوراء، ولم يكن طلب الفرصة هذا بسبب الخوف من الموت أو الاستشهاد، حيث أن هذا الركب الشجاع لم يقدم الى ارض كربلاء الاّ وكان عارفا بما سيؤول اليه مصيره مسبقا. والدليل على ذلك أن الامام عليه السلام نفسه كان قد قال قبيل مغادرته المدينة المنورة في معرض رده على تحذير من حذره القتل وتعرض نسائه ونساء اصحابه للتنكيل والتشريد من قبل الجيش الاموي، قال عليه السلام : (قد شاء الله أن يراهن سبايا).
لقد كان سبب الطلب المشار اليه الرغبة في تجديد العهد بكتاب الله تبارك وتعالى، فالحسين عليه السلام كان القرآن الناطق، لذا نحن نرى في حركته ومنهجه قرآناً ينطق بصدق الحديث وصدق الامانة والتضحية والتفاني في ذات الله، فواقعة كربلاء كانت تجسيداً واقعياً لتعاليم القرآن الكريم. أما نحن... فكلما كان التصاقنا بالقرآن الكريم وتعاليمه أكثر، كلما كان اقترابنا الى الحسين عليه السلام اكثر، والعكس يكون بالعكس، فالطرفان يعبران عن ارادة إلهية تتجلى في ضرورة انقاذ الانسان نفسه من الوساوس والانحرافات. يقول تعالى: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم"،أي إن كنتم تدعون محبة الله ومحبة رسوله ومحبة أولياء الله تعالى، لابد ان يقترن هذا الحب بالطاعة والتقرب، لا ان يكون حبّاً فارغاً وقشرياً وظاهرياً. لذا لابد من التحلّي بالشجاعة والتضحية من اجل هذا الحب الحقيقي، وعندما يقترن الحب بهكذا تفاعل وطاعة فان النتيجة "يحببكم الله"، وهذا الحب الإلهي يستتبع الخيرات والبركات العظيمة، لكن اذا كان العكس، فان الآية الكريمة التالية تحذرنا في قوله تعالى: "قل اطيعوا الله والرسول فان تولّوا فان الله لا يحب الكافرين" (آل عمران /31-32)، أي ان الانسان يكون معرضاً دائماً لخطر الابتلاء بالتناقض في سلوكه بين أقواله وافعاله. وهذا بالتحديد ما يجب ان نحذره أشد الحذر في مواكبتنا مسيرة الامام الحسين عليه السلام.
ضياع الإطار الفكري
على الرغم من عمق العلاقة العاطفية التي تربط الموالين للامام الحسين عليه السلام، فاننا نرى تفاوتاً واضحاً بين مستوى العلاقة العاطفية وبين مقدار الاندماج الفكري والعقلي بقضية كربلاء و رؤى الامام الحسين عليه السلام واخلاقه، فما السبب في ذلك يا ترى؟
لقد تركنا الاطار الفكري للقضية وكأن السبط الشهيد عليه السلام قد ولد في يوم عاشوراء واستشهد في نفس اليوم، وها نحن لا نعرف – أو لانتقدم لأن نعرف- من الامام الحسين سوى أحداث كربلاء رغم عظمتها، في حين ان حياة الامام الحسين عليه السلام تحمل في طياتها العظمة والعضة للاجيال على مر التاريخ، بدءاً بمولده الشريف ثم امتداداً لمعطيات هذا المولد الشريف. نحن – وللأسف- لا نكلف انفسنا البحث في رسائل وخطب سيد الشهداء اللاهبة الى معاوية، فضلاً عن عدم تدبرنا فيها. ونتغافل عن مطالعة رسائله عليه السلام المفصّلة فيما يخصّ حياة العلماء وصفاتهم، بل ولا نسعى الى التدبر في الزيارات التي نقرؤها تعظيماً وعرفاناً بجميل الحسين عليه السلام لنا، فهل فكّر الواحد منّا فيما تعنيه هذه الزيارات؟ ولماذا هذا التعدد فيها؟ ولماذا هذا التوقيت الخاص لأنواعها وأقسامها؟
إننا في الوقت الذي نكون بأمس الحاجة الى أجهزة تبليغية متطورة وفاعلة بهذا الشأن، نرى الكثير من الخطباء عديمي الاهتمام بما تعنيه هذه الزيارات مع العلم انها قد صدرت عن معصومين عن الخطأ، وهي تحمل مفاهيم عرفانية عظيمة ونفحات ولائية لابد من نشرها وتكريسها في النفوس، ولعل وجود هذه الزيارات باعدادها بين أيدينا يدل على حرص العلماء والصفوة من المؤمنين الذين سبقونا في الايمان عندما حرصوا على استنساخ هذه الزيارت بايديهم وبعرق جبينهم، حتى تصل الينا ونقرأها بحروف واضحة وطبعات جميلة وزاهية.
|
|