حتى لا نتعرض للثقافة الدخيلة
|
*أنور عزّالدين
من اجل ادراك الحقائق الالهية يحتاج الانسان الى (البصيرة)، ومن دونها لا يمكن ان يرى حقائق الاشياء، اضافة الى هذا، هناك ايضا الحاجة الى (النور)، فلابد ان يكون هناك إرشاد وتوجيه وثقافة.
وهناك من يدعي كفاية العقل في اكتشاف الحقائق في هذه الحياة، والدليل الذي يُساق، ظهور الاكتشافات العلمية الباهرة التي توصل اليها الانسان واليوم يرفل بفضلها في حياة سعيدة ومرفهة، من قبيل الكهرباء و وسائل الاتصال ومحرك الديزل وكثير من المعادلات العلمية في مجال الطب والهندسة وغيرها كثير. لكن يبقى السؤال؛ هل يكفي العقل وحده لوصول الانسان الى الحقائق كاملة؟ طبعاً كلا ؛ فلو كان العقل وحده يكفي لكان كل الناس علماء، فالامر الذي يحتاجه الانسان بعد العقل هو التعليم، فلابد ان يكون هناك من يعلمه ويرشده ويذكّره لكي يفهم حقيقة الاشياء.
ان التعليم مثله كمثل النور، ونقصد به هنا القرآن الكريم، فهو النور و البرهان والصراط المستقيم، وكذلك الحال بالنسبة الى نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله). والمشكلة الاساس التي تتفرع منها سائر المشاكل هي ان الانسان لا يبحث عن النور والبرهان، لذا نجده يتعرض لهجوم ثقافات دخيلة تحتل في قلبه وذهنه مكان ذلك النور والبرهان.
ومن العجيب ان يهتم الانسان بطعامه المادي، ويحرص على ان يأكل افضل الاطعمة واكثرها فائدة، ولكنه عندما يريد ان يطعم دماغه بالطعام المعنوي نجده يتقاعس عن البحث عما يفيده، فيكتفي بما يسمعه من الاذاعات، وما يقرؤه في الصحف، سواء كان نافعاً ام ضاراً وهو لا يدري ان مثل هذه الافكار قد دخلت الى ذهنه ورسمت طريقة حياته من دون ان يشعر. وفي رواية عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قول الله: فلينظر الانسان الى طعامه. قال: قلت وما طعامه؟ قال عليه السلام: علمه الذي يأخذه ممن يأخذه.
إذن؛ طعام الدماغ هو العلم والثقافة، ونحن نتعرض الان الى موجات عنيفة ومتلاحقة من الثقافات الدخيلة، وفي مقابل ذلك نرى ان القرآن ما يزال غريبا بيننا ؛ انه يُتلى في مجالسنا ولكننا غافلون عنه، وكأن الخالق تعالى لم يقل: " وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْءَانُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الاعراف /204)، اي علينا ان نتدبر فيه فهو النور والبرهان اللذان اذا تسلحنا بهما لم تستطع الثقافات الدخيلة ان تدخل في اعماقنا.
الفيصل بين الثقافة الدخيلة والثقافة الحقة
وربّ سائلٍ يسأل: ما هي الثقافة الحقّة النابعة من الفطرة؟ وماهي الثقافة الدخيلة والغريبة عن الفطرة؟ وكيف نميز بين الثقافتين ؟
ان الثقافة الحقة هي الثقافة التي تدعوك الى تحمل المسؤولية، وفي مقابل ذلك فان الثقافة الباطلة هي التي تبعدك عن المسؤولية، وتبرر لك الضجر والتملص من العمل، والهروب من تحمل المسؤولية.
ان القرآن الكريم كثيرا ما يؤكد على هذه الحقيقة، فتجده يؤكد على مسؤولية الانسان في اغلب آياته وضرورة ان ينبذ الثقافات الدخيلة التي تبرر حالة الانفلات والتنصّل من المسؤولية، فمرة يحدثنا عن بني اسرائيل الذين قالوا ان الله سوف لا يعذبهم لانهم من اولاد يعقوب، أو لانهم ابناء الله واحباؤه! ويرد عليهم القرآن بقوله: " لَيْسَ بِاَمَانِيِّكُمْ" (النساء / 123) وفي مواضع اخرى يحدثنا عن النصارى الذين غالوا في دينهم فقالوا ان عيسى ابن الله لكي يخلصوا انفسهم من تبعة المسؤولية، في حين يجيبهم الخالق تعالى قائلاً: " يَآ أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللـه إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللـه وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَآ إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَاَمِنُوا بِاللـه وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُوا ثَلاَثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا الله إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِالله وَكِيلاً" (النساء /171). صحيح ان النبي عيسى عظيم وجليل القدر عند الله تعالى ولكنكم بحاجة الى الايمان حتى لو كنتم متمسكين بعيسى ومحبين له، فالايمان بهذا النبي وحده لا يكفي بل عليكـم ان تؤمنوا بالانبياء الذين يأتون من بعده.
وبالاضافة الى ذلك هناك فكرة تبريرية اخرى هي التذرع بالجهل وعدم المعرفة، والقرآن ينسف هذه الفكرة، ويأمرنا بالتعلم والبحث عن الحقيقة، وللأسف فان هناك اناسا حالهم كحال من يغلق على نفسه باب غرفته ويسدل الستائر، ثم يقول ان الشمس ليست مشرقة! ان القرآن الكريم يعالج قضية التكذيب من هذه الزاوية، ونحن الان في اوضاعنا الحالية نتعرض لثقافات دخيلة هي بالحقيقة امتداد لما عانى منه المسلمون في العصور الاولى عندما تعرضوا لثقافات بعيدة عن الثقافة الرسالية التي جاء بها الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، ثم تحولت الى مذاهب يعتنقها الكثير وما يزالون.
ثقافات تبريرية
من هذه المذاهب الدخيلة على الاسلام (المرجئة). يقول اصحاب هذا المذهب ان من حق الانسان ان يفعل ما يشاء دون ان يفكر في اخرته، وهناك مجموعة اخرى هم من الغلاة في الدين، يرون ان مصير الناس كلهم الى النار، وان فاعل الكبيرة كافر. هذه الفكرة هي الاخرى مصدرها عدم الشعور بالمسؤولية لانهم كانوا يتقوقعون في بيوتهم.
وهناك فكرة أخرى تدعى (القدرية) تقول ان اعمال الانسان كلها مصدرها الله تعالى! وفي المقابل توجد فكرة هي الاخرى قدرية يسمى اصحابها بـ (المفوّضة) تقول ان الله قد فوّض الأمور إلينا، فان شئنا ادينا فرائضنا الدينية، وان شئنا لم نؤدها، فنحن احرار في صياغة القوانين لانفسنا!
وهاتان الفكرتان تنتهيان الى فكرة واحدة هي (اللامسؤولية)، اي ان الله تعالى لم يأمرنا بشيء، فنحن اذن؛ لسنا مسؤولين، إنما هو تعالى المسؤول الوحيد، لانه اراد ان يبعدنا عن المسؤولية!
مثل هذه الافكار ما تزال منتشرة بيننا بشكل او بآخر، كقول البعض؛ ان هدف الذين يعملون في سبيل الله الرياء والحصول على المناصب والوجاهة الاجتماعية و.... فيتكلمون ضد الجميع لكي يبرروا تقاعسهم وتخلّفهم عن المسيرة، وهناك افكار سلبية اخرى تشيع في ساحتنا منها (الغلو) من خلال تكفير الناس كلهم، ومن خلال العجب بالاعمال، وسيطرة الغرور على النفس.
ان ذلك الانسان الذي يؤدي بعض الركعات من الصلاة، ويعمل ببعض المظاهر العامة للاسلام عليه ان لا يعجب بعبادته وصلاته وصومه، لانه لا يعلم هل يقبل الله منه عبادته هذه ام لا؟ ان الله سبحانه وتعالى يريد من الانسان ان يرسخ حالة التواضع فـي نفسه، فليس من الصحيح ان يمنّ العبد على الله تعالى بمجرد ان يؤدي الصلاة، وليس من الصحيح ان يأتي بالتبريرات عندما تتهيأ فرص العمل، وتتوجب عليه المسؤولية.
هناك من الجالسين في الخبايا والزوايا من يقيم اعمال الناس كما يحلو له، فيدخل افواجا في الجنة، وافواجا اخرى في النار. هذه ثقافة تبريرية، لان الساحة مفتوحة للجميع، وبامكان الجميع ان يدخلوها ويشتركوا فيها.
|
|