القمم الشامخة في النهضة الحسينية
|
*كريم الموسوي
مثل الناس في الحياة كمثل الجبل المرتفع الذي ترى فيه القمة العالية والسفح، ثم ترى السفوح الواطئة حتى تصل إلى الوادي السحيق. وهكذا الحال بالنسبة إلى الناس فالبعض منهم يعيش في القمة، وآخرون يعيشون في أعالي السفح وهكذا حتى تصل إلى فريق من الناس يعيشون في مستوى متدن.
فالذي ينظر من بعيد وبتمعّن إلى منظر كهذا، من السهل عليه أن يميز درجات الناس، ولكن الذي يجلس في موقع من مواقع الجبل فإن من الصعب عليه أن يميز موقعه، ربما يمكنه أن ينظر إلى من هو تحته فيدرك أنه أقل منه مستوى، ولكن هل يستطيع أن يميز من هو فوقه؟ في الواقع فإن القليل من الناس يستطيعون ذلك، فالأمر ليس بهين، ذلك لأن حب الذات، والأنانية المقيتة واعتقاد الإنسان بأن خطه هو السليم... كل ذلك لا يدعه أن يفكر في موقعه الذي هو فيه.
والذي يزيد الطين بلة إن غالبية الناس يعلمون أن هناك أناساً قد استقروا في أعالي القمم، وأنهم هم الحجة الذين ينبغي أن نحاول الوصول إلى مستويات قريبة من مستواهم، فنحن نعلم أن علينا الاقتداء بالنبي الأكرم صلى الله عليه وآله، حيث يقول تعالى: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أسْوَةٌ حَسَنَةٌ" (الاحزاب/21)، وكذلك الحال بالنسبة إلى الاقتداء بالأئمة الأطهار والأولياء والصالحين. ولكننا مع ذلك لا نعلم المستوى الذي نستقر فيه، وعليه فإننا لا نعلم حجم الجهد الذي يجب أن نبذله لنصل إلى تلك القمة.
عندما نقف أمام مراقد أنصار الحسين عليه السلام في كربلاء المقدسة يقول الواحد منّا: (فيا ليتني كنت معكم فأفوز معكم)، فنحن لا نفقه – في الغالب – ما نقول. ولا نعرف موقعنا بالنسبة إلى من نريد أن نكون معهم، ولو كُشف لنا الغطاء لعلمنا بأنهم في قمة شاهقة وأننا في السفح الداني، وعلينا أن نجهد انفسنا ونرتقي عالياً حتى نصل إلى القمة، فقد كان الواحد منهم مثل حبيب ابن مظاهر الأسدي يختم القرآن في ليلة واحدة، كان يبدأ بقراءة سورة الحمد عند أول الليل وينتهي إلى كلمة الناس في ثانية المعوذتين عند طلوع الفجر أو قبيله.
لنحاول أن نصل ٍإلى درجة الحر بن يزيد الرياحي -مثلاً- فإن صممنا على ذلك علينا أن نجرب بانفسنا ونتخيّل اننا في موقع قائد جيش أو ضابط عسكري تحيط به وسائل التضليل والتزوير والترهيب والترغيب، وحيث هناك عمليات منظمة لغسيل الدماغ سُلطت عليه ليل نهار، فصورت له أن الحسين عليه السلام شخص خارجي، وأن شريحاً قد أفتى بجواز قتله وذلك بأمر من خليفة المسلمين وأمير الكوفة، وأن الامام الحسين عليه السلام معارض للنظام الحاكم... كل هذه الأوضاع تدعو إلى اتباع الأوامر لأنك عسكري، ولكن عليك كإنسان أن تتجاوز هذه الأوضاع، وتثور على هواك فتنتصر عليه، وتنضم إلى جانب الحق. وهذا هو ما فعله الحر، فإن أردت أن تكون معه فأفعل ما فعله.
وإذا ادعيت إنك تستطيع أن تصل إلى درجة الأصحاب لأنك رجل مؤمن أو عالم دين أو خطيب مقتدر فجرب نفسك إذا ذهبت مرة إلى مجلس ورأيت خطيباً يصعد المنبر وقد إلتفّ الناس من حوله في حين أن منبرك لا يحضره إلا القليل، فقد تتساءل في هذه الحالة: لماذا ألتف الناس حول هذا الخطيب، وتفرقوا من حولي؟ وحينئذ ستوحي لك النفس الأمارة بالسوء بأنه ينتمي إلى الجماعة الكذائية، أو لأنه يكذب في كلامه، أو لأنه كذا... وكذا... وهكذا يوسوس الشيطان في صدرك حتى تكاد تصدق الأمر، ولكن إذا كنت مؤمناً حقاً فسرعان ما يرد إلى ذهنك نداء يدعوك إلى العدول عما وسوسه لك الشيطان، والعودة إلى ما يأمرك به القرآن.
وهكذا فإن هداية الله تأتيك في لحظات، وتمر عليك كالبرق الخاطف في الليالي المظلمة، فإن كنت ذا إرادة قوية فإنك ستتمسك بهذه الهداية، وتنقذ نفسك من الهلاك.
فإذا ما نُصبت - على سبيل المثال- إماماً للجماعة في مسجد ثم جاء آخر أفضل منك فعليك أن تختار التنازل عن هذه الإمامة لذلك الرجل لأنه أجدر بها، فأنت إذا ما تمسكت بحبل الله المتين فسوف يطمئن قلبك، وتستطيع أن تزيل النواقص الموجودة فيك. أرأيت كيف أن أصحاب الإمام الحسين عليه السلام ضحوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله؟ إن هذه التضحية لم تكن في مقدورهم ما لم يتجاوزوا النواقص البشرية والوساوس الشيطانية في أنفسهم، فالحر قد قتل نفسه الأمارة بالسوء في لحظة واحدة فتقدم نحو نور الهداية تاركاً وراءه الحقد والحسد وحب الرئاسة والانحرافات الأخرى، وكذلك بقية أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، إذ أنهم جاهدوا بأموالهم وأنفسهم. فالعباس عليه السلام كان راكباً فرسه ليل نهار يحمي أهل البيت، وعندما اقتحم بفرسه المشرعة مدّ يده الكريمة ليغترف غرفة من الماء ليشربها، فيدور في ذهنه ما يدور ويلقي الماء ويقول:
يا نفس من بعد الحسين هوني وبعده لا كنتِ أن تكوني
هذا الحسين شارب المنونِ وتشربين بارد المعين
والله ما هذا فعال ديني ولا فعال صادق اليقينِ
هذه هي الإرادة المثلى، فقس إرادتك على ضوئها، فأنت عندما تصوم في أيام الصيف فإنك تذهب لتغسل وجهك عدة مرات في اليوم، وتنام تحت جهاز التبريد، فهل يمكن أن تقاس إرادة العباس عليه السلام بإرادتك؟ ومع ذلك فإن من لطف الله تعالى أن لا يمتحن عباده بامتحانات صعبة دائماً، وذلك جاء في الدعاء القرآني: "رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ" (البقرة/286)، كما جاء به الدعاء أيضاً: (اللهم أني أعوذ بك من جهد البلاء). أما إذا كان إيمان الإنسان ضعيفاً، فإنه لا يستطيع أن يجتاز الامتحان وإن كان سهلاً.
من هنا علينا ان نستعد دائماً للاختبارات والامتحانات التي ربما تواجهنا بغتةً فاذا لم نكن مستعدين، ربما نسقط في الامتحان، ونكون بعيدين كل البعد عن اصحاب الامام الحسين عليه السلام، ويكون كلامنا وخطابنا في الزيارات مجرد كلمات لا معنى لها ولا مصداقية، وهذا مما لا يرتضيه محب وموالي للامام الحسين عليه السلام وهو يشهد حجم التأثير العميق الذي يتركه يوماً بعد آخر في النفوس الانسانية.
|
|