القرآن الكريم و دلالة التفسير بالرأي
|
*علي عبد الصمد
لا يتوقف الحديث عن المحاذير التي يدعي البعض وجودها في طريق من يعتمد على نفسه لاستبيان آيات كتاب ربه المجيد، فاي استنباط او استشهاد او استنتاج من آية قرآنية كريمة يُعد في اعتقاد هذا البعض (تفسيراً بالرأي)، والحل هو الاعتماد على التفاسير الموجودة في المكتبة القرآنية، وما أقلّها قياساً بالحاجة الثقافية والفكرية الواسعة والكبيرة للمسلمين في العالم، ولحجم المتغيرات والتطورات المستمرة على أكثر من صعيد.
ولكن هذا الزعم لا يستند الى المنطق أبداً. إذ ان الله تعالى أعلم بكتابه وبخلقه، حيث أمرهم بالتدبر في آياته. بل حيث خاطب بالقرآن كل انسانٍ، وفي كل أرض وفي كل عصر. يقول سبحانه عن كتابه: "هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ" (آل عمران /138)، وهل يمكن أن يبعث الله بياناً للناس جميعاً، ثم ينهاهم عن فهمه او التدبر فيه، إذاً فما فائدة البيان؟
ان خطابات القرآن الكريم تهتف بالناس كافة وتقول: (يا أيها الناس)، أو بالمؤمنين جميعاً، وتقول (يا أيها الذين آمنوا). وهذا يعني أن الله يريدهم ان يسمعوا كلامه، ويتفهموه. فهل نستطيع ان نزعم بعد هذا انه لا يجوز التدبر فيه؟
ولا يمكن ان نقول ان الروايات تنهى عن التدبر الذي أمر به الله، بل الأكثر منطقية القول أن الروايات نهت عن شيء، والآية أمرت بشيء آخر، أو ان الروايات بينت حدود التدبر التي لا يجوز التجاوز عنها. فأي شيء نهت عنه الروايات؟
الواقع ان على الانسان ان يتبع الحق الذي يعرفه ويدع الذي لا يعرفه، إن الله سبحانه يقول: "ولاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ والفؤادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الاسراء/36).
وكذلك لا يجوز للانسان حسب شريعة الاسلام أن يقول شيئاً لا يعلم به، قال سبحانه: "وَأَن تَقُولُوا عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ" (البقرة/169)، وقد عدّ القرآن القول بغير علم كبيرة يعظمها الله ويستحقرها العباد، فقال تعالى: "وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ اللـه عَظِيمٌ" (النور/15).
ومن هنا لا يجوز ان ننسب فكرة او عملاً لأحد ما لم نتأكد يقيناً انتسابهما إليه. كذلك لا يجوز تفسير كلام أي فرد إلا بعد التأكد من إرادته فعلاً لما نفسره، والا عُد ذلك نوعاً من التحريف في كلامه وضرباً من التهمة.
وتشتد خطورة الأمر بالنسبة الى البارئ عزّ وجلّ، فأي قول ينسب إليه يجب ان نتأكد بالعلم اليقين أنه قاله، وإلاّ كنا قد افترينا عليه تعالى كذباً، فقال سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللـه الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ" (النحل/116). وكذلك أي تفسير لكلام الله المجيد لا نعلم يقيناً مطابقته للواقع يعد نوعاً من الافتراء على الله، لأنه يعد ضرباً من نسبة القول إليه دون التأكد من ذلك.
وكان في الأمة الاسلامية - ولم يزل- فريق يريد استغلال الدين لمصالحه الشخصية، او يستخدمه لإثبات اهوائه المضلة، وهكذا يبدأ بتفسير الآيات القرآنية حسب آرائه الخاصة. هذه الفئة تريد ان تجعل كتاب الله تابعاً لأفكارها فيحمّلها ما لا يحتمل.
وقد أراد الإسلام تطويق هذا الفريق، فجاء في الكتاب "هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ ءَايَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَاُخَرُ مُتَشَابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَآءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَآءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءَامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلآَّ اُوْلُواْ الأَلْبَابِ" (آل عمران/7). هكذا وضح القرآن نوايا هذا الفريق الفاسدة ونهى بشكل قاطع عن تأويل القرآن للوصول الى الأغراض الفاسدة.
وجاءت الروايات تنهى عما نهت عنه الآية ايضاً، ولكن بتعبير آخر وهو (التفسير بالرأي) والذي يعني القول حسب الهوى الشخصي، وهو يقابل التفسير وفق الحق والواقع. وبالرغم من ان القول بالرأي بصفة عامة، وأن تفسير أي كلام منسوب الى احد - تفسيره- حسب الرأي هو الآخر محرم، فإن كل ذلك بالنسبة الى كلام الله الحكيم يعدّ أشد حرمة، لذلك خصت الروايات هذا الأمر بالذكر وهو غير خارج عن القواعد العامة. وإليك بعض تلك الروايات:
عن الامام الصادق عليه السلام: (من فسر القرآن برأيه إن أصاب لم يؤجر، وان اخطأ فهو أبعد من السماء).
و روي عن النبي الأكرم صلى اللـه عليه وآله وسلم: (من فسر القرآن برأيه فأصاب الحق فقد اخطأ). و روي عنه ايضاً أنه قال: (من فسّر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار).
اذن؛ هناك حقيقة لا ريب فيها، هي أن القول بالرأي - خصوصاً في تفسير القرآن الحكيم- حرام أشد ما تكون الحرمة.
ولكن لا يرتبط ذلك بالتدبر في القرآن، إذ التدبر هو: التفكير المركّز في الآية لمعرفة الحقيقة التي ذكر بها معرفة تعيينية.
فالتدبر إنما هو لتحصيل العلم بالقرآن، حتى لا يقول الانسان برأيه في تفسير القرآن وإنما بالعلم. وهذا يفتح الطريق المضيء أمام المتبصرين وأولي الالباب لأن يعيشوا القرآن الكريم في جميع شؤون حياتهم، ولا يشعرون أن كتابهم السماوي بعيد عن حياتهم ومشاكلهم ومتطلباتهم كما هو حاصل اليوم الى حدٍ كبير.
|
|