الوحدة الاسلامية .. شعار سياسي أم واقع حضاري؟
|
*عبد الخالق محمد علي
بعد أن كانت واقعاً يعيشه المسلمون في فجر الحضارة الاسلامية، أصبحت (الوحدة) اليوم مجرد شعاراً يرفعه البعض مجاملة تارةً، ولتحقيق مصلحة ما تارةً أخرى، فما أبعد المفارقة؟ وما أعظم الخسارة التي ربما لايستشعرها الغالبية العظمى من المسلمين في العالم بسبب غياب خيمة الوحدة عن رؤوسهم؟
ليس من قدر الأمة الاسلامية أن تبقى مفككة وممزقة، لأنها بحق "خير أمةٍ أخرجت للناس"، لكن بشرط "تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، (آل عمران /110)، أي إن حالنا اليوم هو نتاج ما فعلناه بالأمس، وهي معادلة ثابتة وسنّة إلهية في الحياة، فاذا كنّا نسمع بأن المسلم في بلاد اليمن أقصى شبة الجزيرة العربية يشدّ الرحال ويقطع المسافات وخلال فترة من الزمن يكون قد وصل الى الكوفة، ثم ينطلق بعد فترة استراحة ليتجه شرقاً نحو خراسان، وهو في هذا الطريق لا يجد أحد يعيق حركته أو يعترض على سفره أو يسأله عن سبب هذه الرحلة، فإنما كان المسلمون يقفون على أرضية صلبة من القيم والتعاليم الدينية. فالحلال في اليمن هو كذلك في الكوفة، والحرام في الشام هو كذلك في خراسان، مع بعض التفاوت في بعض الاجتهادات، ولأن قيم الأخوة الاسلامية والتعاون وغيرها من القيم الاخلاقية كانت سائدة الى حدٍ كبير في عموم البلاد الاسلامية.
إذن؛ عامل تفتيت سور الوحدة الاسلامية لم يأت بالكامل من الخارج، إنما هو صادر من الداخل الاسلامي، حيث السلوك والثقافة والفهم الذي أخذ منحىً غير الذي أتى به الاسلام ونصّ عليه الرسول الأكرم وأهل بيته الكرام خلال قرنين ونصف من الزمن، لكن هذا لايلغي بأي حال من الأحوال العامل الخارجي المتمثل في القوى الاجنبية المتربصة بالاسلام منذ العهود الأولى، حيث وجدت أن مصدر قوة المسلمين ومنعتهم في هذه (الوحدة) او بالأحرى الاعتصام بحبل الله تعالى جميعاً، كما أمرهم تعالى في كتابه المجيد وبكل صراحة و وضوح: "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" (آل عمران /103)، ولذا كان مجرد اسم (الجيش الاسلامي) ينشر الرعب والفزع في قلوب المشركين والكفار وأعداء الدين، وهذا الاعتصام لم يكن إلا من خلال كتابنا المجيد القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
إن القوى المعادية الرابضة خارج حدود البلاد الاسلامية لا تتمكن من التأثير على الواقع الاسلامي لا بالأمس ولا اليوم ولا في أي وقت آخر، إلا اذا كانت ثمة تمهيدات وأرضيات نعدها نحن بأيدينا لتلقي المؤثرات الاجنبية، لذا قبلنا بالحدود المصطنعة، والتمييز بين الأخوة المسلمين، واستأنس معظمنا للعناوين القومية أو العرقية أو حتى الطائفية الضيقة، وقد بلغ بنا أن تكون دولة اسلامية مثل تونس تفتخر وعبر وسائل الاعلام العالمية إنها أنجزت للمسلمين هناك وفي ظل حكم (الحبيب بورقيبة) إلغاء بند تعدد الزوجات في المحاكم، و إلغاء حق القيمومة للرجل على المرأة، وهذا البلد ما يزال يدّعي إنه من بين الدول الاسلامية، ويحتفظ بمقعد في منظمة المؤتمر الاسلامي، وقد ألغى بكل ثقة قانونين مصرّح بهما في القرآن الكريم ولا حاجة لأي تأويل أو تفسير.
* الوحدة في خدمة الانسانية:
إن تلاحم وترابط الشعوب المسلمة فيما بينها في مختلف بقاع الأرض، لا يعود فقط بالمنفعة على الدولة الاسلامية الواحدة، إنما ينعكس ايجاباً على العلاقات مع سائر شعوب الأرض، لسبب بسيط أن الخطاب سيكون واحداً والمعيار واحد أيضاً، فلا تكون هنالك سياسة لهذا البلد الاسلامي أو سياسة ربما مغايرة تماماً من البلد الاسلامي الآخر، وفي مقدمة المصالح التي تبحث عنها الشعوب الأخرى في علاقاتها الدولية، هي المصلحة الاقتصادية، وهذا ما يؤكد ما نذهب اليه، فأين التعامل مع بلد واحد بسوق محدود وبظروف غير مستقرة وباحتمالات كبيرة في الخسارة والانتكاس، من التعامل مع سوق ممتدة على أكثر من قارة، تضم بلاد وشعوب متعددة؟
وأجزم إن الشعوب الغربية اليوم محجوبة عن هذه الحقيقة الساطعة، فهي تتلقى في وسائل اعلامها الصورة السلبية المشوهة التي صنعتها الدوائر الثقافية والمخابراتية عن الاسلام والمسلمين، وهذا الاستغفال والتشويه تدفع ثمنه الشعوب الغربية قبل غيرها، فهي وبسبب تفاقم الازمات الناجمة عن سوء الفهم أو الهجمات الاعلامية التي تُشن ضد المسلمين بين فترة وأخرى، تتكبد خسائر اقتصادية كبيرة، وهذا ما لاحظناه فيما عُرف بـ (الإساءة الدنماركية) التي كلفت الدنمارك ملايين الدولارات عندما قاطعت دول اسلامية منتوجات هذا البلد بعد أن قبل أن تنشر صور مسيئة لنبي الاسلام (صلى الله عليه وآله) في صحفها، بالمقابل كم نجد الدول الغربية تنتعش وتشعر بالارتياح عندما تعقد صفقة تجارية أو اتفاقية اقتصادية وأيضاً علاقات سياسية وثقافية، مع البلاد الاسلامية.
من هنا نعرف إن وحدة البلاد الاسلامية لا يهدد بأي حال من الأحوال الشعوب الغربية ولا أي شعب في العالم، بل العكس تماماً فانه يعود عليه بالفائدة الكبيرة، لكن ليس الحال كذلك مع الحكومات والأنظمة، فهي ترى في عودة الاسلام الى ما كان عليه قبل هزيمة المسلمين المنكرة في (الاندلس) يُعد بمنزلة عودتهم الى عهد الضعف والظلام الذي كانوا يعيشونه في تلك الفترة. لذا فهم يهابون المسلمين أعزّاء أقوياء، ولعل السبب الأهم والأساس في القضية، هو خوفهم الكبير على شعوبهم من التأثر بالدين الاسلامي، وهو ما كان سائداً في العهود الاسلامية الأولى، حيث كان "الناس يدخلون في دين الله أفوجاً"، لما يجدونه في الاسلام من التكامل في منظومة الاخلاق والقيم الانسانية والاجتماعية، وما نشهده اليوم خير دليل على ما نذهب اليه، ففي الوقت الذي لا توجد دولة اسلامية واحدة ولا خطاب اسلامي واحد، لكن نسمع يومياً بدخول عدد غير قليل من مختلف الأديان والمذاهب الى الدين الاسلامي الحنيف، وإعلان برائتهم من كل ما كانوا يعتقدون به من أفكار ومعتقدات ضالة، بل ويؤكدون بعدهم في الماضي عن الحقيقة الناصعة الكامنة في الاسلام.
*لنعُد الى أنفسنا
كما أسلفنا، فان ما نعيشه اليوم من تداعيات واسقاطات على أكثر من صعيد هو مما جنت أيدينا، و حاشا لله تعالى ان يجعل قدر أمة من الأمم هكذا، وحاشا له ان يقدر هذه الاوضاع لأمة كانت "خير أمة أخرجت للناس". "وما ربك بظلام للعبيد"، فالداء كامن في أنفسنا، وكل مانعانيه اليوم من فقر وجهل وتخلف وتجزئة وتبعية وحروب داخلية انما منشأه من ضعف نفوسنا، وانطوائنا على ذاتنا وانانيتنا وحبنا للدنيا وتهافتنا المستميت على ملذاتها.
ولكن هل من سبيل الى مخرج، وهل للمشكلة من حل ؟
ان السبيل ممهد، وحل المشكلة يكمن في ان نتخذ قراراً لا رجوع عنه في ان نغير أنفسنا كما قال تعالى: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد /11)، وهذه هي السنة الالهية التي لابـد منها لكي تتغير الاوضاع، ولكن ماهي نقطة الانطلاق في هذا السير ؟
للاجابة على هذا السؤال الهام لابد ان نقول: ان تحقيق هذا الهدف ليس عسيرا كما يتصور البعض، فكل ما في الأمر اننا يجب ان نتحرر من اسر اليأس والقنوط حتى لانبقى مكتوفي الايدي فاقدي الثفة بانفسنا. فلابد لنا من العمل والحركة والمثابرة وشحذ الهمم. وإذا ما تحقق كل ذلك فلا مناص من ان يأتي ذلك اليوم المبارك الذي وعدنا الله سبحانه به، وحدثنا به منطق التأريخ، وهو اليوم الذي سترفرف فيه راية التوحيد على جميع ارجاء العالم الاسلامي، ويعيش فيه المسلمون تحت ظل العدالة والوحدة والسعادة والرحمة.
*السبيل الى الوحدة
لكن هل من الممكن أن تتحق الوحدة دون المرور بخطوات عملية؟ أو بالأحرى؛ هل تحقيق هذا الهدف الكبير يأتي من خلال مواقف وأعمال فردية؟ بالطبع كلا؛ إذن،كيف يمكننا ان نوحّد المؤمنين ليتوحد العالم الاسلامي ؟
ان تحقيق هذا الهدف ليس عسيراً، فبرنامج توحيد المؤمنين مرسوم في القرآن الكريم الذي حدد العوامل والعناصر التي تؤدي الى وحدة الأمة الاسلامية وتلاحمها. وفيما يلي سوف نتطرق بشكل مقتضب الى أهم تلك العناصر:
1- العقيدة والتوحيد؛ وهو الاعتراف والايمان بألوهية الله عز وجل وربوبيته وعبوديته وحده لا شريك له، ومن ثم الايمان برسله وانبيائه وكتبه، وكل ما يتعلق بالتوحيد والعقيدة واصولها وفروعها.
2- الايمان والاهتمام بالقيم والمبادئ، والتطبيق العملي لهما.
3- القرآن الكريم هو الكتاب الذي نتفق عليه جميعاً، وننهل منه في شتى شؤون حياتنا، فهو بمنزلة دستور وقانون موحد لنا. ومن الواضح الدور الكبير الذي من الممكن ان يؤديه القانون الواحد في توحيد الكتلة البشرية، خصوصاً واننا نرى اليوم الجهود والمساعي الحثيثة التي تبذل من أجل صياغة قانون واحد ومشترك يوحّد الشعوب في هذا العالم.
4- التاريخ المشترك والتراث الواحد اللذين يجمعان المسلمين.
5- المصير المشترك؛ ونعني به الهدف المشترك، والمسيرة الواحدة الذي يبلغ من الاهمية بحيث اننا لو ألغيناه فسوف لن يعود بامكاننا الوصول الى الهدف، وبلوغ الوحدة. فلابد للمسلمين إذن من نبذ الخلافات، والقضاء على التوجهات الفئوية، وألوان التجزئة من خلال المحافظة على وحدة الهدف والمسيرة.
|
|