الثقافة الرسالية وطريق التقدم
|
*علي جواد
منذ هبوب رياح الحداثة في أجوائنا الثقافية مع مطلع التسعينيات من القرن الماضي، وفي خط موازٍ تماماً لرياح العولمة في الأجواء الاقتصادية، وإنسان اليوم حائراً في الموقف الذي يقف عليه، والفكر الذي يتبناه.. فالاذهان مشوشة والرؤية ضبابية والقدرات شبه معطلة، لعدم وجود القيم والمبادئ التي تعبد الطريق أمام الانسان ليرى هدفه فيمضي نحوه قدماً، وهاتان المفردتان وليست شيئاً آخر، كانتا وراء كل ما يحتفظ به تاريخنا من انجازات ومكتسبات علمية وثقافية في العصور الذهبية حيث كانت هناك (حضارة اسلامية) على الأرض.
إن أول ما يقرّه الحداثويون اليوم للحضارة الاسلامية حملها مشعل العلم وضمير الابداع والتطور في المجالات كافة، ويكفينا فخراً ما نسمعه من تمجيد لـ(التراث الاسلامي) في هذا المسجد وذاك الجامع وهذا الموقع وذاك.. طبعاً نجد ثمة خشية من التراث العلمي والفكري الذي بقي لنا وإن كان ضئيلاً في حجمة، فهو غنياً في محتواه وجوهره.. كل ذلك يمكن التعرف عليه من خلال التقارب مع الأصالة للإطلاع على الجانب الآخر من الفكرة، وما أن نحط أقدامنا على ضفاف الأصالة تطالعنا ثقافة الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام)، وهي ذات الثقافة الرسالية التي اختطها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) منذ فجر الحضارة الاسلامية.
إن الثقافة الرسالية الأصيلة قادرة على حلّ جميع مشاكل الفكر والثقافة في عالم اليوم، وكل يوم.. لكن ما الذي يدعونا لهذا الادعاء؟ هناك أسباب نعتقد جزماً أنها حقيقية تؤكد الحاجة الى الثقافة التي رسم معالمها الإمام الصادق (عليه السلام):
*السبب الأول: الرؤية المشوّهة للتاريخ..*
كثيرة هي الحركات التي تحمل رؤية غير صافية وغير شفافة للتاريخ. فهي لاتفرق بين علي ومعاوية، وبين يزيد والحسين.. هذه الحركات أو التيارات التي لاتملك تمييزاً دقيقاً وتشخيصاً صحيحاً فيما يرتبط بالتاريخ، معرضة للابتعاد عن الطريق الصحيح والسقوط، ذلك لأن هذا الفكر المشوش والذي يحمل تناقضاته في ذاته لايمكنه أن يقاوم التحديات.
عندما نبث ثقافة مشوّهة ونثقّف الناس بثقافة مختلطة و تبريرية، تبرر-مثلاً- أعمال معاوية بن أبي سفيان وتقول بأن (معاوية رضي الله عنه) سبّ (علياً كرم الله وجهه)! أو تقول: بأن هذا قبر حجر بن عدي (رضي الله عنه) الذي قتله معاوية (رضي الله عنه)!! ثم لاتميز هذه الثقافة بين ذلك الإنسان الذي ضرب بسيفه بين يدي الرسول صلى الله عليه وآله وكشف به الكرب عن وجهه، وبين ذلك الذي كان طوال حياته يقاوم ويحارب الرسول ويشترك في كل الأعمال والمؤامرات العلنية والخفية ضد الرسول صلى الله عليه وآله، بل إن هذه الثقافة المشوّهة لتكاد تفضِّل أبا سفيان الذي قاد كل حروب قريش ضد الرسول صلى الله عليه وآله على أبي طالب مؤمن قريش الذي دافع و وقف إلى جنب رسول الله، وحينما توفي هو و زوج الرسول الأكرم أطلق على ذلك العام الذي توفيا فيه بـ (عام الحزن)، والشاب المعاصر الذي يواجه هذا الفكر عليه أن يطرح السؤال التالي: ما هو الفرق بين أنظمة طغاة عصرنا وبين نظام معاوية ويزيد وغيرهما من الظالمين؟
هذه الثقافة التبريرية المشوهة التي حاولت تبرئة الطغاة من بني أمية وبني العباس وما أشبه، هذه الثقافة يمكنها أن تنسحب اليوم على الواقع المعاصر فتجعل التمييز والفرز بين المؤمنين الرساليين وبين الحكام الخائنين؛ أي بين الحق والباطل، أمراً في غاية الصعوبة. الأمر الذي يكرس في النفوس الضعيفة والعقول البسيطة هذه الثقافة التبريرية حتى يكونوا في المستقبل أبواقاً تدعوا إليها، ومن ثم يتركون العمل الرسالي ويرفضونه لانه لن يوافق حينئذ عقولهم وثقافتهم التي يحملونها.
وحينما يختلط الدين بالتراث في ذهنية الإنسان ويعتقد بأن كل شيء قد مضى هو سليم ومقدس ولايحق لأيٍّ منا أن ينتقد أحداً من الماضين أو الاحداث الماضية، حينذاك نصاب بتشوش الرؤية. وهذا التشوش يؤدي إلى الإنهزام والانتكاسة، إذاً.. لماذا لانقيّم التاريخ بشجاعة تامة للفصل بين الدين والتراث، وبين تقديس الآباء والسلف بما فيهم من خير وشر وبين تقديس الدين؟ لِمَ لاتكون لدينا مقاييس واضحة ورؤية عميقة نقيّم بها الرجال بالدين ولانقيّم الدين بالرجال؟ ثم نستطيع بعد ذلك القول بأن هذا الإنسان على صواب وذاك على خطأ؟ إن من لايملك الشجاعة على النقد لايملك الشجاعة على التغيير، ومن لايمكنه أن يهدم الظروف والوضع المنحرف لايمكنه أن يبني وضعاً سليماً. والطامح الى تغيير الوضع المتخلف والمجتمع المتراجع عن الدين والاصالة عليه أن يبني عمله على مقاييس صحيحة، والثقافة الرسالية هي التي تميّز بين التراث والدين. فهي لاتعتبر كل الماضي مقدساً إلا بقدر ارتباطه بالدين وبالقرآن وبأهل البيت الطاهرين عليهم السلام.
*السبب الثاني: النظرة السطحية *
حينما تكون رؤية الإنسان مستوحاة من ثقافة أصيلة تغدو مواقف الفرد عندئذ من الأحداث والأشخاص سليمة أيضاًَ، لأن مواقفه مستوحاة من رؤاه ومن أيديولوجيته ومن ثقافته، أما من لم تكن ثقافته ناصعة، ولم يكن متعمقاً في الثقافة الرسالية، فإنّ مواقفه أيضاً ستكون فوضوية تفريطية وسطحية، أي أنه يتخذ مواقفه من الاشخاص والاحداث والقضايا السياسية وفق أهوائه، وهو بالتالي لايمكنه أن يتخذ مواقف واضحة، فهو يعادي اليوم شخصاً، ثم يواليه ويحبه غداً، و ربما يعاديه ثانية بعد غد! وتراه حينما يتحدث عن الحكومات فانه يمتدح الحكومة الفلانية اليوم، ويهجوها ويتهجم عليها ويشتمها بعد غد، لان أفكاره ومواقفه ومن ثم وكلماته غير موزونة جميعاً، وهو حينما يرى الناس ينادون بالتغيير ينضم إليهم، وعندما يجدهم قد انسحبوا ينسحب معهم.. وكما يقول المثل: (من جاء به الرجال ذهب به الرجال).
*السبب الثالث: منهج الثقافة المهزوزة*
إذا كانت ثقافة الإنسان واضحة، تهون أمامه سلبيات العمل والمشاكل التي تعترضه، لأنه قد صمم على تحقيق الهدف وهو مؤمن بالنصر، متيقن بصحة الخط الذي يسير عليه ولذا لايتأثر بالعقبات.أما إذا كانت الثقافة مهزوزة وغير متجذّرة فان مواقفه بشكل عام تكون هي الأخرى مهزوزة، وبمجرد أن يواجه الفرد أدنى مشكلة يتهرّب ولايوطّن نفسه على مواجهتها، لان هذا الأمر قد يخالف هوى نفسه ومصالحه الذاتية الخاصة. الأمر الذي يحدوه لمخالفة الشريعة التي تأمره بترك مصالحه الخاصة والعمل وفق العقل والارادة، وهذا يعود إلى ضعف ثقافته الرسالية وضعف ايمانه. والقرآن الكريم يصف هؤلاء الذين يخرجون على طاعة القيادة المؤمنة الحكيمة بـ (ضعيفي أو عديمي الايمان)، "فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً" (النساء/ 65).
فالذي يجد في نفسه وقلبه حرجاً أو ضيقاً من أحكام الشريعة عليه أن يراجع ايمانه، فهنالك من الناس من يشك في خطه ومسيرته عند أول مواجهة له مع المشاكل والعقبات بمجرد إستماعه لشبهة ما، إن الانسان الذي تستزله الشبهات الطفيفة والمشاكل الصغيرة أو بعض الآراء المخالفة لافكاره وعقائده و تحرفه عن الجادة، هذا الفرد عليه أن يعيد النظر في صلابة إيمانه.
ولذلك ومن أجل أن نكون بمستوى التحدي وبمستوى الظروف التي نعيشها والصعوبات التي نتعرض لها، علينا أن نتثقف بالثقافة الرسالية الأصيلة التي نستوحيها من حياة الإمام الصادق (عليه السلام)، ومن أجل هذا ينبغي علينا أن نتحدّى الظروف الصعبة ونواجه مشاكل الحياة بإيمان واستقامة.
إن مجرد أن تكون على الحق غير كافٍ، فلابد أن تكون أيضاً انساناً صالحاً وأن تأخذ بسنن الله في الكون حتى تنتصر. ومن سننه سبحانه وتعالى هو تطوير النفس، ومن أساليب التطوير التثقيف بالثقافة الأصيلة، حتى يغدو الإنسان ثابتاً على كلمة الحق كلما ضغطت عليه الظروف الصعبة، وتوالت عليه الأزمات الخانقة.
|
|