آفاق الوعي وفرص التقدم
|
*علي عبد الصمد
لكي يسمو الانسان المؤمن ويرتفع الى مستوى وعي وادراك القرآن الكريم وفهم الحياة التي ارادها ورسم خطوطها هذا الكتاب المجيد، لابد ان يعرف ان هناك آفاقا ثلاثة يتحرك في سموه من خلالها، وهي أفق التاريخ، وبعده أفق الطبيعة، ومن ثم أفق الانسانية .
أولاً: أفق التاريخ
ويعني ان على الانسان ان يغوص في رحاب الزمن المنقضي، ويلمس بوجدانه واحاسيسه تجارب الماضين وان يستفيد وينتفع منها، فلا يقتصر على تجاربه الذاتية، وعدم الاقتصار هذا من شأنه ان يزيد اعتباره من السابقين، وهذه الميزة هي من الفوارق الرئيسة التي تفصل الانسان وتميزه عن اي كائن آخر، فالحيوان كائن غير ناطق، ولايملك لغة التفاهم لكي يوصل ويوضح تجاربه لنسله، فلو افترضنا ان الحيوان يستطيع اكتساب التجارب فانها سوف تنتهي بموت هذا الحيوان .
ولكن الامر عند الانسان يختلف تماما، فقد منّ الله تعالى عليه بالنطق وقدرة الايضاح والبيان ومن ثم فانه يتوارث التجارب المنتقلة الى الاجيال المتعاقبة عبر نافذة التاريخ .
وفي القران الكريم نلحظ ونلمس قيمة تلك التجارب والعبر التي ينقلها الى وجداننا هذا الكتاب السماوي الخالد، ولعل هذه التجارب والقصص والعبر احتلت ثلث هذا الكتاب الالهي، ففيه نقرأ ونعيش تجارب الماضين؛ قصص ابراهيم ونوح ومن قبلهما آدم (ع) ومن بعدهما موسى وعيسى (ع)، والعشرات من الامم وانبيائها وتجاربهم وصراعهم المرير في هذه الحياة .
ففي القران الكريم الكثير من الآيات المباركة التي تشير الى هذه الحقيقة، وتدور حول محورها، فتخاطبنا بأنواع الخطاب مرة بـ "يا بني آدم" واخرى بـ "يا ايها الناس" وثالثة بـ "يا ايها الذين آمنوا" وهكذا. كل تلك الايات وغيرها تتوارد في القران الكريم وملؤها توجيه وارشاد الانسان وافادته بالعبر من الامم الغابرة والعصور السالفة .
ان الامة التي تتغافل عن تاريخها، ولاتتفحص جذوره، ليست أمة أصيلة، فالانسان الذي يعيش منعزلا دون ان يأوي الى كهف التاريخ فانه سيتهاوى ويضمحل، والانسان المؤمن الذي يطمح لان يكون انسانا رساليا يواصل الصعود على سلم التكامل، ويستهدف صنع الانتصار فوق ثرى هذه الارض، هو الذي يحيى ويعي آفاق التاريخ الشماء .
ثانياً: أفق الطبيعة
لابد للانسان من معايشة الارض وما فيها وما يدب عليها، فانت لست وحدك الذي تستفيد من شعاع الشمس، وتستضيء به، ولست وحدك تتمتع بنور القمر وتهتدي بالنجوم وتنال مما تنبته الارض مأكلاً ومشرباً وملبسا، فحولك تعيش المخلوقات الاخرى ويجب عليك ان تتكيف معها كي تحيا حياة طيبة. وعليه يؤكد الاسلام على الرفق بالمخلوقات الكبيرة والصغيرة، وايضاً على العيش بودّ مع جميع مكونات الطبيعة التي ابدعها وخلقها الله تعالى لخدمة الانسان وسخرها لخدمته.
وفي هذا المجال يقول الامام علي (ع) : (اعلموا انكم مسؤولون عن بقاع الارض)، فكل بقعة وطأتها رجلاك تأتي يوم القيامة لتكون شاهدة لك وعليك، وان على عاتقك مسؤولية تجاه هذه الارض، فكل ما في الحياة له قدر من الوعي والشعور .
ان الراسخ في اذهاننا ان الجماد لايفهم ولايشعر، فالصخور والجبال وربما حتى بعض الاحياء كالنبات، نتصور انها لاتفهم ولا تدرك شيئا من عالمها البسيط المحدود، ولكن الامر اعمق من ذلك بكثير، فكل هذه الجمادات تتمتع بنوع من الاحاسيس والادراك غير الذي نعرفه، ولها نوع من الشعور لايمكن ان ندرك كنهه لأن عوالم وعيها غير التي عندنا، ولايمكننا ان نفقه تلك العوالم بتجاربنا واحاسيسنا مهما تطورت وتقدمت .
قال سبحانه وتعالى: "تسبح له السماوات السبع والارض ومن فيهن، وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لاتفقهون تسبيحهم انه كان حليما غفورا" فكل شيء له قدرٌ من التوجه، وفي القران الكريم نرى في بعض اشعاعاته المباركة، يقول تعالى: "ولقد آتينا داود منا فضلا يا جبال اوبي معه والطير" ، فهذه الرواسي كانت تردد مع داود (ع) تسبيحه، وهذا المعنى مالا تتقبله عقول اولئك الذين تعلموا العلوم السطحية في هذه الدنيا، والذين لايؤمنون بما وراء الغيب، وانما يدركه اولئك الذين اوتوا الهدى والبصيرة .
ولقد كان رسول الله (ص) يجسد هذا المعنى في اقواله، وافعاله الكريمة، فقد كان يعطي لكل حاجة من حاجاته اسما كفرسه وبغلته وثوبه وعمامته وهكذا الحال بالنسبة الى ائمتنا (ع) فالامام زين العابدين (ع) كانت له ناقة، حج واعتمر عليها طيلة عشرين عاما، فما افزعها يوماً بصوت ولا ضربها .
وقد استفاد الغربيون من هذه الثقافة عندما توصلوا الى الكثير من الاختراعات والاكتشافات من خلال علاقاتهم الودّية بالحيوان، فبعد اكتشاف الطيران والاتصالات اللاسلكية يواصل انسان اليوم استثماره للحيوان في أمور الحراسة واكتشاف الجرائم، وجاء في تقارير علمية ان ما تفرزه العنكبوت من سائل وتصنع به شركها الدقيق لاصطياد فريستها، قد يكون وبكميات كبييرة طبعاً، ان يتحول ان مادة أصلب واقوى من الفولاذ لتصفيح السيارات ضد الرصاص!
ثالثاً: أفق الانسانية
الذين يتحركون ويعملون ويتنفسون ويشعرون يبلغ عددهم اليوم على وجه الارض أكثر من ستة آلاف مليون، انهم يشتركون في صفة الانسانية، فلايمكن لأي واحد منهم ان يحصر اهتماماته في ذاته او عائلته او حتى في اطار مجتمعه، فهذا الامتداد يجب ان يمتد الى كل أفق يحيى في نطاقه انسان، خصوصا اولئك الذين يعيشون هموم الحياة، ويعانون آلامها ومصاعبها الجمة، واعني بذلك المظلومين والمضطهدين والجياع في كل ناحية من نواحي هذه الارض المترامية، ثم ان لهؤلاء ايضا عقولهم ومداركهم وتجاربهم فيمكنك الافادة منهم انطلاقا من كونهم ابناء جنسك .
وهكذا لابد ان تعرف ما حولك، وتتصل بشتى المجتمعات، وتتابع اخبارها، فليس من الصحيح ان نتذرع في هذا المجال بأن اهتمامنا يجب ان يقتصر على بلدنا ومجتمعنا، بل يجب ان نتفاعل قدر استطاعتنا مع المجتمعات والامم الاخرى بالاضافة الى مجتمعنا وامتنا. وفي هذا الصدد يقول أمير المؤمنين (ع): (العارف بزمانه لاتهجم عليه النوائب)، ويريد الامام بذلك انك تعيش ضمن حياة معينة، ولابد لك من ان تكتشفها، وان تعرف العصر الذي تعيش فيه، والانتفاع من تجاربه .
لقد شيدت الحضارة الاولى على اسس الوحي الالهي الهابط من السماء نقيا صافيا، ومع ذلك يحثّ الرسول (ص) على المعرفة والاخذ والاعتبار من الآخرين، يقول (ص): (اطلب العلم ولو في الصين) ويقول: (الحكمة ضالة المؤمن اينما وجدها التقطها).
والانسان المسلم يمر اليوم بمرحلة حساسة في هذه الفترة الزمنية، فربما نكون غافلين عن احداث و وقائع تحدث في بلد من البلدان القريبة او البعيدة، وقد تقول : وما شاننا بهذا البلد او ذاك ؟ كلا... بل لك شأن بها، فهي تهمك، وترتبط بقضاياك المصيرية. فالحدث الذي يقع في اي موضع من العالم قد ترى تأثيره المباشر والسريع في الجهة الاخرى من الكرة الارضية، وذلك بفضل وسائل الاتصال السريع الذي يتمتع به العالم المتحضر اليوم. فالذي لا يترك تأثيره على أحد، سيجد تأثيرات الآخرين عليه وعلى افراد اسرته واصدقائه ومجتمعه. فيكون بالنتيجة طائعاً منفذا لما يرغب به الآخرون، وهذه حقيقة لا يماري أحد فيها اليوم في عالم يتموج بالافكار والثقافات المختلفة والمتنوعة.
وبما ان كل انسان سوي يرغب ان يقال له (واعي)، فانه لابد ان يأخذ بنظر الاعتبار هذه الأفق الثلاث فهي تجمع من مكونات أساس في حياته، وتجاهل واحدة منها من شأنه إبقائه في الخط المتأخر في مسيرة الحضارة.
|
|