قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

مزيج الولاية والشورى لمعالجة أزمة تشكيل الحكومة في العراق
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
العدالة هي لغة الخلق وميزان الخير وطريق الفلاح وسبيل النجاة، لان الله تعالى خلق كل شيء فقدره تقديرا وجعل لكل شيء قدرا وجعل لكل شيء أجلا، والعدالة تعني ان كل شيء يأخذ حقه منك ومن النظام الذي تؤمن به، لان الحق هو ضمير الخلق باجمعه، وهذه الحقيقة يصرّح بها ربنا تعالى: "وما خلقنا السموات والارض وما بينهما باطلا"، والعدالة تعني ان الحق يصل الى صاحبه، وهذا لا يختصّ بالانسان وحسب، إنما جميع المخلوقات تنظوي ضمن هذه المنظومة القيمية، فالاشجار المتنوعة والموجودة في حديقتك لكل واحدة منها حقٌ عليك بان تسقيها في الوقت المناسب وتعطيها حقها في الرعاية والاهتمام، أما اذا لم تطبق العدالة في الاهتمام بالاشجار وعموم المحاصيل الزراعية، ولم تف بحق تلك المزروعات فانها بدورها لن تفي بحقها، أي لن تقدم لك الناتج المطلوب ، فاذا كانت لديك مزرعة للشعير وأخرى للحنطة واخرى للرز، فانك لا تستطيع ان تسقي الحنطة مرة واحدة، انما لابد ان تسقي الحنطة اكثر من الشعير أما الرز فيحتاج الى وفرة المياه، لان هذا هو حقه. وكذلك الحال بالنسبة لبني البشر، ان قائد الطائرة لن يكون كالمضيف فيها، كما ليس الاختصاصي الكبير في مرض القلب او جراح القلب او الجمجمة كالممرض بالمستشفى، لكلٍ حق وقد فضل ربنا بعض الناس على البعض في الدنيا "وللاخرة اكبر درجات واكبر تفضيلا" وحتى الانبياء ربنا فضل بعضهم على بعض ولكل حقه والحق يسع الجميع والعدل هو ان تعطي الحق اذا اعطيت الحق فانت عادل.
العدل يواجه المدارس الفكرية الفاشلة
هذه القيمة المقدسة التي أنعم بها الله تعالى على المسلمين، يفتقدها العالم منذ قرون وما يزالون يعيشون أزمة افتقادهم للعدالة، بل يجهلون كيفية التعامل مع هذه القيمة، والسبب هو وجود حالتي الافراط والتفريط في ثقافتهم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وحتى اليوم لم يهتدوا الطريق الوسط والمعتدل بين الحالتين، علماً انهم جربوا في عالم الاقتصاد اكثر من مذهب ومدرسة اقتصادية ولم يفلحوا في تحقيق السعادة الحقيقية لشعوبهم. فهناك مذهب اقتصادي يرى بان الاقتصاد يجب ان يديره الاغنياء ويسمى بالاقتصاد الرأسمالي، وهناك رأي آخر يقول يجب ان تكون الثروة بيد الدولة واما الناس فلا يملكون شيئاً وهي الاشتراكية، تجدون انه خلال قرنين من الزمان وهما القرن التاسع عشر والقرن العشرين، كيف ان العالم جرب الرأسمالية ثم جرّب الاشتراكية، فتوجه الى الاقتصاد الذي يسمى باقتصاد السوق او اقتصاد العرض والطلب نحو اصحاب الثروات والرساميل، و ربما سُمي باقتصاد الرأسمالية، لأنه يعكس توجه اصحاب هذا المذهب الاقتصادي، فاذا بالعمال و الفلاحين يثورون نتيجة التفاوت الطبقي الفاحش وتعرض شريحة واسعة من المجتمع للظلم والاجحاف، فقد يأتي شخص واحد يورث حيواناً أليفاً في داره كأن يكون هرّة ملايين الدولارات، فيما الفلاح الذي يعمل عنده يموت جوعاً. ثم تبين للعالم الراسمالي ان هذا طريق خاطئ، ومن محطات اكتشاف الخطأ ما حصل قبل سنتين حينما انهارت بورصات العالم وبالذات بورصة نيويوك التي هي أم البورصات في العالم، حينها تبين لهم انهم في خطأ عظيم فبدأوا يعدلون نحو الاقتصاد الاشتراكي، وقالوا: نعم... ان الثروة تطغي، وكل شيء عندما يطغى لن يكون ذا فائدة، فالماء عامل حياة ولكن اذا طغى الماء فانه سيسبب الفيضانات الهائلة والمدمرة.
ومن أجل كبح جماح الرأسمالية والتخفيف من غوائلها وطغيانها، توصل علماء وحكماء العالم الى الآية الكريمة: "كي لا تكون دولة بين الاغنياء منكم"، بمعنى تكون هنالك ساحة مفتوحة بينكم تتداولون الاقتصاد مثل الكرة بين ايديكم ويكون الناس هو الضحية ويبقى الفقراء على فقرهم بل يزدادون بؤساً ثم ينهار الاقتصاد، وهذا المصير عمّ الاشتراكية ايضاً فقد اصطدمت تجربتهم بعد ثمانين عاماً بصخرة الفشل، وقد شهدت دول عظمى هذا الفشل الذريع للاشتراكية التي قدمها (كارل ماركس) الالماني، مثل الاتحاد السوفيتي السابق والصين وجميع بلدان اوربا الشرقية التي كانت تقع في السابق وايام الحرب الباردة ضمن ما يسمى بالمعسكر الشرقي.
لكن ما السبب في هذا الفشل؟ الجواب ببساطة؛ ان العامل أو المزارع لم يجد في ظل الاشتراكية حافزاً للعمل ما دام عمله يذهب للاخرين، والفلاح يزرع الطماطة ولكن لا يجوز له ان يأخذ واحدة لنفسه و يتذوقها! لكن ما ان تخلوا عن الاشتراكية حتى شهدنا الصين تنهض كعملاق ومارد يحسب له اليوم الف حساب في الاقتصاد العالمي، ويعد معدل النمو فيها الأعلى في العالم حتى أعلى من النمو في الولايات المتحدة، فقد اتضح للصينيين انهم يعملون وينتجون ثم تعود فوائد صناعاتهم واتعابهم اليهم.
إذن، جربت شعوب العالم النظرية الرأسمالية ثم النظرية الاشتراكية ولم يجدوا ضالتهم بل العكس، راحوا ينتكسون يوماً بعد آخر ويغوصون في مستنقع الازمات المالية والتجارية الخانقة، لكنهم وصلوا في نهاية المطاف الى العدل... وهو الخيار الاسلامي، فالاقتصاد في النظام الاسلامي يقول: الناس يملكون سواء الاغيناء منهم أو الفقراء، العامل يملك كما صاحب المعمل يملك أيضاً، ولكن لابد ان يدفع مقداراً من الضريبة، وتكون هناك قواعد عامة تحكم حركة هؤلاء الناس حتى لا يظلم بعضهم بعضا، و حتى يكون الحق هو الحاكم، استناداً الى القاعدة الفقهية المستندة على الحديث الشريف: (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام)، انه النهج الوسطي الذي يقول عنه ربنا سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: "وكذلك جعلناكم للناس امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا"، فالوسطية هي العدالة وهي بمعنى أن لا يظلم الغني العامل ولا العامل يسبب الضرر لرب العمل، وهنا تتحقق العدالة الاقتصادية.
مزيج الولاية والشورى
كما ان هنالك مخاطر ومحاذير من تكريس الاقتصاد والمال بيد شخص واحد، فهناك نفس المخاطر والمحاذير في حقل السياسة، وقد سجّل التاريخ أبيات ذلك الشاعر المتزلّف لذلك الحاكم اذا وقف امامه وقال :
ما شئت لا ما شاءت الاقدار أحكم فانت الواحد القهار!
معروف ان الانسان لن يملك نفسه يوماً أبداً، واذا به ببيت شعر يتحول الى الواحد القهار...! والسبب ان الشعراء يقولون ما لا يفعلون وهم الذين يزيفون الحقائق ويخدعون القلوب والجبابرة أيضاً، وفي العراق حينما كان الطاغية البائد حاكماً، بنى في مناطق متعددة من البلاد عشرات القصور، فيما الشعب العراقي كان يتحسّر على لقمة عشائه، وحصل ان سأله شخص ذات مرة عن سبب بناء هذه القصور، أجاب: من أجل ان تبقى معالم حضارية للشعب العراقي!!
وبنفس القدر الذي ثبت فيه خطأ الديكتاتورية والحكم الفردي، فان الديمقراطية الغربية هي الاخرى اصطدمت بأخطاء عديدة، فهي تقول بان الانسان له رأيه، وكل ما يراه هذا الانسان يُعد صحيحاً، وهو ما يسمى بالشورى او ما يسمى برأي الاكثرية من دون ضوابط وقواعد منطقية وعقلية، ولذا فان الحزب النازي الذي أتى بهتلر الى السلطة ومكّنه من قيادة حرب عالمية أحرقت الحرث والنسل، إنما فاز في انتخابات ديمقراطية بحتة، أي ان هتلر وحزبه صعد بآراء غالبية الناخبين من الشعب الالماني، لكن هذه الديقراطية لم تكن قائمة على أسس سلمية وعقلية، وإلا لما صعد حزب بافكار عنصرية تدميرية وحشد القوى للاعتداء على دول العالم وشن حرب عالمية ما يزال العالم يعاني من افرازاتها وتداعياتها بالرغم من مرور 65 سنة على انتهائها، ومن نتائج هذه الحرب ظهور دولة الصهاينة في فلسطين المحتلة. ومذاك، اكتشف المنظرون والمشرعون في الغرب خطأ اطلاق العنان للممارسة الديمقراطية دون ضوابط وقواعد وقيم واضحة لا تؤدي بالناس الى التهلكة.
من هنا فان الاسلام يؤكد لنا على أمرين أساسين في مسألة الحكم: الولاية والشورى، فقد جاء في القرآن الكريم: "وشاورهم في الامر ولو كنت فظا غليظ القلب لأنفضوا من حولك"، و في آية اخرى: "وأمرهم شورى بينهم" ولكن هناك الولاية الى جانبها، تقول الآية الكريمة: "إنما وليكم الله و رسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" وهذا المزيج بين الولاية وبين الشورى هو المطلوب.
ان القضية في غاية الأهمية، فالمسألة لا ترتبط بمفهوم الديمقراطية وحسب، إنما بروح الدستور او روح القوانين او ما يسمى بالفقه الدستوري، ونحن في العراق بحاجة الى فقهاء دستوريين يحددون المسيرة العامة لهذا البلد، بل كل بلد اسلامي بحاجة الى الولاية المتمثلة في عالم رباني مرتبط بالسماء يوضح ويبين للناس أمور الدين والدنيا ، فالانسان مهما بلغ من العلم والمعرفة يبقى بحاجة الى عالم واخصائي آخر ليحل أموره الاخرى، بل انه جاء الى هذه الدنيا ولا يعلم شيئاً، كما ان عقل الانسان ليس كاملاً، واذا كان كذلك وانه لا يخطأ لما كان الرب تعالى يبعث الينا الرسول بعد الرسول والنبي بعد النبي حتى ختمهم بنبينا الاكرم صلى الله عليه وآله، نعم... نحن نستطيع ان نعرف بعض الامور الصغيرة لكن الخطوط العريضة في الحياة وسنن الله في الكون لا نعرفها. إنما يعلم بكل ذلك هو الله وحده ولا يعلم الغيب الا هو تعالى، "وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو"، وعليه فانه تعالى بعث الرسل وأنزل الكتاب والميزان و فوّض أمر التزكية وتطهير القلوب الى البشر، وهذه لا يقدر عليها إلا العالم الرباني، ربما يقول البعض : ما حاجتنا الى العلماء...؟! للاجابة على هذه المحاججة نقول: إن كل انسان يتوجه بشكل عفوي الى المتخصص لتلبية حاجاته مثل الحداد والخباز والبناء وغيرهم، ويحتاج الى المتخصص لحل مشاكله مثل الطبيب الذي يعالج أمراضه او المحامي والقانوني الذي يدافع عن قضيته في المحكمة، ولن يحيد عن هذا المنهج والطريق لأنه عين الصواب والمنطقية، فاذا كان الامر كذلك، فهل من المنطقي ان يقول شخصٌ اني اقوم بواجباتي الدينية كما أرى ولست بحاجة الى متخصص يبين لي الصح من الخطأ؟
إن خطأ واحد وبسيط في أعمال الحج تبدد الانسان جهود وأموال وسنين طوال في الانتظار، وتنتهي المراسيم ولا يكون الحاج هناك (حاجّاً) حقيقياً كغيره من المسلمين الذين أدوا مراسيم الحج، فتكون الخسارة فادحة وكبيرة ولها أبعاد نفسية وتبعات شرعية. كذلك الحال بالنسبة لحقل العبادات والمعاملات، ولعل المعاملات من أكثر ما يصاب به افراد المجتمع حيث تتعلق المسألة بحقوق الناس. فأي خطأ او زلة في التعامل وتبادل الاموال ربما يؤدي الى عواقب وخيمة في حياة الانسان وبعد موته وتأخذ القضية ابعاد اجتماعية ونفسية وشرعية حيث يكون تعويض الخطأ أمراً عسيراً اذا لم يكن مستحيلاً بعد موت الغريم.
وكما ان علماء الدين مختصين بأمر الدين فانهم عارفون وعالمون بامور الدنيا أيضاً، وهذه هي المهمة الأساس التي اوكلها الأئمة المعصومون الى علماء الدين، وشددوا أن لا يتركوا الناس في حيرة من أمرهم، ولا يوجد في تاريخنا القديم والحديث ان تدخل العلماء في شؤون الدولة والمجتمع تسبب في فوضى واضطرابات ومشاكل، بل العكس تاريخنا تشرّف بمواقف خالدة لعلماء أعادوا للانسان الكرامة والحرية والاستقلال وأضاؤوا مشاعل الثقافة والوعي. بينما نلاحظ الافكار والمدارس الاخرى لم تقدم لبلادنا سوى الانقلابات العسكرية وفوضى التيارات الفكرية والاحزاب المتسربلة بالوطنية والمرتبطة بالاجنبي، وما جنته الشعوب هي الحروب والتشريد وبناء سجون ومعتقلات حديثة تضم آخر ابتكارات التعذيب والقتل!
علماء الدين.. وأزمة الحكومة
وفي العراق الذي يعيش منذ فترة ليست بالقصيرة أزمة الحكم ويقف أمام عقدة تشكيل الحكومة بعد اكثر من سبعة اشهر على اجراء الانتخابات البرلمانية، من الجدير بالمعنيين العودة الى العالم الرباني، وقد أنعم الله تعالى علينا بعدد غير قليل من العلماء الربانيين، وان كانوا محل استشارة في هذه الأمة لكانت الامور غير ما هي الان عليه، مثالنا على ذلك بريطانيا التي راجع فيها السياسيون الى الملكة وهي لا عالمة ولا ربانية... وذلك بهدف حل اختلافاتهم ، وفعلاً تم تشكيل الحكومة وانتهى الامر، إذن لماذا يكون عالم الدين في العراق بعيداً ولا دور له في تقرير مصير الشعب؟ انه قادر على ان يدل الناس الى طريق الصواب، فحتى من يسير في الشارع سواء راجلاً أم راكباً، ان اراد الاهتداء الى طريقه استعان بشرطي المرور فيدله على الطريق الصحيح، لذا نحن ضللنا الطريق بابتعادنا عن العلماء، إن أي خطأ يحدث وانحراف يحصل في هذا البلد، وأي ثغرة تحدث يتحمله اولئك الذين عارضوا العودة الى علماء الدين، انهم يقدمون اكثر مما يأخذون، فهم على طول الخط يجهدون انفسهم ويبذلون اعمارهم ليرتاح الآخرون.
ومن الناحية الاجتماعية يعرف العراقيون انه في حال حصول مشكلة ما فانهم يرجعون الى رئيس العشيرة وهو الذي يحلّها أو يفصل بين المتنازعين وتنتهي المشكلة، وهذه الحاجة يؤكدها القرآن الكريم في (سورة ص) المباركة: "انا جعلناك يا داوود خليفة في الارض فاحكم بين الناس بالحق".
وفي الشق الثاني من الحل، يأتي دور المجتمع بكل شرائحه وفئاته، فلابد من استنطاق عقول الناس ومعرفة حكمة البشر لتكون رؤاهم وافكارهم وابتكاراتهم مكملة للولاية الإلهية، فلا يمنع من وجود الشورى والديمقراطية، وهي ساحة مفتوحة للتفكير والتخطيط، وفي الوقت نفسه يرجعون في امور دينهم الى العالم، وفي هذا الوسط يكون للعلماء دور المستشار والموجه والناصح لاختيار القوي الامين والحفيظ والفرد الزاهد والعابد الذي يتولى تصريف أعمال الناس بالحق، واذا وجد الناس هذه الصفات في شخص ما فان البلد يكون في خير .
نحن نريد ان نؤسس لمجتمع ينعم يمزيج الولاية والشورى ، ولا علينا بمن يحمل عقدة نفسية من علماء الدين، أو من الشورى، إنما علينا بالتخطيط لمستقبل هذا البلد وحينما نخطط لهذا البلد ونكون على خط مستقيم، فهذا المزيج هو الذي يحقق العدل والحق والميزان في المجتمع.