الثورة الثقافية و ضمانات الاستقامة
|
*جعفر ضياء الدين
إذا ما كانت الأمة بحاجة الى (ثورة ثقافية) لتتخلص من نفايات الثقافة الدخيلة، فما هو الضمان الذي يمكن أن تعتمد عليه من اجل عدم تسرّب هذه الثقافة مرة اخرى في البديل الثقافي الذي تختاره الثورة؟ ولو لم يكن لنا هذا الضمان اذاً لاستوى الأمر قبل وبعد الثورة حيث لم يدعنا الى الثورة إلا وجود العناصر الغربية في هيكل الثقافة الاسلامية أو بالأحرى ثقافة المسلمين، ومع احتمال وجودها مرة أخرى تكون الثورة حركة عبثية.
بالحقيقة لا يمكننا معرفة هذا الضمان إلاّ بمعرفة الحقائق التالية.
1- ان الثقافة الاسلامية وحدة متناسقة تجري فروعها على اصولها، وتشهد اصولها على فروعها اذ ان الحق واحد يتداعم بعضه مع بعض فمن أي الزوايا دخلت اليه هدتك الى سائر جوانبه والى هذه الحقيقة يشير الحديث الشريف: (القرآن يفسّر بعضه بعضاً)، والحديث الآخر: (كلامنا يفسّر بعضه بعضاً، ومن هنا جاءت الضرورة بان يكون الموجه الثقافي محيطاً بالثقافة الاسلامية بشكل كامل، وهذه المعرفة والالمام في علمية التوجيه الثقافي تؤدي الى الالمام أيضاً بفقه الدين والاحكام الاسلامية.
2- تمييز الصالح عن الطالح في الثراث الثقافي والفكري للاسلام بحاجة الى عالم دين بلغ مرحلة الاجتهاد في مسيرته الدراسية، لأن التزوير والتهميش الذي اصاب الثقافة الاسلامية الاصيلة منذ العصر الاول للاسلام، خلق عقبات كؤودة في طريق معرفة هذه الثقافة بشكل مقبول لدى العقل و لدى الله تعالى ايضاً، فهناك الأحاديث المزورة، والتعابير المشبوهة، والارتباطات المعقدة، والوجوه المختلفة للكلام، كما هناك الكتب المطبوعة وغير المطبوعة غير الخالية عن احاديث غريبة، ثم هناك المقاييس العقلية التي لا بد من معرفتها لتمييز الصحيح عن غيره.
3- تُعد العدالة أساس ومنطلق التوجيه الثقافي لدى الفقيه المجتهد، هذه العدالة هي التي تحصن المعارف ضد الاهواء النفسية والانحرافات المحتملة. بمعنى ان المعرفة ليست كل شيء في التوجيه الثفاقي، اذ ان عملية العطاء في هذا المجال الحساس بحاجة الى قاعدة أصيلة تضع الثقافة الصحيحة في مكانها الصحيح. ولذا اعطى الاسلام للفقيه العادل حق التوجيه الثقافي إلى جانب ما اعطاه من حقوق التشريع والقضاء والتنفيذ، فحرّم الاستقاء الثقافي إلا من المرجع الذي تتوافر فيه شروط المرجعية فجاء في الحديث المأثور عن الامام الصادق (ع) وهو يفسر قوله تعالى: "و منهم أُميون لا يعلمون الكتاب إلا أمانيّ وان هم إلا يظنون" (البقرة /78) ويجيب عليه السلام على شبهة قالت: اذا كان هؤلاء قوم من اليهود لا يعرفون الكتاب إلا بما يسمعونه من علمائهم لا سبيل لهم إلى غيره، فكيف ذمهم بتقليدهم، والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلا كعوامنا يقلدون علماءهم، فإن لم يجز لأولئك القبول من علمائهم لم يجز لهؤلاء القبول من علمائهم ايضاً يجيب، يقول الامام الصادق عليه السلام: (بين عوامنا وعلمائنا وبين عوام اليهود وعلمائهم فرق من جهة، وتسوية من جهة، أما من حيث الاستواء فإن الله قد ذم عوامنا بتقليدهم علماءهم كما ذم عوامهم، أما من حيث افترقوا فلا).
قال السائل : بين لي يا ابن رسول الله، قال الصادق (ع): (ان عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصريح، وبأكل الحرام والرشا، وبتغيير الاحكام، عن واجبها بالشفاعات والعنايات والمصافقات، وعرفوهم بالتعصب الشديد الذي يفارقون به أديانهم –أي يخالفون اديانهم تعصباً- وأنهم اذا تعصبوا أزالوا حقوق من تعصبوا عليه، وأعطوا ما لا يستحقه من تعصبوا له من أموال غيرهم، وظلموهم من أجلهم، وعرفوهم يقارفون المحرمات واضطروا بمعارف قلوبهم – وهي العقل والوجدان- الى أن من فعل ما يفعلونه فهو فاسق لا يجوز أن يصدق على الله، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله، وهم الأنبياء عليهم السلام فلذلك ذمهم الله تعالى. وكذلك – والحديث له عليه السلام- عوام امتنا اذا عرفوا من فقهائهم الفسق الظاهر، والعصبية الشديدة والتكالب على حطام الدنيا وحرامها، واهلاك من يتعصبون عليه، وإن كان لا صلاح أمره مستحقاً، وبالترفق بالبر والاحسان على من تعصبوا له، وان كان للاذلال والاهانة مستحقاً، فمن قلد من عوامنا مثل هكذا فقهاء فهم مثل اليهود الذين ذمهم الله تعالى بالتقليد لفسقة فقهائهم. فأما من كان من الفقهاء صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه، مطيعاً لأمر مولاه، فللعوام ان يقلدوه، وذلك لا يكون إلا بعض فقهاء الشيعة لا جميعهم.
فأما من ركب القبائح والفواحش مراكب علماء العامة فلا تقبلوا منهم عنا شيئاً ولا كرامة...).
من هذا الحديث المفصّل والمطول للامام الصادق عليه السلام نفهم اموراً ثلاثة :
أ- ان الله قد ذمّ طائفة من اليهود لأنهم أميّون يقلدون في معارفهم وثقافاتهم علماءَهم الفسقة، دون أن يتعرفوا على الحق بأنفسهم.
ب- على الامة الاسلامية ان تخضع للتوجيه الثقافي، فلا يجوز ان تأخذ ثقافتها إلا من الفقيه العادل،
أما علماء السوء الذين يتّبعون الهوى ويعملون بالعصبية، فعلى الامة رفضهم والبراءة منهم.
جـ- ان التقليد في منطق الائمة الاطهار عليهم السلام يعطي معنى الاقتباس الثقافي، اذ أن هذه الكلمة جاءت في سياق الدلالة على (اخذ اليهود معارف الدين حول الرسالة من علمائهم)، ومعلوم أن امر الرسالة - ليس من فروع الفقه الاسلامي – بل أنه من أصوله وعقائده إلا أنه قد أوجب الإمام الصادق عليه السلام الرجوع فيه إلى الفقهاء ليس إلا لأنهم قد أحاطوا بكل جوانب الدين، فكانوا أجدر بالتوجيه و أولى بالاتباع.
العلماء ورثة الانبياء
يقول الامام الصادق عليه السلام كما جاء في (الكافي) و(وسائل الشيعة): (ان العلماء ورثة الأنبياء، - وذلك أن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً وإنما أورثوا احاديثهم- فمن أخذ بشيء منها فقد اخذ حظاً وافراً. فانظروا علمكم هذا ممن تأخذونه).
في نهاية هذا الحديث توجيه رشيد إلى أن العلماء الذين يمثلون الأنبياء هم وحدهم يملكون قيادة الامة ثقافياً، ولا يجوز للامة أن تعطي زمام القيادة الى دجّال محتال، لذا تضمن الحديث حثّ الامة على أن يتحروا هؤلاء العلماء أنى كانوا حتى يجدوهم فيتبعوهم.
وجاء في حديث آخر مأثور عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ان قال: (يحمل هذا الدين عُدُول ينفون عنه تأويل المبطلين وتحريف الغالين وانتحال الجاهلين، كما يُنفي الكير خُبث الحديد). ومن الواضح ان الرسول الاكرم إنما يخبر بذلك لكي يتوجه الناس إلى اولئك العدول، حتى لا يتأثر الدين بالتأويل والتحريف والانتحال.
وهذا يجيب على كثير من الاسئلة المتعلقة بالمشاريع الثقافية التي تقام هنا وهناك، فاذا كانت ثمة نية حقيقية وصادقة لرفد المجتمع بالثقافة الاصيلة المكونة لمنظومة السلوك والعادات والتصرفات وتحمل الهوية الاسلامية، لابد للقائمين على المشروع من اللجوء الى الطريق المؤدي الى ذلك، وإلا فان من يروم الساحل لن يسلك الطريق المؤدي الى الصحاري والقفار، مهما كانت الاسباب والاعذار، فالقضية لاتحتمل الخطأ، (والعاقبة للمتقين).
|
|