قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
على ضفاف (الغدير)...
عليّ (ع).. . السياسي في خدمة الدين والانسانية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *محمد علي جواد تقي
عندما نقف أمام (الغدير) اعتقد ان الجدير بنا ان نتقدم خطوة جديدة الى الامام بعد ان وقفنا سنوات طوال عند مسألة الإمامة والخلافة والزعامة التي تحددت لأمير المؤمنين عليه السلام، وهي جدارته بالحكم وممارسة العمل السياسي كما يصطلح عليه اليوم، صحيح إن حقيقة كون الامام علي عليه السلام خليفة النبي الأكرم في ادارة شؤون المسلمين، تُعد من الامور الجوهرية في عقيدتنا، ولن نسكت حتى أمام شخص واحد يبقى يشكك في ان حديث الغدير يؤكد أحقية الامام من غيره في الخلافة والحكم. لكن الصحيح ايضاً وجود حقيقة اخرى وهي ممارسة الامام علي عليه السلام للحكم والسياسة ولو بعد حين، وهذه الممارسة كما هي الولاية يوم الغدير، شعاراً يحمله كل مؤمن، فهي ايضاً شعاراً لكل من يروم تحقيق النظام العادل في الحياة، لاسيما المسلمون، وعلى وجه التحديد العراقيون الذين يحتفظون في تاريخهم شواهد من تلك السياسة العلوية التي قدر لها الله تعالى ان تتخذ من مدينة الكوفة مختبراً تاريخياً لها. لذا فان مسألة الحكم والنظام السياسي تصل بيننا وبين عهد أمير المؤمنين، وهذا ما دفع البعض لأن يتساءل: هل كان الامام علي بن أبي طالب عليه السلام رجلاً سياسياً؟ وهل ما قام به من اجراءات وما سنّه من قوانين خلال فترة حكمه لها صلة بالسياسة التي نفهمها نحن طبعاً؟
إن عبارة الاستدراك الاخيرة (التي نفهمها نحن) ضرورية في هذا السياق، لأن السياسة كوسيلة وأداة للحكم، كانت موجودة قبل عهد الامام بل وعهد الرسول الأكرم، فقد واكبت تطور الانسان في الحضارة والمدنية. في كل الاحوال، نحن في هذا المقال البسيط نسعى لأن نمخر في عباب المنهج الاسلامي المتكامل في الحكم والادارة الذي سنّه رسول الله وشيد اركانه وبين معالمه الرئيسة خلال العشر سنوات من ادارته شؤون المسلمين في المدينة المنورة.
أوضح الامام أمير المؤمنين عليه السلام ومنذ الوهلة الأولى التي كانت تقترب اليه الزعامة بانه أهلٌ للسياسة، لكن ليس من النمط الذي عهده المسلمون الذين تزاحموا حوله يطالبونه بالموافقة على تولي الأمر بعد ما حدث في المدينة وفي (دار الخلافة)، فقال مقولته الشهيرة: (لأن اكون لكم وزيراً خير من أن اكون عليكم أميراً)، انه اقرار واضح، فهل يمكن ان ينصّب الانسان نفسه وزيراً وهو لا يُحسن السياسة؟! إنها سياسة المشورة والنصح والابلاغ القائمة على المبادئ والقيم، وليست سياسة الملك التي تستمد قوتها من نوازع الانسان نحو التفرّد والتسلّط والاستئثار بالمال والصلاحيات السياسية والعسكرية.
ان مواقف عظيمة وقفها أمير المؤمنين خلال فترة حكمه الوجيزة هي التي تثير الأسئلة الحائرة لدى البعض؛ فلماذا رفض ارضاء طلحة والزبير وتلبية طلبهما بولاية البصرة والآخر الكوفة؟ ولماذا لم يصدر أوامره الصارمة بعدم الانجرار وراء خدعة المصاحف مما ادى الى ظهور فرقة الخوارج منذ تلك اللحظة؟ ولماذا قاتلهم ثم لم يجعلهم في عداد الكفار الخارجين عن الدين؟ ولماذا لم يلقي القبض على ابن ملجم وقد أعلن على الملأ انه قاتله بعد حين، أو على الاقل كان بامكانه ابعاده عن الكوفة...؟ وغير ذلك كثير من الاسئلة التي اعتقد ان من الواجب على كل محبّ وموالٍ للامام علي عليه السلام ان تكون لديه الاجابة عليها. لا ان يتركها للزمن تخوض فيها الاجيال وتكون سبباً للجهل السياسي والتسطيح في الوعي والثقافة.
كان عليه السلام يرى عبد الرحمن أبن ملجم أمامه لأيام متوالية في الكوفة ويقول له: أنت قاتلي...! وكان يكرر عليه هذا البيت من الشعر:
أريد حياته ويريد قتلي عذيرك من خليلك من مراد
فاسقط في يد أبن ملجم، فقال له: يا أمير المؤمنين اذا عرفت ذلك فاقتلني، فيجيبه الامام عليه السلام: لايحل ان اقتل رجلاً قبل ان يفعل بي شيئاً.
وقبل ذلك حصل نفس الموقف مع طلحة والزبير عندما أنبأهما بما يريدان فيما كانا يخرجان من المدينة، فسألهما عن مرادهما، فقالا: نريد العمرة... فقال لهم أمير المؤمنين عليه السلام: إنما تريدان الغدرة...! انه عليه السلام يفضحهما وجهاً لوجه، لكن هذا لم يكن دافعاً ومبرراً بان يمنعهما من التوجه نحو العراق وتحديداً البصرة لتحقيق مآربهما ومصالحهما الخاصة.
في كتابه (السياسة من واقع الاسلام) يشير سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – حفظه الله- الى سببين من جملة اسباب جعلت أمير المؤمنين عليه السلام يتخذ هكذا اسلوب في سياسته مع الرعية:
السبب الأول: الكرامة الانسانية..
يقول سماحته: (ان علم الامام الغيبي الإلهي لا يؤثر في سلوكه الخارجي – عادة- وإلا لم يتم الامتحان الذي لأجله خلق الله تعالى الخلق، ولم تتم الحجة التي لأجلها جعل الله تعالى الإمام). تقول الآية الكريمة: "قل إنما أنا بشرٌ مثلكم يوحى إليّ"، فالفارق الوحيد – ظاهرياً- بين النبي الأكرم وسائر الناس هو نزول الوحي عليه ليعلمهم الكتاب والحكمة.
ويذهب سماحته الى ابعد من ذلك في هذه الفكرة ويقول: (تماماً مثل سلوك الله تعالى مع البشر، وهو القادر على كل شيء، فلو اراد الله تعالى ان يدفع الظلم عن المظلوم ويأخذ بيد الظالم، فكيف يتم امتحان الناس)؟
وهنا تكمن الكرامة الإلهية للانسان حيث اعطاه الارادة والاختيار بعد ان سخر له كل شيء في هذه الحياة، حتى لا يبقى له عذر يومئذ عند الحساب، وهذا البحث يؤدي بنا الى التطرق الى علم الاجتماع وعلاقة الفرد بالمجتمع، لكن بالمحصلة النهائية، نعرف ان أمير المؤمنين عليه السلام وهو يقتفي أثر الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله في الحكم، اراد ان يكتشف طلحة والزبير وكذلك ابن ملجم وغيرهم طريق الضلال كما عرفوا طريق الرشاد بدايةً ولم يجبرهم الامام على مبايعته.
السبب الثاني: تحقيق الأمن..
وهو لا يقل أهمية عن السبب الأول، وهي قضية بحق تُعد من أعقد وأهم القضايا في عالم السياسة اليوم، فالأمن في الوقت الحاضر هو لأهل السياسة والحكم أولاً ثم يكون للناس العاديين، وهذا ما نجده في بلداننا الاسلامية بشكل جليّ، حيث إذا توفر الأمن والاستقرار يجب ان نعرف ان الحاكم يعيش الاستقرار والاطئمنان على كرسيه، والعكس بالعكس تماماً، وليس ما يمنع حاكماً من أن يتوسل بالاعدامات الجماعية او بأجهزة التجسس وتربية الوشاة والمدسوسين وتوسيع المعتقلات وتحديث اجهزة التعذيب لتوفير الأمن له أولاً. لكن لنلاحظ أمير المؤمنين وهو طريح الفراش من أثر ضربة عدوانية غادرة والضارب بين يديه ألقي القبض عليه، وهو يخاطب بني هاشم وبنيه، بأن (لا ألفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل علي...)!
جاء في رواية لأبي سعيد الخدري الذي شهد مع أمير المؤمنين واقعة النهروان انه سمع من رسول الله صلى الله عليه وآله، ينبئ اصحابه ومن يأتي بعده بالخوارج، وكان أحدهم قد اعترض عليه وقال له صلى الله عليه وآله: (أعدل يا رسول الله...)!! ولم يقتله في تلك اللحظة، يقول سماحة المرجع الشيرازي: (ان النبي الأكرم لا يقدم على قتل كل مفسد أو ضال او مبتدع قبل ان يتهيأ في الناس الجو لتحمّل قتله، بظهور فساده وضلاله وبدعته، لكي لا يسبب قتله فساداً أكبر من وجوده). كذلك فعل أمير المؤمنين مع كثير من أعدائه الذين كانوا يظهرون له العداء بأشكال متعددة، كان أبرزهم الحسن البصري الذي يكفيه ان سمّاه عليه السلام بانه (سامريّ هذه الأمة)، لكنه لم يقتله ولم يعتقله، علماً انه ليس فقط كان يعارض سياسة الامام، إنما كان يرمي لتخريب الاذهان وتشويه الحقائق، وقد حاوره الامام عليه السلام بعد حرب الجمل في البصرة عندما قال للامام سمعت هاتفاً يقول: (القاتل والمقتول في النار): فقال له عليه السلام: صدقت، أفتدري من كان الهاتف؟ قال لا، قال ذاك أخوك أبليس، وصدقك ان القاتل والمقتول منهما في النار...!
من هنا نجد ان الاجراءات العنيفة التي تتخذها بعض الانظمة التي يبدو ظاهرياً انها رادعة وشديدة ضد المعارضين او المخلّين بالأمن، وإن كانت تؤتي ثمارها في يومها، لكن على المدى البعيد نجد عودة المخلّين بالأمن او مظاهر الفساد بانواعه واشكاله في المجتمع، لأن هذا الردع او التصفية لم تتم باجماع المجتمع وبمشاركته وبوعيه إنما بالنيابة عنه، وهذا ما ثبت فشله، وطالما حاول أهل البيت عليه السلام تكريسه في واقعنا الاجتماعي. فالأمن والاستقرار قضية اجتماعية قبل ان تكون سياسية، وافراد المجتمع هم الذين يحققون هذا الأمر، ولتكن الدولة ومؤسساتها بمنزلة المشرف والمدير والداعم اللوجستي لهم.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في إحدى خطبه: (... وما معاوية بأدهى منّي لكنه يغدر ويفجر)، فاذا نرى اليوم السياسة تبتعد عن منهج أمير المؤمنين ومنهج (الغدير) بل ومنهج الاسلام، لأنها ابتعدت قبل هذا عن القيم الاخلاقية والانسانية، وإلا فان أهل البيت عليهم السلام هم أهل السياسة وادارة شؤون البلاد والعباد، وشعارهم: (لايطاع الله من حيث يُعصى).