قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

ليحمل حجاج بيت الله الحرام زاد التقوى هديةً بعد عودتهم الى ديارهم
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة إعداد / بشير عباس
بسم الله الرحمن الرحيم
"لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ" (البقرة /177).
صدق الله العلي العظيم.
لكل شيء في خلق الله ظاهرٌ وباطن، شاهدٌ مشهود، وغيبٌ مغيب. وبالرغم من ان الظواهر هي التي تستقطب اهتمام الانسان الا ان الحقائق التي وراءها هي التي تؤثر ولعل هنالك من الظواهر ما تخالف البواطن، مثال ذلك المنافق، يتظاهر بالدين وفي داخله يضمر العداء للدين والكفر، و ربّ منافق أشد ضرراً على المؤمنين والمسلمين من كافر. كذلك قد يأكل الانسان طعاماً فاسداً، ربما يكون طعمه طيباً، لكنه ملوث بالفيروس والميكروب، فبدل ان ينتفع الانسان بهذا الطعام سيلحق به الضرر.
كذلك هو حال شرائع الله، لها ظواهرها ولها غيبها وحقائقها، واذا اكتفى الانسان بما يظهر منها دون ما يفكر من دون ذلك فانه سينحرف انحرافا كبيراً ويضل ضلالا بعيداً.
ان الصلاة خير موضوع وتُعد قربان كل تقيّ ومعراج كل مؤمن، ولكن هل أي صلاة تتوفر على كامل الشروط ؟ القرآن الكريم يحدثنا عن صلاة أولئك الى جوار الكعبة المشرفة، تقول الآية الكريمة: "وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ" (الأنفال /35)، كما ان الصلاة التي لاتنهى عن الفحشاء والمنكر صلاة يسعى صاحبها من ورائها الى ان يتكبر او يتجبر على الناس، فهذه ليست بصلات مقبولة ولا نافعة له يوم الحساب.
اليوم نرى ان مظاهر الخير كثيرة في العالم الاسلامي ومتنوعة، الى جانب هذه المظاهر لابد ان نرى حقائقها، فاذا وجدنا الناس يولّون وجوههم قبل المشرق والمغرب ويتولّون شطر المسجد الحرام لأداء مناسك الحج، لابد ان نتساءل مدى اهتمامهم بحقائق الصلاة، هل هم يمنعون الماعون؟ وهل يحققون اهداف الصلاة من إيمان عميق و من عطاء للآخرين؟ أو ان هذه الصلاة لغاية أخرى؟ بل كيف يصلي الانسان الغني ويعرف ان هنالك فقراء يتضورون جوعا؟ بينما الهدف والغاية من الصلاة حسب مانقرأه في آيات مباركات من الكتاب المجيد، هو وصول الامة الى درجة التقوى، بمعنى وصول الامة الى حقائق الدين وليس فقط ظاهره. ربنا سبحانه وتعالى يقول في (سورة البقرة): "الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ" (البقرة /197).
ان الخطاب مباشر و واضح لحجاج بيت الله الحرام، بأن يحملوا هموم الامة الى بيت الله الحرام والى المشاعر وسائر المواقف المشرفة والى بعضهم البعض، وأن يتزودوا بالتقوى، والتقوى ليست مظاهر وانما حقيقة في القلب، بل هي روح الايمان، وفي آية اخرى حينما يحدثنا ربنا عن الحج في (سورة الحج) يقول: "وبشر المخبتين"، والمخبتون هم الذين وصلوا بتقواهم وبإيمانهم وبصلاتهم الى روح الايمان و روح التقوى وليس مجرد مظاهر. وفي آية اخرى حينما يحدثنا عن الشعائر وعن كثير من شرائع الحج يقول: "ومن يعظم شعائر الله فانها من تقوى القلوب"، إذن، فالشعائر هي وسيلة للوصول الى حقيقة الايمان وليس فقط الى مظهر الايمان.
هنا يجدر الوقوف عند بصيرتين:
البصيرة الاولى:
عندما يفد الحاج الى الديار المقدسة لابد ان يكون هدفه الرئيس هو الحصول على المزيد من التقوى و المزيد من الروح والمزيد من الحقيقة والمزيد من الغيب والمزيد من العرفان حتى يستطيع بعد عودته الى بلاده يغذي القنوات الايمانية في الامة، بمعنى ان يغذي الشعائر العامة بالاخلاص وبالتقوى، وهذا يتم من خلال مليوني انسان يحجون كل عام، ومن المرجو ان شاء الله من كل حاج سواء جاء من قرية أم من محلة او من دائرة حكومية او مؤسسة مالية او وزارة او مركز تجاري أو أي موقع آخر، أن يحمل معه بعد عودته عطر الايمان وعبق التقوى. يحمل معه روحا جديدة ويوزع هذه الروح على من حوله حتى يتزودوا منه، فهو يتزود في الديار المقدسة وعند البيت الحرام، ثم يتزود الآخرون من أهله واقاربه واصدقائه، مما كسبه من التقوى، وهذا هو الهدف من الحج، وهذا الهدف يتحقق كل عام والحمد لله ولكن لابد ان نسعى من اجل ان يتحقق هذا الهدف بصورة أسمى و أتم.
إن العالم اليوم بحاجة الى التقوى وبحاجة الى الاخلاص وبحاجة الى اهداف ابعد من المصالح الخاصة والضيقة، لابأس ببعض الاهداف المشروعة للانسان لكن لابد ان يكون وراء هذه المصالح مبادئ، فاذا كانت المصالح مجردة عن المبادئ، يحصل هنا الغشّ و الاحتيال بل والسرقة المتبادلة! فهذا يسرق من هذا، وذلك يسرق من ذاك، وبالنتيجة الكل يخسر، ليس حياته الدنيا ومصالحه وانما يخسر ايضا دينه وايمانه. إذن لابد من معالجة المشكلة... لنصفي نياتنا ونخلص في الاعمال، لابد ان يحب المؤمن لأخية المؤمن ما يحب لنفسه.
خلال أيام الحج يتعلم الحاج الكثير من الدروس والعبر الروحانية التي تحمله الى اجواء الايمان والعرفان الالهي، والحمد لله الحجاج كلهم يرتفعون الى مستوى جديد بالاندماج مع الاجواء الروحانية ومن تلاحم النفوس ومن تلاقي الارواح مع بعضها والى السمو عن الماديات، وعندما يطوف الحاج حول الكعبة المشرفة وحينما يسعى بين الصفا والمروة، وحينما يقف في المشاعر وحينما يفيض من حيث أفاض الناس وحينما يذبح الذبيحة ويرمي الجمرات، يشعر من وراء كل ذلك بانه جزء من الآخرين، ليس هذا فقط، بل حتى القضية تنطبق على الحيوان وعلى الطائر، وفي مكة المكرمة يلاحظ اعداد كبيرة من الطيور بعضها يمشي في الطرقات دون خوف، لأن هذا الطائر مطمئن من أن الانسان هنا لن يلحق به الأذى، إنه الأمن الإلهي الممنوح لهذا الطائر ولسائر الحيوانات فضلاً عن الانسان وهو أعظم حرمة من كل الخلائق.
كل هذه الاجواء الآمنة لابد ان تنتقل الى بلاد الحجاج بعد انتهاء مناسك الحج. لابد من تعميم ثقافة التعايش السلمي والعيش بأمان وسلام مع الآخرين، هنالك الكثير من الآيات القرآنية التي تحثنا على ذلك: "ياأيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كآفة"، "ان جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله"، فكما يخالط الحاج أخاه الحاج الآخر في الديار المقدسة، ويعيش أجواء الأمن والسلام والحفاظ على الحرمات، ينبغي ان نحافظ على حرمات الآخرين في بلادنا، ونحن نطالب في الوقت نفسه من الاخرين بان يحافظوا على حرماتنا.
إن الحياة التي يعمّها حب الخير للآخر تصبح حياة غنية ومفعمة بالسعادة والراحة والطمأنينة، وحسب التقارير الطبية فإن معظم الامراض التي تنتشر في العالم مصدرها التوتر والاضطراب والقلق، وهي موزعة على امراض ضغط الدم و تضخم القلب وامراض الكلية والكبد والسكتة القلبية ومرض السكري، والسبب وراء هذا الشدّ النفسي والعصبي هو ان كل واحد يريد ان يتغلب على الآخر، كما تقول الآية الكريمة: "ان تكون أمة أربى من أمة"، والمشكلة ان الانسان لا يقتنع ولا يريد ان يعيش شراكةً مع الآخرين على هذه الارض، علماً ان الارض بما فيها من خيرات عظيمة تسع الجميع، كما ان العدل والانصاف يسع الجميع، وهذه هي رسالة الحج و رسالة الحاج الى سائر الناس.
البصيرة الثانية: المسؤولية الجماعية
ان الناس في كل مكان تابعوا من على شاشات التلفاز مشاهد الحجاج وهم يطوفون حول البيت الحرام و يهللون ويسبحون ويكبرون ويلبون ربهم بهتافات (لبيك اللهم لبيك...)، وهم في ذلك كانت قلوبهم تعشق ان يكونوا مع هؤلاء، والحقيقة بامكانهم ان يكونوا كذلك بارواحهم، فان كان الحاج يطوف البيت الحرام بجسده فان بامكان المسلم الذي يشاهد ذلك من بعيد ان يكون معه بروحه لان الله سبحانه وتعالى جعل رضا الناس عن العمل كالعمل نفسه، و(الناس يجمعهم الرضا والسخط)، كما يقول الامام امير المؤمنين سلام الله عليه، ومعروفٌ أن عاقر ناقة صالح كان شخصاً واحداً لكن الله سبحانه وتعالى عذب قوم ثمود باجمعهم، لانهم رضوا بعمله فعمهم الله بالبلاء، كذلك الخير حينما يظهر الانسان الحب له و يتمنى ان يكون فاعله، فان الله يرزقه ثواب ذلك العمل، بمعنى يرزق الله ذلك الانسان ثواب الحجاج، ومن هنا نرى ان الكثير من الناس يذبحون الذبائح يوم العاشر من ذي الحجة وهو يوم العيد، وبالحقيقة هم يقومون بذلك تيمنّا وتبركا بهذا اليوم الذي هم يسمونه بعيد الحجاج، وفي يوم عرفه ايضا يقرأون دعاء الامام الحسين عليه السلام يوم عرفة.
ان الله تعالى يحدثنا في سورة البقرة عن قضية المسؤولية وضرورة تبنيها من قبل الجميع، وليس على فئة معينة، فهنالك مسائل عامة ترتبط بشخصية الامة الاسلامة، منها (البرّ)، يقول تعالى: "ليس البر ان تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين"، أي ان البر ان يكون الانسان مؤمناً بكل الحقائق لا أن يؤمن بشيء دون آخر، و مؤمنا بكل التفاصيل، لا يفرق بين نبي وآخر وبين ولي وآخر وبين خط ايماني وخط آخر، ثم تقول الآية الكريمة: " وآتى المال على حبه..." فهو يعطي المال لكن ليس من اجل الرياء والسمعة والتجبّر في الارض، انما على حبه، أي على حب الله تعالى، "ذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب واقام الصلاة"، والآية لا تقول هنا: (صلّى) لان الحديث في البداية عن الصلاة لكن هذه الصلاة غير تلك، فتلك صلاة ظاهرة، بينما هذه اقامة الصلاة يعني اقامتها بشروطها وتفاصيلها، "وآتى الزكاة والموفون بعهدهم اذا عاهدوا"، وهذه من اصعب الامور، فأن يفي الانسان بالعهد والذمة وان يكون صادق الوعد والعهد ويحترم الكلمة، تُعد من اصعب الامور حقاً، لا ان يتكلم بشيء ثم يذهب هناك ويكيد للآخر.
استوقفتني جملة في حديث شريف حول الوفاء بالوعد (... يدع البلاد بلاقع)، بمعنى اذا خالف الناس عهودهم ونقضوا مواثيقهم ولم يلتزموا بكلمتهم سوف تتحول بلادهم بلاقع أي الى صحراء خربة وقاحلة، لذا فان الوفاء بالعهد مهم، "والصابرين في البأساء والضراء"، ان الصبر مفهوم واضح، لكن حينما يواجه الانسان التحديات الصعبة خصوصا في الحروب الايمانية، هناك يكون للصبر معنى آخر، البأسا يعني الحروب والضراء يعني الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والفيضانات. لذا على الانسان ان لايخرج عن خط الايمان بمجرد تعرضه الى البلاء، اولئك الذين صدقوا هذا وقالوا نحن مؤمنون وكان ايمانهم صادقاً أولئك هم المتقون.