قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الشرك الخفيّ يهدد الإخلاص في العمل
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *خالد الأسعد
قبل أن يدخل الانسان في معترك الحياة بصورته الحقيقية، ترتسم أمامه أسئلة كبيرة تتعلق بمصيره وعاقبته التي تقف في نهاية مطافه. ومن أهم هذه الأسئلة هي: لمن يعمل؟ ومع من يعمل؟
ونتيجة لنقاط الضعف التي يحملها الناس – كطبيعة متأصلة فيهم وفق الحكمة الإلهية – نجد أغلبهم يحاولون التهرب من الإجابة عن مثل هذه الأسئلة، فهم لا يجدون حرجاً من أن يقولوا بأنهم يعملون لله وللناس وللشركاء وللأسرة وللوطن وللقومية و....! لكنهم في نفس الوقت يرسمون لله الخالق المطلق شراكة مرفوضة وإزدواجية خادعة تسبب لهم المشاكل والمتاعب، ليست على صعيد الحياة الدنيا فحسب، وإنما تستمر معهم الى الحياة الأخروية.
ليس بإمكان أحد فوق البسيطة إذا ما سُئل عن مصدر الوجود أن ينكره أو يدحض وجوده، بل حتى الكفار والمشركين وعبدة الأوثان يعتقدون إن الله تعالى هو وراء خلق السماوات والأرض، وهو المالك لكل شيء، ولكن المشكلة الكبرى والداء القاتل، أنهم يقولون بوجود آلهة أخرى غير رب العزة! و يزعمون أن هذا الإله أو ذاك يقربهم من الله زلفى؛ أي أنهم يمنحون أنفسهم صلاحية وحق تحديد مهام آلهتهم، وهذا شيء عجاب!
ويستدلون بوجود مثل هذه الفاصلة بين الله سبحانه وتعالى وبين الناس بصورة عامة بما هو موجود من علاقة بين الناس ورئيس البلد، حيث لا يتمكنون من مخاطبة الرئيس بصورة مباشرة دون قنوات أو وسائط، وهم بتصورهم الساذج هذا قد ابتعدوا عن الله تعالى وهم لا يشعرون، ففضلاً عن وضعهم لهذه القناة أو تلك فإنهم نسبوا لرب العزة نسبة لا تليق به مطلقاً، إنهم يجهلون جهلاً مركباً بأن الله سبحانه لا تحده الحدود، وأنه فوق الزمان وفوق المكان، وأنه المهيمن المسيطر، ولا تخطّئه الأصوات، ولا يحجبه سؤال عن سؤال، ولا يحتجب عن عباده بنور أو ظلمة، ولا تأخذه سنة ولا نوم؛ يحيط بكل شيء، سريع الحساب بصير بالعباد.
وفي هذا السياق يشير القرآن المجيد الى حقيقة أن المشركين "وما قدروا الله حق قدره" (الأنعام /91)، وقد نسوا أو تناسوا أن رئيس البلد – مثلاً – بشرٌ له إمكانات محدودة ومشاغل تعيقه كلياً عن مطالعة الأمور دفعة واحدة. وهذه الغلطة الكبرى، من إلقاءات الشيطان، ومن ثم ضرب الجهل والغرور ضربته القاصمة ليبتعدوا عن عبادة رب العالمين حق عبادته.
أزمة الشرك
إن أزمة الشرك لا تقتصر على المشركين – المصرّحين بشركهم – فحسب، بل تتعدى الى قلوب الذين يدّعون الإيمان، فهذا الكافر يعبد إلهاً ملموساً ومادياً، أما غيره ممن يعد نفسه في ضفة الإيمان فهو قد صنع إلهاً في داخل ذاته تبعاً لاحتياجاته وتقلبات ظروفه أو مستوى عقليته وتربيته.. فترى الواحد منا قد يعبد الرياء وقد يحترم الغني لغناه والسلطان لسلطانه.. إنه شرك يخفى على ذوي العقول الضعيفة والانفس الدنيئة، والله سبحانه وتعالى أدان اليهود والنصارى في قرآنه الكريم لشركهم هذا قائلاً: "اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله" (التوبة /31)، والإمام الصادق (ع) يقول في تفسير هذه الآية المباركة: (أما والله ما دعوهم الى عبادة أنفسهم، ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلو لهم حراماً وحرموا عليهم حلالاً، فعبدوهم من حيث لا يشعرون). وهذا يدعى بـ (شرك الطاعة وليش شرك العبادة)؛ أي تعبد إلهاً وتطيع إلهاً، ولعمري إن هذه الإزدواجية وهذا الضياع ما بعده إزدواجية وما بعده ضياع، فهو أول مايصيب في الانسان إخلاصه في عمله، ونحن نعلم إن أهم صفة أساس في مسيرة الانسان العامل في سبيل الله تعالى هي الإخلاص.
ولنا أن نتساءل: ما هو الإخلاص؟ وكيف نتعلمه؟
الأنا شركٌ خفيّ
ثمة قصة ترويها لنا كتب التاريخ، إذ كان البهلول وهو رجل الحكمة المتظاهر بالجنون يمشي في أحد الشوارع وعليه ثياب رثّة وإذا به يرى مسجداً يعاد بناؤه وما بقي على إتمامه إلا أن يضعوا على بابه كتيبة مكتوب عليها: "إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله و اليوم الآخر" (التوبة /18)، وقد كتب مع هذه الآية إن فلاناً هو الذي أعاد البناء، وكان واقفاً عند المسجد، فخاطبه البهلول قائلا: يا فلان...! لي إليك حاجة. فقال: وما هي؟ قال بهلول: حاجتي أن تكتب إسمي بدل اسمك فوق بوابة المسجد. فغضب الرجل غضباً شديداً وقال: ألا تستحي يا بهلول؟! إني إن وضعت اسمك فهو الكذب بعينه، فضلاً عن أنني قد صرفت المال الكثير وبذلت الجهد الجهيد حتى وصلت الى ما وصلت إليه.
وإذ سمع البهلول جواب الرجل ومنظر الغضب الذي استولى عليه، تركه بهدوء لم يعهد في ظاهره، ولكن الرجل كان يعرف في بهلول الحكمة تبعه متسائلاً غن مغزى حاجته؟ وبعد تمنّع قال البهلول: أردت أن أفهمك إن عملك هذا لم يكن لوجه الله سبحانه وتعالى خالصاً، بل كان لهذه الكلمات المسطرة فوق البوابة. فقال الرجل: بلى والله؛ ذاك صحيح.
وإذا ما نظرنا الى واقعنا نجد الكثير منا يقوم بأعمال عديدة زاعماً أنه يريد بها وجه لله عز وجل، ولكن ما أن يتعرض للإمتحان حتى يظهر النقيض لذلك وأنه لم يكن خالصاً. والأمثلة في واقعنا كثيرة، منها أن أحد المؤمنين بدأ بتشييد مسجد أو حسينية أو ألف كتاباً أو ذهب ليبلغ للدين، وصادف أن جاءه أحد من أخوانه لينافسه في تلكم المشاريع منافسة حرة شريفة مقترحاً عليه إتمام ما لم يتم، كأن قال له: أنت ألّفت الجزء الأول من هذا الكتاب فدعني أؤلف الجزء الثاني منه، أو قال له: دعني أتمم ما تبقى من أيام التبليغ – مثلاً- إنك ترى - والحال هذه- إن صراعاً نفسياً يبدأه أحد الطرفين فيبدأ بتوجيه التهم وتشويه السمعة و... وهو إذ يتصارع مع أخيه لا يهدف سوى إثبات أفضليته للناس.
من هنا فإن محاولات اثبات الـ (أنا) ليست إلا ترجمة لما هو مضمر في العقل الباطن من رياء وشرك خفي. وهذه الثغرة هي التي يبحث عنها الشيطان في نفس الانسان.
مراقبة الذات ومحاسبتها
كما اخترع علماء الطب وسائل لمراقبة البدن وما يتعرض له من طوارئ، فإن ذواتنا بحاجة أكبر الى مراقبتها. ولعل الطريقة المثلى لذلك هو أن نعرض أنفسنا على القوانين الإلهية لنعرف مدى التطابق والتوافق بينهما. فالقرآن الكريم وضح لنا معنى الحسد والرياء والغرور والتكبر، و وضح لنا بكل بيان العقاب الذي ينتظره الحسود و المرائي والمغتر والمتكبر. وبهذه المراقبة وبهذه المعرفة نستطيع أن نتوقى الكثير من الأمراض الروحية، وأن نعيش بكل سلام ضمن تطور إيماني متصاعد. فعلى مَ نتشاجر ونتصارع، لو أن كل واحد من المؤمنين يقرر في ذاته أن يكون عمله لله وحده؟ إننا بدراستنا وتدبرنا الآيات القرآنية الكريمة نكون على بينة من أمرنا دون أدنى شك. فالذكر الحكيم يؤكد: "وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون" (الفرقان /20) فإن اتخذ أحد الناس صديقاً أو عدواً أو زميلاً أو تلميذاً أو أستاذاً.. كل ذلك يسير ضمن سياق حكيم، رسمه الله لتكون له الحجة الخالصة على الخلق.