المعارضة... ضرورة في الحاضر وضمانة للمستقبل
|
*عدنان الصالحي
توصف (المعارضة) بمنحى إجمالي على إنها منظومة مراقبة ومتابعة ومحاسبة مستمرة للأداء العام، مبنية على ثوابت عقلية ومنطقية توجه الأفراد وتقوّم الأعمال وتنتقد الممارسات الخاطئة أو التي تتعارض مع القوانين والأنظمة، ومع مصالح الدولة والمجتمع عموماً.
ولكثرة تداول المفهوم في الجانب السياسي يتبادر الى ذهن السامع بمجرد إيراد كلمة (معارضة) على إنها مجرد المشروع المناهض لحاكم أو حكومة ما، هذا التصور لم يأت من فراغ بل إن تغطية الجانب السياسي على الحياة العامة رسم صورة رئيسة متحكّمة بباقي الميادين والجوانب الأخرى، وعلى الرغم من كون المعارضة جزءاً طبيعيا ترافق الأنشطة المختلفة في باقي دول العالم، إلا إنها بقيت في الدول الناشئة حكراً على الجانب السياسي فقط.
المعارضة في واقعها المنطقي تمثّل جزءاً جوهرياً يشارك في إنشاء الحالة المؤسساتية في الدول والمجتمعات والحكومات السليمة والقوية، وهي ليست محاولة للسيطرة على القيادة في أي جانب تتواجد فيه، إنما هي من طرق المشاركة في صنع القرارات او توجيهه بالاتجاه الصحيح من خلال امتلاكها وتفعيلها لما يعرف بـ (الثلث المُعطل) وبالمقابل يمكنها من تعطيل او تعديل او اعادة صياغة أي قرار لا يحظى بقبولها كونها تمثل شريحة معتد بها في أي مجتمع، ومعبرة عن مساحة معينة من الآراء.
تصورات خاطئة
يحاول البعض تصوير المعارضة على أنها تمثل (المشاغبة والمشاكسة وحب الشهرة والمظاهرات والعنف والاعتقالات وقلب أنظمة الحكم والخيانة والمقالات العنيفة في الصحف والخروج على النظام العام وشق الصف والصراع على السلطة، وتهديد الامن القومي و... وهذا من الخطأ الشائع، إنما المعارضة جزء أساس من قيام الدول والمجتمعات المتحضرة التي تعتمد على التعددية والتنوع في تحقيق الانسجام والتوازن، وهي قد تأخذ منهجاً اجتماعياً فتكون منظمات رقابة إنسانية، او تأخذ منحى حزبياً فتشكل معارضة سياسية او تأخذ صبغة دينية فتشكل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وبالمقابل فان إلغاء وتغييب المعارضة في اي جانب يسبب خللا في التوازن والبناء عموما وسرعان ما ينعكس بصورة سلبية على تلك الميادين بظهور الانحرافات أو التفرد والتسلط فيها.
وفي مبادئ الإسلام الحنيف التي أكدت على أصالة حرية الإنسان في أفعاله وأحواله لم تر أي حق للدولة يجيز لها حظر المعارضة أو إلغاءها بصورة مطلقة، كما لم تترك قضية حرية المعارضة مفتوحة وبلا ضوابط أو قيود، وإنما انتهجت سبيلاً وسطاً يكفل لنا حرية الرأي والنقد والمعارضة إلى جانب رعاية المبادئ وحفظ النظام، حيث أباح الإسلام عمل المعارضة وعدّه حقاً مشروعاً للجميع، ولكن بشرط أن لا تحمل السلاح وتهدد أمن الشعب بالفوضى والاضطراب وانعدام الأمن.
ولعل خير من مثّل احترام المعارضة وشرّع وجودها، الرسول الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حينما كان يقبل باعتراضات أشخاص مختلفين، رغم كونه الرسول المعصوم عن الخطأ بشهادة السماء، إلا إن ذلك لم يمنعه من الاعتراف بوجود المعارضة، وكان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهى أصحابه عن التعرّض لهم أو حتى إسكاتهم ومنعهم عن إبداء رأيهم والتفوه بكلمتهم، وعندما يعترض بعض الصحابة على هذه السماحة ويطالب بإنزال العقاب في شأنهم لأنهم يخفون شيئاً ويعلنون آخر، يقول في ذلك قولته المشهورة: (لم أبعث لأشق عن قلوب الناس، وإنما كلفنا ظاهر أمرهم)، وكذلك كان منحى أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (عليه السلام) تجسيداً لتلك السيرة العطرة بمنح المعارضة حرية العمل، والاعتراف لهم بحق الرأي ولم يتعرض لهم الإمام بسوء، بل كان يجري عليهم عطياتهم من بيت المال. رغم إنهم شنوا ضده الحروب المسلحة والكلامية العنيفة.
*سبب وجود المعارضة
إن إتباع الإنسان المعارضة ناتج عن انعكاس لتركيبة ذاتية وغريزية للنفس، ولعل عدم توافق الجميع على قرار واحد هي من حالات المجتمع الصحية شريطة ان تكون الأهداف المتسابق عليها تلتقي في نقطة واحدة وهي المصلحة العليا للدولة ككل، ويمكن إجمال أسباب نشوء المعارضة بـ:
1- حاجة الانسان في جميع الميادين للمراقبة والمتابعة من قبل الآخرين لتحقيق التكامل والتبادل والتكافل والتنافس.
2- ضمان عدم تفرد جهة ما بصنع القرار وتسيير الأمور وفق أرائها فقط.
3- عدم تهميش الاقليات التي لاتستطيع اسماع صوتها من خلال الوصول الى مراتب القيادة في مجالات الحياة.
4- إيجاد خط بديل يوازي ويجاري بعمله الخطوط الرئيسة لضمان توازن القوى.
5- التطبيق الواقعي لمبدأ حرية الإنسان في اختيار الجانب الذي يرغب في امتهانه او السير فيه.
6- تثبيت مبدأ التعددية في الأدوار والتداول السلمي للقيادة ومنع الاحتكار والدكتاتورية.
في المجتمع الديمقراطي المتحضر فان مفهوم المعارضة هو دليل العقلائية، فالعلاقة بين أي قيادة ومعارضة سواء على الصعيد السياسي أم غيره، يجب أن تكون علاقة حضارية تقوم على الاحترام المتبادل، ففي بنائها الصحيح تكوّن الحكومة احترامها للمعارضة كونها تشكل حكومة الظل المساندة لها بالرقابة والتصحيح، وفي قبال ذلك يجب أن لا تصب المعارضة جام غضبها على الحكومة وتحاربها لمجرد المعارضة فقط، بل يجب أن يمارس كلا واجباته حسب النظام العام والدستور والمواثيق الأخلاقية قبل كل شيء بما تضمن تصحيح مسار العمل الجماعي والوصول الى الأهداف بأفضل الطرق.
ومن اجل الوصول الى التزام الطرق الصحيحة في دور المعارضة و لغرض الابتعاد عن كل ما من شأنه تسفيه أهدافها واحتمالية ابعادها عن الساحة، فلابد لها ان تأخذ جوانب ثابتة قائمة على مصاديق واقعية في ما تحدد من اهداف. ويجب ان تكون نابعة من واقع حقيقي مرتبط بتواجد شعبي في المساحة التي تشغلها كي لا تكون ممثلة باسماء وهمية غير ذات اثر واقعي، وهذا بدوره يكسبها زخما كبيرا في تلبية مطالبها او في اتخاذها لقراراتها.
وفي هذا الجانب يقول المرجع الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله) في كتابه (الصياغة الجديدة): (يجب اتخاذ أسلوب التعددية السياسية والحزبية المتنافسة على البناء والتقدم، لا المتناحرة فيما بينها كما تعارف عند البعض في هذا اليوم حيث تشكلت فيهم أحزاب وجماعات تعمل بدل التنافس في الخير والتقدم، على ضرب بعضهم البعض، ومعلوم أن التسابق والتسارع لا يكون إلا بين جماعتين أو حزبين أو ما أشبه ذلك، مضافا الى انه قد ثبت في علم النفس: إن من أسس تقدم الإنسان والمجتمع هو التنافس والتسابق فيما بينهم، وليس الانغلاق على الذات والحكر على النفس، فان الانغلاق والحكر على النفس فرديا أو اجتماعيا يؤدي الى الجمود والتقهقر... ومنه يعلم، حق الإنسان في المعارضة الصحيحة، فإن الإنسان له حق أن يعارض الدولة بالمظاهرة والإضراب أو ما أشبه إذا رأى ذلك حقاً، لا أن يعارض لطلب منصب أو جاه أو شبههما من الأغراض غير الشرعية، وعلى الدولة أن تقابل المعارضين بكل لين ولطف).
ومما تقدم يمكن القول بأن المعارضة تقوم بعدة أدوار ووظائف إستراتيجية مهمة لا غنى عنها من أجل الحفاظ على التوازن الداخلي لنظام الحكم والحيلولة دون انفلاته عن المبادئ الديمقراطية الحرة التي تخدم الشعب وعدم الجنوح نحو الاستبداد الذي يحطم الشعب والبلاد، ويلغي وجوده بالكامل، ومن هنا يجب إيجاد معارضة إصلاحية في هدفها وليست انقلابية، وعدم هرولة الجميع خلف وهج السلطة التي قد لا تكون ناجحة بقدر نجاح المعارضة في كثير من الأحيان.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
|
|