بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
المبادرة الشجاعة نحو عمل الخير للمجتمع تغيّر المعادلات وتصنع التاريخ
|
*إعداد / بشير عباس
كلما تقدم المجتمع الانساني كلما زادت أواصر الألفة بينهم وزادت الاعمال الاجتماعية التي تعود اليهم جميعاً بالخير والمنفعة، فالانسان في بداية تاريخه كان في الصحراء يعيش على الصيد، فيصطاد ليأكل من لحم الحيوان وأيضاً يستفيد من جلده لحماية بدنه، كما كان يزرع ثم يحصد ويعتمد على نفسه في دورته الاقتصادية الحياتية. ثم تكونت العائلة ومن ثم العشيرة فبدأوا يعتمدون على انفسهم بنسبة تسعون بالمئة، وعشرة بالمئة يعتمدون على الاعمال التي تدر عليهم بالربح والذي نسميه اليوم بالنفع العام، وكلما تقدم الانسان يصبح العمل العام هو الاساس والعمل الخاص يأخذ حيزاً قليلا من حياته.
العمل الجماعي أساس الحضارة
من صفات المجتمع المتقدم هو ازدياد نسبة العمل الجماعي أو العمل بما ينفع الناس، على نسبة العمل الذي يصبّ في المصلحة الخاصة. وهكذا تألّقت الحضارة الاسلامية في فجرها الأول، فقد كان المؤمنون يبشرون بحضارتهم من خلال العمل الجماعي، وما يعود على الجماعة بالخير والمنفعة، والجماعة هنا تبدأ من الأسرة ثم المحلّة والحيّ السكني والعشيرة والمدينة و... سائر المكونات الاجتماعية الأخرى. وقد عبّر القرآن الكريم عن هذه الخصلة الحميدة والأساس في الحضارة في نهاية سورة الحج، حيث قال تعالى تعالى: "... وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ" (الحج /77)، ثم إن العمل الجماعي سيعود بالنفع والفائدة على صاحب العمل فضلاً عن المحيطين به أيضاً، ولذلك نجد الامام الصادق (عليه السلام) يقول: (من كفَّ يده عن الناس فأنما يكف يداً واحدة وتكف عنه مئة يد). إن المجتمع المسلم هو مجتمع الاحسان والخير والتعاون، ومجتمع العطاء الثرّ، فكل انسان فيه يفكر في الناس قبل ان يفكر في نفسه.
كانت الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) تدعو وتتضرع الى الله تعالى من اول الليل الى الصباح، وهي تدعو الله للمؤمنين والمؤمنات، ونجلها الحسن المجتبى جالس الى جانب محرابها، فيراها تدعو للجميع إلا لنفسها، فيقول لها: أماه...! من اول الليل الى الصباح، تدعين للمؤمنين والمؤمنات ولم تذكرينا في الدعاء ونحن اولادك، وكأن الامام الحسن (عليه السلام) كان ينتظر دعاء أمه له، فقالت له (عليها السلام): يا بني الجار ثم الدار.
إذن؛ فالمجتمع المتقدم ذو الصفات الحضارية هو ذلك الذي يكون الفرد فيه نائم في بيته آمنٌ مع أسرته وقد وفّر جميع حاجته الاساسية، ثم طابق بين وضعه وما يعيشه جاره المسلم، بحيث يطبق الحديث النبوي الشريف (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم). ويحصل إن يكون الانسان في بيته بحاجة الى ماء لاسيما في هذه الظروف القاسية التي يمر بها العراق، حيث الانقطاعات في جريان الماء بين فترة وأخرى، فعندما يذهب ويطرق باب جاره، يطلب منه قليلاً من الماء ربما لقضاء حاجة ملحّة، أو إزالة نجاسة الطفل، ثم يأتي الجواب: (ليس عندنا ماء....)!! ماذا يكون شعور هذا الانسان أمام ذلك الجار؟
من هنا نفهم وندرك مقاصد ومعاني ما تقوله الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فنحن أمام دعوة صريحة للتكافل الاجتماعي والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين من أفراد المجتمع، وإلا كيف يهنأ الانسان وهو يشرب الماء البارد وجاره عطشان؟ أو ذلك التاجر أو الموظف الذي يجد أن مصائر الناس بيده، فيفكر في نفسه وفي طريقة جمع المال الحرام على حساب حقوق الآخرين، انه لن يشعر بالهناء لأنه عمله ليس من شيم الانسانية. بينما اذا كان الهمّ هو انقاذ المجتمع ومساعدته على الأصعدة الثقافية والتربوية وحتى المادية، فانه سيسير بمجتمعه الى حيث الصلاح والإصلاح، لأن اذا صلُح المجتمع فهو سيصلح أيضاً بالضرورة، فالانسان يصلح بصلاح المحيط، أما اذا اقتصر الاهتمام بالنفس و الاقربين، وتم تجاهل المجتمع وتركه عرضة للمشاكل والصعاب والأزمات فان هنالك معادلة تجعل الجميع سواسية في العاقبة السيئة والنتيجة الكارثية، وهي التي يشير اليها القرآن الكريم في الآية المباركة: "وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الأنفال /25)، أي اذا حلّ العذاب والكارثة فلا تكون متقصرة على الذين ظلموا وأجرموا وسرقوا وحسب، إنما تشمل الذين يقولون أنهم (مظلومون) ثم سكتوا عن من ظلم، وكذلك الذين كفوا أيديهم عن العمل في سبيل الله.
العمل قبل التمنّي
جاء في الآية الكريمة من سورة المائدة: "قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" (التوبة /24)، هنا تساؤلٌ صريح من البارئ عزوجلّ حول اهتمام الانسان المحدود باسرته الصغيرة المتشكلة من الاب والابن والاخوان والزوجة والعشيرة، وأيضاً الأموال والتجارة، أولى وأهم من القيم والمبادئ الحقّة المتمثلة بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله؟
فان كان الجواب بالنفي وهو ما يقوله به الجميع، فالمؤمن يصرّح بانه يحبّ الله ورسوله، لابد أن تكون هنالك مصداقية لهذا الحب وانعكاس على السلوك والحياة بشكل عام، لا أن يكون مجرد تمنّي.
عندما يدخل الزائر حرم الإمام الحسين (عليه السلام)، ويقف خاشعاً أمام مرقده الشريف يخاطبه في الزيارة المعروفة: (بأبي أنت وأمي...)، إنها كلمة سهلة في اللسان لكن ثقيلة على المعنى والدلالة، فهي تعني: (إنني افديك بأبي وأمي أهلي وعشيرتي وكل ما املك)، فان كان هذا الكلام الذي يتلفظ به الزائر صدقاً، فيجب أن براجع أعماله ويطابقها مع ما قام به الامام الحسين من تضحيات كبيرة وعظيمة لخدمة الدين، وهل ياترى يحصل التطابق ؟ أم هنالك تباعد – لا سمح الله- ؟ وهل هنالك خدمة وتفضيل للدين والقيم والمبادئ على المصالح الخاصة؟ يقول الشاعر:
اذا اشتبكت عيون في خدود تبين من بكى، عمّاً تباكى
ففي بعض الاوقات أو المناسبات قد تُطفأ الانوار وتعلو أصوات البكاء من الحاضرين، لكن عندما تعود الأضواء نرى أن القلّة هم الذين ذرفوا الدمع على الخدود. إنه التمنّي والحب الفارغ من المحتوى.
الجهاد قبل فوات الأوان
إن الحبّ وحده لا يكفي، فهي حالة جامدة، لذا تدعونا الآية الكريمة الى الجهاد "وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ"، ولا يقول ربنا (وعملاً في سبيله)، إنما (الجهاد)، والجهاد ليس بالضرورة أن يكون بالسلاح وفي سوح المعارك، بل بمعنى بذل الانسان أقصى ما لديه من جهود وامكانات للعمل في سبيل الله، فاالذي يقول : أنا أحب الله ورسوله عليه أن يكون من المجاهدين، وفي غير هذه الحالة فأن الانسان سيكون محصوراً باهتمامه بأموره الخاصة من مال وشهرة ومنصب وغير ذلك، لذا يمكننا القول ؛ إن هذه الآية الكريمة تمس واقعنا وأزماتنا في العراق وفي كل مكان، فمن دون التفاني والعمل الجادّ في سبيل الله لن تكون هنالك علاقة لا بالله ولا برسوله ولأهل بيته الأطهار (عليهم الصلاة والسلام). وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة: "فتربصوا"، وهي تدلّ على الترقّب والانتظار لما سيحصل.
هنالك إشارات في الوقت الحاضر تنبهنا على أن الغضب الإلهي آتٍ في أي لحظة وباشكال مختلفة، تقول الآية الكريمة: "فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ"، فهل بالضرورة أن يكون الغضب الإلهي على شاكلة الدمار الذي حلّ بقوم لوط وعاد وثمود؟
قبل فترة تناقلت وسائل الاعلام ما حلّ بخليج المكسيك من تسرب البقع النفطية الكبيرة التي من شأنها تهديد البيئة بشكل خطير وتسفر عن خسائر بمليارات الدولارات، وفي شمال اوربا هنالك البركان الكبير الذي حصل في ايسلندا، وغير ذلك كثير من الكوارث الطبيعية أو التي تأتي من أيدي الانسان، فهي علامات وإشارات على أن الله قادر على تدميرهم شر تدمير، لكن على الانسان أن ينتبه بان الله رحيم بعباده ولا يريد الدمار والموت لعباده، بقدر ما يريد الامان والراحة والاستقرار، إذن، لابد من التنبّه والحذر وعدم التمادي في الانغماس في المصالح الخاصة والتغافل عن مصائر الناس والعباد.
يروى عن النبي نوح (عليه السلام) أنه كان ذات يوم نائماً تحت (بارية) من الحصير يتّقي بها أشعة الشمس، وكان نصف بدنه تحت الظل والنصف الآخر في الخارج، وبينا هو على هذه الحالة جاءه ملك الموت، وهو ملك عظيم وله مكانة عند الله تعالى، فعندما رآه على هذه الحالة يبدو أنه رقّ لحاله وهو يرى نبي عظيم وبهذه المنزلة الكبيرة، فقال له: يا شيخ المرسلين...! لقد عشت عمراً طويلاً تعدّى الالفين سنة، فما السبب في عدم بنائك بيتاً أو كوخ يحميك من حرارة الشمس وبرد الشتاء، فأجابه : يا عزرائيل...! إن الذي أنت ورائه كيف يبني؟
بينما نجد في الوقت الحاضر من يهتمّ بأسمه وبجماعته او وبأمواله ومصالحه الخاصة، لكنه غافل عن المقولة المأثورة: (لو دامت لغيرك ما وصلت لك)، يجب علينا أن نفهم ونستوعب هذه العبر، فاذا لم نفهمها نخسر الدين والدنيا والاخرة وكل شيء. فعاقبة (الفسق) ليست بسيطة وهيّنة على الانسان، فهي بمعنى خروج من اطار الدين والقيم الالهية، وذلك بعد أن يغلق الله كل المنافذ في ادمغتهم فلا يفقهون شيئاً، لهم أعين لكن لا يرون بها، ولهم آذان لكن يسمعون بها، ولهم قلوب لكن لا يفقهون بها، وهذا الخطاب موجه لكل انسان في مشارق الارض ومغاربها، ولكن الذي يلتقطها هم بعض المؤمنين ويسمعها ويلقي السمع وهو شهيد، وهو ذلك الانسان الذي له قلب متفتح، والى الطليعة المؤمنة والرساليين أولئك الذين يقرأون القران بتدبّر، واولئك الذين قلوبهم تحترق من اجل الدين، لكن لسان حالهم (إن العين بصيرة واليد قصيرة)، لكن مع ذلك عندما تحين ساعة التفضيل بين أمرين: بين العمل في سبيل الله أو العمل في سبيل المصلحة الشخصية، على الانسان أن يفضل الاول على الثاني، وأن لا يخدع الانسان نفسه، بانه يسعى لجمع المال بالطرق التي يراها مناسبة له، حتى وان كانت من خلال الربا وسرقة جهود الاخرين، ففي الآية الكريم يقول تعالى: "يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ" (البقرة /276)، أي بمعنى إن المال الذي يجمعه الانسان من الربا ومن أفواه الاطفال والايتام والارامل، يمحقه الله تعالى ويبيده، لكنه تعالى يربي الصدقات، أي انه ينمّي الصدقة الطيبة والعطاء حتى وإن كان بسيطاً، لأن الهدف كبير، فقد يكون في سبيل بناء مسجد او حسينية أو خدمة الناس وبناء مستشفى او مدرسة او أي عمل خيّر آخر، ولا يقول البعض: وما فائدة الاعمال الخيرية ؟ وماذا سنحصل من وراء ذلك؟ بل يجب على الانسان أن يقوم بواجبه الاصلاحي وبالامر بالمعروف والنهي عن المنكر تجاه المجتمع الاسلامي، وهذا ما يبارك الله تعالى فيه وينمّيه.
حصار غزّة.. مثال التضامن
إن الأوضاع المأساوية التي يعيشها المسلمون في مدينة غزّة مثالٌ بارز على ضرورة التضامن والتعاون على إغاثة المسلم ومواجهة الحصار الظالم الذي تفرضه سلطات الاحتلال الصهيوني منذ سنتين، فجميع المنافذ الحدودية مغلقة أمام أهل غزّة للوصول الى العالم والى مصادر الغذاء والدواء والمواد الاساسية، حتى أن تحرك (اسطول الحرية) نحو شواطئ غزّة وعلى متنه مجموعة من الرجال الشجعان، لكن وفي عرض البحر ارتكبت (اسرائيل) جريمة مروعة باقتحام وحدة من القوات الخاصة إحدى السفن وقتلت تسعة من افراد الاغاثة، وهي في ذلك مخالفة لكل المعايير الدولية والقيم والقوانين.
فنحن نسمع منذ فترة طويلة التنديد والاستنكار من بريطانيا ومن امريكا ومن فرنسا ومن المانيا و من غيرها من الدول، للحصار الذي تفرضه اسرائيل على هذه المدينة، لكن لم يحرّك هذا الاستنكار من الواقع شيئاً، بينما خطوة جريئة كالتي حصلت مؤخراً غيرت المعادلة برمتها، والحقيقة فإن الله سبحانه هو الذي غير المعادلة بقوته وعزته، فاصبح الكيان الصهيوني اليوم مداناً من قبل الجميع وفي موقع الدفاع أمام المجتمع الدولي لارتكابه هذه الجريمة، وربما هو في طريقه لحلحلة الحصار عن غزة إذعاناً للدعوات والمطالبات الدولية.
من هنا يجب على كل انسان أن يؤدي دوره بقدر ما يمكن، ولا يقول: ما شأني؟ وماذا عساي أن افعل؟! بل أن يقوم بدوره دون النظر الى الآخرين وما يقومون به، أو الظروف المحيطة به، ويكون توكله الى الله تعالى وحسب، لأن الذي يعمل من اجل خدمة الناس وانقاذ حياتهم لاشك أن يسدده ويؤيده الله تعالى بشكل أو بآخر، فأولئك النشطاء لم تكن وراءهم حكومات أو ميزانيات ضخمة، إنما هم مجموعة من الرجال المتطوعين أقدموا على هذه المبادرة ليبينوا للعالم إن التحدي يمكن أن يفعل فعله، حتى وإن كان في الطرف المقابل قوة متغطرسة و وحشية مثل (اسرائيل).
وفي التاريخ عشرات بل مئات الامثلة على ان الانسان الواحد حينما يقرر ويعقد العزم، فان الله سبحانه وتعالى يغير المعادلة، وهذا ما حصل في قصة طالوت وجالوت التي يبينها لنا القرآن الكريم، ومضمون الحكاية إن الله تعالى اختار لقوم داوود النبي طالوت ملكاً وقائداً عسكرياً لمواجهة الطاغية جالوت، وكان جيش الحق أفراد قلّة، فتوجسوا خيفة من هذه المواجهة غير المتكافئة، لكن الله تعالى قال على لسان أحد المؤمنين في جيش الحق: "كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ" (البقرة /249)، وكانت نهاية هذه المعركة وهزيمة ذلك الجيش الجرار الذي قاده الطاغية جالوت، أن النبي داوود ألقى بحجرة من بعيد على جالوت فاصابته في جبهته ومات على الفور، وانتهت المعركة لصالح جبهة الحق.
توصيات ثلاث
حوادث تاريخية كبرى حصلت غيرت المعادلة في مسيرة التاريخ كله، كان ورائها شخص واحد قام بمبادرة جريئة، وأبرز مثالٌ على ذلك – والأمثلة كثيرة عندنا من تاريخنا المشرق- ما حصل في واقعة (الخندق)، حيث قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله)، (ضربة علي يوم الخندق افضل من عبادة الثقلين)، أي إن الله تعالى جعل تلك الضربة الواحدة برفع السيف وانزاله من قبل أمير المؤمنين (عليه السلام) على رأس ذلك اللعين، بمنزلة المنعطف التاريخي الهام، كما انها غيّرت المعادلة العسكرية والسياسية في جبهة الاسلام آنذاك.
من هنا يجب أن لايستهين الانسان بنفسه وبطاقاته وقدراته وقد أعطاه الله كل شيء وأنعم عليه بما يعجز عن شكره، ومن أجل المضي في هذا الطريق واكتشاف الجواهر الكامنة في النفس، هنالك ثلاث خطوات ينبغي اتباعها:
الخطوة الاولى:
ينبغي لكل واحد منّا أن يضع أمامه ورقة ويكتب عليها ما يتمكن فعله والقيام به، لتكون بمنزلة المنهج والبرنامج العملي، ولا ينتظر المعجزة أو الحل يأتيه على طبق من ذهب، فلو كانت ثمة حلول فان آخرين ينتظرونها، وهو لن يكون الوحيد الذي يبحث عنها، وطالما يحذرنا القرآن الكريم من المبادرة والاسراع في عمل الخيرات: "وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ" (المنافقون /10).
كان النبي الاعظم (صلى الله عليه وآله) جالساً ذات مرة على الارض ويخطّ بأصبعه الشريف ثلاثة خطوط على الأرض، والاصحاب ينظرون اليه... يارسول الله ما هذه الخطوط؟ قال: هذا مثل ابن ادم... واشار الى الخط الاول، ثم اشار الى الخط الثالث وقال ان هذه امانيه واحلامه وتمنياته، وكان الاصحاب ينتظرون حتى يضع النبي يده على الخط الثاني، ثم قال وهذا هو الموت يفصل بين الانسان وبين أمانيه. لذا فان أي تأخير وتسويف في العمل سيضع الانسان أمام منكر ونكير في القبر وذلك خلال لحظات لا يتوقعها الانسان، فالموت محيط بنا جميعاً.
الخطوة الثانية:
على الانسان ان يبحث عمن يفكر مثله في اتخاذ الخطوات والمبادرات العملية على الساحة، من القيام بالأعمال الخيرية أو الثقافية أو التربوية أو أي عمل يصبّ في الصالح العام، إذ لايمكن مفاتحة أي شخص بمشروع إقامة جامع أو حسينية أو تشييد مكتبة أو الإسهام في بناء مستوصف، إلا اذا كان ذلك الشخص يحمل الهمّ الرسالي والشعور بالمسؤولية إزاء الآخرين، فيكون الحوار وتبادل وجهات النظر مثمراً.
الخطوة الثالثة:
التفكير الجماعي.. وهو الاجتماع بأكثر عدد من الأخوة المؤمنين لتدارس وتباحث شؤون العمل الاسلامي والرسالي، وبذلك يوصينا ربنا سبحانه وتعالى: "قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ" (سبأ /46)، وعندما يقول النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (من اصبح ولم يهتم بامور المسلمين فليس بمسلم)، بمعنى يجب أن نفكر بكيفية معالجة المشاكل التي يعيشها الناس لنكون مساهمين في الحل وفي عملية الانقاذ.
في الحرب الصليبية تعرضت مدينة القدس الشريف للاحتلال من قبل الصليبيين، فتوجه قائد مسلم لحربهم وحاز النصر والظفر واستعاد القدس من أيديهم، وعندما عاد هذا القائد المسلم من القدس، سألوه عن ملاحظاته ومشاهداته خلال الحرب وكيف حقق هذا النصر الباهر، - ونحن نسأل الله أن يعطينا قائد مسلم يفتح الله علي يديه القدس الشريف ويستعيده من أيدي الصهاينة الغاصبين- قال: وانا في طريقي الى فتح القدس وجدت امرين تيقنت من خلالهما إن الله تعالى سينصرنا، فقالوا: وما هما؟ قال: وجدت طفلاً لا تيجاوز عمره السبع سنوات يبحث عن قائد الجيش الاسلامي، فلمّا عرّفوه، جاء وألقى التحيّة وقال: أريد منك ان تعطيني خمسة نبال قرضة حسنة! قلت له يا بني.. وماذا تعمل بها؟ قال: لأشارك معكم في القتل وأواجه بها العدو، فانا عندي قوس جيد، كما أحسن الرماية لكن ليس عندي النبال، فقلت له: حسناً، إن أقرضتك النبال وذهبت الى المعركة وقتلت فأين سأجدك لأسترد منك القرض؟! قال لي: سأردها لك يوم القيامة ان شاء الله!
يقول: فعلا اعطيته خمسة نبال، وتوجه الى المعركة واستشهد. ويقول: فهمت من هذه الواقعة إن هذا الجيش الذي يضم هكذا اشخاص بحيث حتى الطفل يسعى للمشاركة فيه، فانه ينصره الله تعالى، فاذا لا يكون لأجل الجيش، فمن اجل هذا الطفل الصغير.
أما الامر الثاني: فقد رأيت إمرأة عجوز تركض وراء الجيش وهي تسأل عن القائد، فدلوها على القائد، فجاءت وأدت التحية والسلام، واعطتني قطعة قماش ملفوف، قلت لها يا أمي... ما هذا؟ قالت: في الحقيقة، رأيت الجيش الاسلامي يمر من أمامي فقلت هذا الجيش يذهب ويحارب من اجل الاسلام والدين وانا لا اقدم له شي! فبحثت عن شيء أشارك من خلاله معكم فلم أجد، فقطعت أجزاء من شعر رأسي وعملت بها على شكل حبل لتضعوه في ذيل خيولكم، - وكان هذا في السابق معمولاً به- لاكون بذلك مسهمة في هذه المعركة.
وعليه يجب على الانسان أن لا يفكر دائماً بالأمور الكبيرة، إنما يعمل على قدر طاقته وما يتمكن فعله، وربما العمل البسيط الذي يصدر من انسان، يبارك فيه الله سبحانه وتعالى، ويجعل فيه نجاة المجتمع والأمة، ولكل انسان دوره، الكبير له دوره والصغير كذلك، وكلٌ حسب مستواه الاجتماعي والعلمي والثقافي فالكل مسؤولون ومعنيون بالعمل والنشاط. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (كلكم راعٌ وكلكم مسؤول عن رعيته).
|
|