قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

تجليات العرفان في كربلاء
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *كريم الموسوي
ان كل حركة وكل ثورة في التاريخ تنطلق من أرضية ثقافية هي قاعدتها ومنطلقها وهدفها، وأبرز ما تتميز به حركة الانبياء عن غيرها انها تنطلق من قاعدة التوحيد، وبعبارة أخرى، انها حركات الهية تستمد شريعتها من الرسالة الالهية، وتستوحي برامجها من تلك الرسالة، ولكن تبقى هذه الكلمة عائمة من دون معرفة جوهر تلك الرسالات السماوية.
ان جوهر الرسالات الالهية هو الاتصال بالله تعالى، أي التسليم له سبحانه وتعالى، ثم الايمان به ومعرفته، ومن ثم الاتصال بنوره تعالى.
ان أصحاب هذه الرسالات وهم الانبياء ومن بعدهم والائمة (عليهم السلام) هم قياداتها الشرعيين، وأما قاعدتها فمتمثلة في المؤمنين الصادقين الذين تتصل أرواحهم بنور الله حتى لا تعد الدنيا تغريهم، رغم ما فيها من بهارج و زخارف، فينظرون الى الدنيا نظرة خاصة بهم تختلف عن نظرات الآخرين، فاذا نظر الناس الى الدنيا بوصفها شيئاً ثابتاً، فهم ينظرون اليها كونها معبراً خاطفاً وجسراً لهم الى الآخرة، والدنيا بالنسبة اليهم (مزرعة الآخرة)، كما جاء في الحديث الشريف، وكما ان الانسان لا ينوي البقاء في المزرعة، وإنما ينوي أن يزرع فيها شيئاً ثم يحصده ويذهب الى بيته، كذلك هم يريدون أن يجمعوا شيئاً من حصاد أعمالهم في هذه الدينا لتلك الرحلة الطويلة الشاقة التي يجب عليهم أن يسلكوها في الآخرة.. إنهم لا ينظرون الى أموالهم تلك النظرة الانانية والذاتية، وإنما المال في أيديهم أمانة، والاهل والاولاد ابتلاء وفتنة، والنعم بالنسبة اليهم بلاء، كما النقم بلاء، وكل شيء في الحياة بالنسبة اليهم امتحان وابتلاء واختبار لمدى إرادتهم وصمودهم، فهم لا يقسرون أنفسهم على هذه النظرة قسراً ولا يكرهون عليها ليقبلوها، إنما هي نظرة نابعة من عمق شعورهم ووجدانهم الحي وضميرهم المتيقظ ومعرفتهم بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وهذا الشعور وهذه المعرفة بدورها ناشئة باتصال أرواحهم بنور الله سبحانه وتعالى.
حينما نقول اتصال أرواحهم بنور الله، فان هذه الكلمة لا تفي بما تريد أن تعبر عنه، لان هذا الموضوع بالذات ليس مما يعبر عنه بكلمات أو بألفاظ، كيف نعبر عن النور لمن لم يجد النور، بل كيف نعبر عن النور لمن وجد النور، وأكتشفه ووصل الى كنهه؟
ان أية كلمة لا تستطيع أن تكون أوضح تعبيراً من وصول هذا الانسان الى النور ذاته، أما الذي لم يصل الى النور ولم يهتد اليه فانه كالاعمى، كلما فسّرت له كلمة النور كلما ازداد غموضاً عنده وابتعاداً عن فهم حقيقة النور، ويسأل ما هو النور؟!!
وكذلك حينما نقول: (الاتصال بالله) فان كل انسان قد يجد لحظات من الاتصال النوراني في حياته لا أقل في لحظات العسر الشديد، أو لحظات الانقطاع عن الدنيا، أو لحظات التبتل، ففي تلك اللحظات يعرف ونعرف ماذا يعني الاتصال بالله.
جاء رجل شاب الى النبي (صلى الله عليه وآله)، وإذا به أصفر اللون، غائر العينين، و وجده في حالة غريبة، قال: ياهذا ما بك؟! قال: يارسول الله.. انني لا أستطيع أن أنام لاني أسمع دائماً حسيس النار، وأرى نعيم الجنة وأجد نفسي دائماً أمام ربّي، وحينما ذهب الشاب، قال: النبي (صلى الله عليه وآله) لاصحابه: هذا عارف حقاً .. وصدق هذا الفتى.
وفي احدى الحروب الاسلامية، أسر المسلمون جندياً من جنود العدو، فاستعبدوه فجلس بينهم وقال: الى ما تدعون؟! قالوا: ندعو الى ربّ العالمين خالق السموات والارضين والذي فطرهن وهو بكل شيء عليم، قال: ومن ربّ العالمين؟ قالوا: ان علمه وقدرته وتدبيره محيطة بكل شيء، فحينما وصفوا الله له، تجلّى ربه لقلبه فغمر قلبه نور الايمان. فاتصل قلبه قبل أن يتصل جسده، وتغيرت حالاته، قال: اعطوني برامج دينكم ومناهجه وشرائعه وأحكامه قالوا له، الصلاة، القرآن... فأخذ يصلي، وحين الطعام دعوه للغذاء رفض أن يأتي، ولم ينم الليل وهو جالس في حالة غريبة، قالوا له: نم وارتح، قال وهل يستطيع أحد أن ينام أمام الله جبار السموات والارض خالق كل شيء؟ لا أستطيع أن أنام، ولا أستطيع أن آكل، فبقى ثلاثة أيام دون أن يأكل أو يشرب أو يرتاح الى أن توفاه الله برحمته.
هذه من حالات العارفين بالله حق معرفته، فهل نحن منهم؟!
يقول الامام علي عليه (عليه السلام): (لولا أن المؤمنين قد قدّر الله لهم آجالاً محددة لتحلقت أرواحهم الى الله شوقاً اليه، وخوفاً من ناره، ورغبة في جناته).
هذه هي طبيعة العرفان، والمعرفة بالله حق المعرفة، ولذا فان اصحاب هذه المعرفة واثقون من رحمة الله ومغفرته لانهم عرفوا الله، وعرفوا ان الله لا يخيب ظنهم، وعرفوا انّ الله سيغفر لهم ذنوبهم حينما يتوفاهم: "الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة"، فالملائكة تستبشر بأرواح الصديقين وأرواح الشهداء وأرواح الاولياء فتستقبلهم في أول لحظة من لحظات انتقالهم من الدنيا الى الآخرة، ولذلك جاء في الدعاء:(واجعل خير أيامي يوم ألقاك).
من هنا نرى أصاحب الامام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، كما جاء في الاحاديث، لم يكونوا يشعرون بحر الحديد، وفي الواقع فان أجسامهم لم تتبدل الى أجسام أخرى لا تشعر بالألم، إلا إن شوقهم الى الجنة، واتصال أرواحهم بنور الله تعالى، جعلهم لا يتأثرون بثقل الحديد، ولا بالجراحات الغائرة.
أحدهم كان في أتون المعركة وفي حر الصحراء الشديد، والاعداء محيطون به يرشقونه بالنبال كوابل المطر، وجراحاته تنزف وتقطر دماً، ومع ذلك ينظر الى السماء ثم يقول: يا أبا عبد الله هذا وقت الصلاة وأريد أن أصلّي آخر صلاة لي خلفك يا أبا عبد الله...!
في أشد لحظات حياته لا ينسى الصلاة، بل ولا ينسى مستحباتها، ويريد أن يصلي الصلاة جماعة، فيقول له الامام الحسين: أحسنت ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين، فبشره بأنه يحتسب عند الله تعالى من المصلين، فوقف الامام الحسين في يوم عاشوراء بعد أن قتل أصحابه يصلي صلاة الظهر.
هؤلاء هم الصفوة الذين اتصلت أرواحهم بنور الله، فمنحهم الله الصبر والاستقامة على الطريق، فلم تزل أقدامهم طرفة عين أبدا، لذا نجد الذين يريدون أن يكونوا في ركب المجاهدين والدعاة الى الله، يعرفون جيداً الطريق والسبيل الى ذلك وهو الاتصال بالله تعالى، لكن قبل كل شيء يحررون أنفسهم من ضغوط النفس ويطلقونها من أغلال الشهوات والرغبات الذاتية، ثم يتجهون لتحرير الأرض والانسان، وهذا هو هدف الانبياء (عليهم السلام)، وهو من دروس كربلاء، لذا يمكننا أن نجد نماذج من هذه الاستقامة والجهاد والانقطاع الى الله تعالى، بل يمكن قراءة الاستقامة في يوم عاشوراء من خلال قراءة دعاء الامام الحسين (عليه السلام) في يوم عرفة والتدبر فيه، وخصوصاً في كلمته التي يقول فيها: (... فان لم تكن غضبت عليّ فلا أبالي.. سبحانك غيرك ان عافيتك أوسع لي).
إن العافية أحسن من المرض، والسلم أفضل من الحرب، والامن أفضل من الخوف، ولكن ليس هذا هو الهدف الأساسي، إنما الهدف الاساسي هو رضا الله تعالى، جاء رجل للامام جعفر الصادق (ع) وقد سأله الامام: كيف أصبحت؟ فقال: يابن رسول الله أصبحت والمرض أحبّ اليّ من الصحة والفقر أحبّ اليّ من الغنى، والخوف أحبّ اليّ من الامن، فقال له الامام (عليه السلام): أما نحن فلسنا كذلك! فقال الرجل: كيف؟ قال الامام: نحن اذا أراد لنا الله الخوف، فالخوف أحب الينا من الامن، واذا أراد لنا الامن، فالامن أحب الينا من الخوف، واذا أراد لنا العافية، فالعافية أرضى لنا، واذا أراد لنا المرض، فالمرض أرضى لنا، ما يريده الله نحن نريده، أو نحبه.
وهذا معنى كلام الامام الحسين في دعاء عرفة، وهو هدف يجب أن نضعه نصب أعيننا دائماً.