في أسباب العنف ونتائجه .. العراق أنموذجا
|
*عدنان الصالحي
العنف هو تعبير عن القوة الجسدية التي تصدر ضد النفس أو ضد أي شخص آخر بصورة متعمدة أو إرغام الفرد على إتيان هذا الفعل نتيجة لشعوره بالألم بسبب ما تعرض له من أذى، وتشير استخدامات مختلفة للمصطلح إلى تدمير الأشياء والجمادات (مثل تدمير الممتلكات)، ومن الممكن أن يتخذ العنف صوراً كثيرة تبدو في أي مكان على وجه الأرض، بدايةً من مجرد تبادل الضرب بين شخصين بوسائل مختلفة، والذي قد يسفر عن إيذاء بدني، وانتهاءً بالحرب والإبادة الجماعية التي يموت فيها ملايين الأفراد.
ويشكل العنف خطرا كبيرا على حياة الشعوب خصوصاً، وعلى الطبيعة بسائر مكوناتها عموما و يؤدي الى نتائج خطيرة على جميع الأصعدة الاقتصادية والبشرية والنفسية والاجتماعية، حتى وان كان هنالك خاسر ورابح حسب المفهوم العسكري، إلا إن الحقيقة على الأرض تبقى ماثلة للعيان، إذ لا فائدة تذكر و ترجى مما يقدمه المتحاربون الى طاحونة الحرب سوى الدمار والموت.
فمع مرور فترة وجيزة على انتهاء أي حرب بين طرفين او أكثر تجد الأطراف المتحاربة نفسها أمام مشاكل معقدة وكثيرة جدا تتمثل أبرزها بالمخاطر الاجتماعية المتمثلة بآلاف الأرامل والأيتام والمعاقين وفاقدي المعيل والأمراض النفسية التي تظهر على شريحة لايستهان بها في المجتمع، فضلاً عن الافرازات الأخرى المتمثلة بالتراجع الاقتصادي بسبب استنزاف الموارد الرئيسة في البلاد الى الآلة الحربية، وتدمير البنى التحتية والخدمية.
هذه النتائج السلبية لا تظهر عادة بشكل مباشر أو دفعة واحدة، ولكنها قد تتدرج لتظهر بعد أشهر أو سنوات، و يكون تأثيرها الواضح على الأفراد والمجتمعات الفقيرة بنسبة أعلى، فيما تكون أضرارها على الطبقتين المتوسطة و الارستقراطية بشكل اقل.
فضلاً عن ما تقدم فان للعنف نتائج داخلية على نفسية الإنسان وشخصيته منها، اضطراب العاطفة والقلق والاكتئاب والهياج والذعر والخوف والغضب والعدوانية التي قد تؤدي بالفرد الى انتهاج مبدأ العنف في جميع الأنشطة الخارجية والأسرية والجهل والتخلف والانحراف والنمو غير السليم للجسم والعقل.
يتمثل العنف في الحروب بأبشع صوره وقد وقعت الكثير منها بين الدول و الطوائف والقوميات، مثل الحرب العالمية الأولى 1914-1918 التي تسببت بقتل (10) ملايين من الجانبين غير الضحايا المدنيين، وقدر قُدر عدد الجرحى بـ (20) مليون جريح من الجانبين. فيما بلغ عدد ضحايا الحرب العالمية الثانية 1939-1945 زهاء (70) مليون نفسٍ بشريةٍ بين عسكري ومدني. كما ادت الحرب الامريكية في فيتنام الى انتشار مرض السرطان بين ملايين الشعب الفيتنامي نتيجة استخدام القوات الأمريكية لمواد كيماوية بكميات كبيرة وبصورة مكثفة في هذه الحرب.
إن مجرد إلقاء نظرة بسيطة على نتائج الحربين السابقتين يتبين للقارئ مدى كارثية تلك الحروب وخطورتها على الجنس البشري، وهي في حقيقة الأمر اخطر من ذلك بكثير على الأمد البعيد.
وفي منطقتنا الشرق أوسطية يتصدر العراق في كثرة حالات العنف عموما، حيث خاض وخلال عقد واحد أربعة حروب متتالية فضلاً عن حالات العنف الداخلية والتي مارستها السلطات الحاكمة ضد المواطنين و وجود أنواع أخرى متمثلة بالخلافات العشائرية والأسرية التي قد تصل في بعض الأحيان الى صدامات مباشرة.
ومن ذلك يتبين ان نبذ العنف ونشر السلام هي مسؤولية جماعية لا يمكن لأحد التنصل منها وهذا ما يؤكده المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي رحمه الله حيث يقول في إحدى مؤلفاته: (إن الإنسان ليس مأموراً بحفظ نفسه وسلمها وسلامها فقط، بل مأمور بحفظ غيره وسلمه وسلامه أيضاً،....) ويضيف: (إن الحديث عن نبذ العنف لا يقتصر على البعد العسكري، وإنما ما ندعو إليه هو معنى واسع متشعّب الأطراف، وفي مختلف الميادين السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية والعائلية والعسكرية وغيرها..).
ومما لاشك فيه بان لكل شيء مصدراً ومنشأ، ولعل اخطر ما يكمن خلف ظاهرة العنف هو الثقافة السلبية، حيث يقول عالم النفس (سكنر): (...العنف يبدأ في الرؤوس قبل الفؤوس)، وهذا يعني ان ما وراء العنف ثقافة تأسس له وتحركه وتوجهه، لان الثقافة هي المصدر الأول للسلوك والمواقف الاجتماعية والسياسية، وهي الإطار المرجعي الذي يؤطر سلوك الفرد والجماعة سلبا او ايجابا.
الأسباب
وبالعودة لمراجعة أسباب انتشار العنف في العراق كنموذج نجدها تتلخص بعدة أمور منها:
1- الغضب وعدم التروي، فهما على رأس الأمور التي تجعل الإنسان يفقد صوابه ويهوي في أوحال العنف ويتخبّط في متاهاته والذي غالباً ما يسوق الإنسان إلى أمور لا تحمد عقباها، وهذا بدوره ناتجة من حالة الخشونة التي يعيشها المجتمع عموما.
2- العصبية والتعصب الأعمى، فان الحميّة والتعصّب العنصري سببان أساسيان في إثارة العنف والحروب والمشاجرات الدامية التي يذهب ضحيّتها العديد من الأبرياء على مدى العهود، وهو كثيرا ما ينتشر في الأوساط التي تحكمها العشائرية أكثر من القانون والقبلية أكثر من المدنية.
3- ضعف الخطاب الديني المتبني لسياسة نبذ العنف أمام الخطاب المعاكس الموغل في دعوته للعنف، واستدراج الناس تحت عناوين مغلفة ومؤطرة بشكل ديني، والتفسير والفهم الخاطئ من قبل البعض للنصوص والتشريعات السماوية المنطوية على تفسيرات مبطنة.
4- الفساد السياسي الناتج من الدكتاتورية والشمولية في الحكم أدى بدوره في تغذية المعارضة المسلحة وزيادة مساحات وأعداد المعارضين المسلحين.
5- عدم الفهم الصحيح للطابع العشائري الذي تتربى عليه اغلب العوائل وقراءته من أبواب ضيقة وغير صحيحة، وإبعاده عن دوره الحقيقي في الإسهام بإنشاء مجتمع مبني على الأخلاق العربية العالية والسماحة وحسن الخلق.
6- الشخصنة والدكتاتورية الحزبية التي تنتهجها الأحزاب في تعاملها مع أعضائها وقواعدها الجماهيرية، وتبني البعض منها لمليشيات عسكرية وأجنحة مسلحة.
7- الإحساس بالمظلومية والتهميش والإقصاء لدى بعض الفئات يدفعها لتبني سياسة المعارضة المسلحة والعنف ضد الأطراف الحاكمة او المناوئة لها، دون البحث عن طرق أخرى بديلة.
8- الخطاب المتشدد المتبنى من قبل أكثر الحكام المتوالين على السلطة وطبيعته الحادة بالتهجم والتهديد والانتقام ولد لدى البعض فكرة أن البلاد لا تحكم إلا بالنار والحديد، والتماس الأعذار للأخطاء التي يرتكبها الطغاة.
9- الإطار العسكري الذي يؤطر الدولة عموما على مدى عقود متتالية، شكل عنوان بوليسي لكل الحكومات المتعاقبة والتي انتهجت طريق العنف مبدأ لها.
10- غياب تام لبرامج ومواد وثقافة حقوق الإنسان في جميع مفاصل الدولة عموما وفي المراحل الدراسية خصوصا، فضلاً عن تبني الكثير من المدارس التعليمية سياسة الضرب والقسوة أصلا.
النتائج:
وفي ظل هذه الأجواء التي تعرض لها البلد على مدى قرون عديدة توجت في آخرها بحروب قاسية مع أطراف إقليمية وأخرى عالمية، كانت النتائج كارثية وكبيرة تمثلت فيما يلي:
1- تقادم وتهالك كبير في البنى التحتية يكاد يصل حد الانهيار إن لم يكن كذلك بالفعل.
2- كساد مالي يضع العملة العراقية والتجارة الخارجية بوضع مرهق.
3- ديون تقدر بالمليارات تجهد الميزانية الحكومية، بعضها مرتبط بمشتريات الأسلحة وأخرى بالتعويضات المختلفة للدول والأفراد.
4- تفشي حالة الفساد الإداري والمالي في الدوائر الحكومية الى حد النخر في بنية الدولة ككل.
5- فقر وعوز اجتماعي وانتشار ظواهر منحرفة في المجتمع نتيجة عدم الاهتمام وقلة التعليم او صعوبته.
6- تراجع علمي وسياسي واقتصادي وثقافي مقارنة بدول الجوار خصوصا والمنظومة الدولية عموما.
7- التأثير الواضح للحروب في نفسية الفرد العراقي وظهوره بحالات الانفعال الدائم في أكثر المواقف.
8- وضع العراق في شبه العزلة الدولية،حتى بعيد التغير السياسي عام 2003.
9- تغيير واضح وكبير في بيئة البلاد نتيجة تلوث أغلب الأماكن بالمخلفات العسكرية.
10- تشويه صورة الفرد العراقي لدى العالم الخارجي على انه إنسان ميال للعنف ومتلهف للحروب.
إن ما مر به بلدنا خلال الفترة السابقة يظهر وبوضوح أن لا طريق حقيقي سوى طريق السلام والبناء العلمي والاقتصادي والتعايش الإنساني مع الجميع على مبدأ الاحترام المتبادل وعدم التدخل بالشؤون الداخلية لأي طرف، فضلاً عن انه لابد من الاعتراف بان لا بديل عن مبدأ الحوار في ابسط الأمور واعقدها و(إن من شاور الناس شاركهم في عقولهم) أو (إن أعقل الناس من جمع عقول الآخرين الى عقله) كما ينقل عن الامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام.
إننا بحاجة اليوم الى إعادة النظر باسلوب العنف والقوة، ذلك المنهج الذي لا يستخدمه إلا من خسر في تجارة السلام فذهب ليبدلها بالويلات والدموع، لقد تحمل شعبنا في جميع مناطقه ويلات ونتائج حروب لم يكن له فيها اختيار بصنعها، واليوم وبعد أن أصبح للشعب صوت مسموع وللحرية أبواب تفتح على ميادين كثيرة فلابد أن يكون صوت السلام مدويا وعاليا وعلى الجميع بمن فيهم المسؤولين في الدولة معرفة أن لا حرب بعد الآن إلا حرب الإعمار والبناء والدفاع عن ثروتنا الجديدة و أولها ديمقراطيتنا الفتية، باستخدام أسلوب الحوار والتعايش والحكمة والتداول السلمي للسلطة فقط لاغير.
* مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث
|
|