محاضرة يلقيها.. سَمَاحَةُ المَرجِعِ الدّيني آيةُ اللهِ العُظمى السَيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسي
كلا لمن يحمل راية الحسين (ع) ويريد أن يفرّق بواسطتها بين الناس
|
إعداد / بشير عباس
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم اللعين
بسم الله الرحمن الرحيم
"إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ* قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِن تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُم مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" الحجرات (13-14)
آمنا بالله
صدق الله العلي العظيم
إن قوة الإنسان وحضارته تعتمد على التشاور الفكري والتعاون العملي، وإن أكبر حاجز يقف أمام تقدم البشرية وتعاونهم هو ما يصنعه الشيطان من حواجز نفسية بين الانسان والآخر، واذا أمعنا النظر وتأملنا تاريخ البشرية منذ أن خلق الله آدم صفوة الله (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) فوق هذا الكوكب وحتى الآن، لوجدنا أن الخلاف والصراع سبب رئيس لما يجري على البشرية من مشاكل، وأي مجموعة بشرية استطاعت أن تنصهر في بوتقة واحدة وتحمل راية واحدة وتتخذ هدفاً واحداً، تكون جديرة بالتحرك الى الأمام، ويستمر تحركها وتقدمها حتى لحظة افتقادها هذه الميزات، ولعل من أبرز المعايير التي يمكننا أن نتخذها لمدى فاعلية المبدأ وحيويته هو مدى قدرة هذا المبدأ على جمع الناس وتركيز قواهم ودعم حركتهم الواحدة.
لقد فتح القرآن الكريم، وهو آخر رسالة إلهية للبشرية جمعاء، أمام البشرية أفقاً لا نجد أنه فُتح أمام أي مبدأ أو حتى أي دين، ليس لأن الدين الإلهي يميز بين الانسان والانسان، بل لأن طبيعة التقدم عند البشرية قبل بعثة النبي الأكرم (ص) لم تكن تسمح لهذا التطور النوعي الهائل، لذا جاء الإسلام تكميلاً للتطورات السابقة، فمثلاً قبل البعثة النبوية، كان شعار النبي موسى (ع) (يا بني إسرائيل)، فقد بُعث النبي موسى (ع) الى بني إسرائيل، وليس الى العالم كله، حسب الآيات القرآنية، نعم... كان على بني إسرائيل أن يحملوا الرسالة الى العالم، وأما النبي عيسى (على نبينا وآله وعليه أفضل الصلاة والسلام) فهو جاء مصححاً لمسيرة بني إسرائيل، فيما الرسالة الخالدة التي جاءت للبشرية جمعاء فهي رسالة نبينا الأكرم (ص)، ولا بد لهذه الرسالة أن تطوي المراحل، الواحدة تلو الأخرى، حتى تتحقق هذه الآية الكريمة في ختام سورة الأنبياء: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ"، أي في يوم ما سوف يتمتع العالم كله بنعمة هذه الرسالة الإلهية.
يقول ربنا سبحانه وتعالى في سورة الحجرات، وهي سورة خصصت لتوحيد الأمة الإسلامية في بداياتها ولكنها تفتح أيضاً نافذة على أفق آخر، وهو أفق توحيد البشرية كلها: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" لاحظوا الكلمة التي جاءت في محلها، فلماذا قال يا أيها الناس؟
في بعض الأحيان يأتي الخطاب في القرآن الكريم بصيغة الانسان، "يَا بَنِي آدَمَ" أو "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ"، وفي بعض الحالات بصيغة "ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ" أو "يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ" أو "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ" أو "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ"... فكل كلمة تأتي في القرآن الكريم تكون بصورة دقيقة وواضحة وفي مكانها المناسب، ولا تأتي الكلمات من دون حكمة، فهنا يقول ربنا سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" فما هو الفرق بين (يابني آدم، يا أيها الناس، يا أيها الانسان)؟ هناك ثلاث مفردات: وكل مفردة من هذه المفردات تدل على العموم، أي عموم البشرية: فبنوا آدم كلهم بنوا آدم، أما الانسان فطبيعته سارية في كل ابن أنثى، لكن لماذا يقول ربنا: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"؟ إن لهذه الكلمة فلسفة وحكمة، وهي أنها قد تأتي لبيان مسؤولية كل فرد من البشر، ولكن إذا جاءت في إطار المجتمع والتجمع مثل "قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ* مَلِكِ النَّاسِ* إِلَهِ النَّاسِ* مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ* الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ* مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ" وجاء الخطاب بصيغة الانسان "يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ" فمعنى هذه الكلمة هي إن الانسان بما هو انساناً، فرداً أو جمعاً، وإذا جاء بنو آدم فإنه لبيان وحدة الجنس أو وحدة الأصل باعتبار أنهم كلهم من بني آدم، أما هنا "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" يعني يا أيها المجتمع الانساني ولنا عودة للتدبر والتأمل في هذه الكلمة إن شاء الله تعالى، "إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى" وحينما قال من ذكر وانثى معناه لا فضل لأحد على أحد في طبيعة العنصر والعنصر الذي هو العنصر الواحد الذكر والانثى، وهذا الخلق ربما كان في هذا البلد أو ذاك البلد، وفي ظل هذه الحضارة أو تلك، فكل هذا لا يعني شيء لماذا؟ لأن العنصر واحد، من ذكر وانثى، فإذن الناس الذين يتفاخرون بأنسابهم يتفاخرون بعنصريتهم وقوميتهم ودينهم وشعبهم، كل هذا يُعد مجانبةً للحقيقة، "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ" نعم... هذا اعتراف وبيان إلهي على أن اختلاف الناس ضمن شعوب وقبائل مشروع، أي أن هذه إرادة إلهية "وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ" فلا بد أن تكون هناك اختلافات، لأن كما أن الله سبحانه وتعالى لا يخلق الاشياء كلها شيئا واحداً ولا الاشجار كلها من صنف واحد ولا الفواكه من طبيعة واحدة، فقد خلق البشر كلهم مختلفين، ولكن مختلفين كي يتّحدوا لا لكي يتصارعوا، وهذا هو الفرق، "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ"، فهل يعني هذا هو الصراع والتفاخر بعضنا على البعض الآخر؟ أو أن يسخر قوماً من قوم؟ كلا، بل "لتعارفوا" وكلمة التعارف تعني المعرفة المتبادلة، وهي تعني الاعتراف المتبادل، وحينما يعترف كل انسان بالآخر فإنه يعترف بوجوده وقيمه وحقوقه وبكل ما هنالك مما يحيط به.
فاليوم دولة في العالم لا يعترف بها الناس مثل دولة اسرائيل لا تعترف بها الدول العربية، فعندما لا يعترفون بهذه الدولة بمعنى لا يوجد هناك تبادل دبلوماسي بينهم، ولا اقتصاد مشترك بينهم، أما إذا اعترفت دولة عربية بدولة عربية أخرى فإنها تعترف بحدودها وبحقوقها وبشعبها، وبكل شيء، والاعتراف بحقوق الطرف المقابل يُعد بداية انطلاق العمل المشترك، وهو ليس بمعنى تذويبهم كلهم بمصهر واحد، فالسوفياتيون كانوا في الاتحاد السوفياتي يدخلون الناس في مصنع ويخرجونهم مثل بعض، ولكنهم فشلوا في ذلك فقتلوا (20) مليون انساناً، دون أن يحققوا النتيجة المرجوة وهي أن يفرضوا أنفسهم أو لغتهم أو أفكارهم على الناس، لأن الله قد خلق الناس مختلفين، ولا يمكن توحيدهم بهذا المفهوم، إنما يمكن أن نوظف الخلافات الموجودة فيما بيننا في سبيل سعادتنا، فالمهندس والدكتور والخباز والبزاز وسائق التكسي والعامل والرئيس كلهم يوحدون جهودهم مع العلم بوجود الخلافات، فيوظفون الخلافات والاختلافات من أجل الوحدة والعمل المشترك، "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" يا إلهي...! مادام الأمر هكذا لن يوجد هنالك انسان ذو كرامة وآخر من دون كرامة، لماذا؟ لأن الكرامة ليست قضية ذاتية أو مرتبطة بالأرض أو اللغة ولا مرتبطة بالتاريخ، بل أنها مرتبطة بعمل الانسان، "لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ".
أيها الأخوة: هناك بصيرتان أودّ نقلها بهذه العجالة:
البصيرة الأولى:
وهي متصلة بهذه الأيام الحزينة والأليمة حيث نرتدي فيها لباس الحزن.. حزن التحدي والنهضة والألم، وهو ليس ألم الإنطواء، وإنما ألم الإنتشار، ونحن كموالين لأهل البيت وكمسلمين وكأي انسان عنده ضمير ووجدان وقلب ينبض بالحب، عندما نقف أمام جلال وعظمة هذه الذكرى والملحمة التاريخية التي لم ولن يشهد الماضي والمستقبل مثيلها، نمتلئ حزناً، ولكن أيّ حزن؟ إنه حزن بكاء، فالإمام الحسين قتيل العَبرة ولكن في نفس الوقت نطلب بثأره، (يالثارات الحسين)، إنه الوتر الموتور، و(الوتِر) بمعنى إنه ثأر الله في الأرض، وبمعنى إن أي انسان من عباد الله يجب أن يحمل رايته ويأخذ بثأره، فنحن نحمل على أكتافنا ظلامة الحسين (ع) هي ظلامة النبيين جميعاً ونبينا الأكرم (ص) و فاطمة الزهراء والإمام أمير المؤمنين والحسن المجتبى وظلامة أهل البيت (عليهم السلام)، وشيعتهم والمستضعفين وكل الذين مضوا في طريقهم، فلا نستطيع أن نتجرد من هذه المسؤولية يوماً ما، ونقول: لا علينا بها، كلا، إن هذا ثأر الله، ومعنى ثأر الله إن عباد الله يحملون هذا الثأر، ومن صفات الإمام الحسين (ع) وصفات ثورته ونهضته وقيامه أنه وحد الأمة.
كان مع الإمام الحسين (ع) عبداً أسوداً وكان الناس يستهزؤون به، وهو لم يكن عبداً للإمام الحسين بل كان عبداً لأبي ذر، فأستمر في علاقته وجاء مع الإمام الحسين، وكان رجلاً عجوزاً يقوم ببعض الاعمال فيذهب هنا وهناك، فيأتي الإمام الحسين ويقدمه للمعركة وحينما يُستشهد يأتي الإمام الحسين (ع) ويفعل له كما يفعل لنجله علي الأكبر (ع) فيضع خده على خده، وهذا بمعنى أن الإمام لم يكن يعترف بهذه الفوارق والحواجز، أو يأتي ذلك الرجل المسيحي فلا يقول له: (اذهب فأنت مسيحي أو كافر...)! بل يجذبه وإذا بلحظات يحلّق ذلك المسيحي في سماء الشهادة ويصل الى المكانة التي يأتي الإمام الصادق (ع) ويقف على قبور الإصحاب ويقول: (بأبي أنتم وأمي...) فماذا تعني هذه الكلمات؟! أو ذلك الرجل الذي كان بالإمس عثمانياً، وكان مع أعداء الإمام، ولكن في لحظة واحدة أتى وانظم مع الإمام الحسين (ع)، وهكذا...
كل ذلك يعني إن كل القبائل والعشائر والأقوام، توحدت تحت ظلّ أبي عبد الله الحسين، لذا نجد اليوم راية الإمام الحسين موحدة، لكننا نقول: كلا لمن يحمل راية الحسين (ع) ويريد أن يفرق بواسطتها بين الناس، لأن هذه الراية ليست راية التفرقة، بل راية الوحدة وانصهار الجميع في بوتقة واحدة، والأخوة في العراق يعرفون ذلك وكذلك الأخوة في الخارج ممن يسمعون كلامي فليسألوا ويروا حينما تبدأ المسيرات الى كربلاء في أيام الزيارات وبالذات مناسبة أربعين الإمام الحسين (ع) كيف أن الصحراء تتحول الى روافد وسيول بشرية متحركة، وهم يأتون من كل فج عميق ومن مناطق مختلفة وكل واحد على شفاهه ذكر (يا حسين)، فتلاحظون هذا طفل صغير وذاك رجل كبير، وهنالك الجاهل والعالم، وهذا من هذه العشيرة وذاك من تلك العشيرة، لكن الراية توحد الجميع الذين هاجروا مع بعض و زاروا مع بعض، ثم عادوا مع بعض، وأقول بحق: أن الإمام الحسين (ع) ونهضته تُعد اليوم من ركائز وحدة المسلمين وركائز وحدة التابعين لأهل البيت.
ذكرت ذات مرة إن وزيراً للدفاع رأوه وهو يرتب الأحذية في إحدى المجالس الحسينية، والموضوع كان في أحدى الفضائيات فجاءه شخص وقال له: كيف ترتب أحذية الزائرين أو المشتركين في هذه المناسبة وأنت وزير الدفاع؟! فقال له: كنت وزيراً للدفاع في وزارتي والآن انا هنا خادم للحسين (ع)، إن علماء وشخصيات كُبار يتمنون أن يتجردوا لفترة من وضعهم الخاص وينصهر مع الجموع، من هذه الشخصيات الكبيرة والعظيمة والتي طالما أحب هذه الشخصية كثيراً لما لديها من ميزات واعدها قدوة لي، إنه المرجع السيد محمد مهدي بحر العلوم (رضوان الله تعالى عليه)، وهو مرجع قلما يأتي مرجع نظيراً له في جهاده وسعة أفقه و عمله وعطاءه للأمة، كان واقفاً في ظهر العاشر من المحرم وحوله الناس أمام موكب (عزاء طويريج) حيث الآلاف من المعزّين يركضون حفاة نحو حرم الإمام الحسين (عليه السلام) وبلا ألوية وكلامهم فقط (يا حسين)، وإذا به فجأة يترك مكانه ويندمج معهم ويركض في الموكب الجماهيري فعاتبه بعضهم وقال له: سيدنا.. أنت عالم ومرجع تقليد كيف تركض مع هؤلاء الناس؟!! قال: ماذا أصنع وقد رأيت الإمام الحجة (عجل الله فرجه) يركض في هذا الموكب، وإذن، إذا أراد الانسان أن يوحد الأمة فليوحدها تحت هذه الراية، وهي راية الاسلام لماذا؟ لأن هذه الراية مضمخة بدم أبي عبدالله الحسين (ع)، وهي نفسها راية أبي الفضل العباس في كربلاء، وهي نفس الراية التي يحملها الإمام الحجة بن الحسن (عجل الله فرجه) و يأتي الى كربلاء ثم يوحد العالم تحت هذه الراية، بل إن كل الجنس البشري سيتوحد تحت هذه الراية.
البصيرة الثانية:
أقول بصراحة: إن الوحدة ليست كلمةً تُقال، وإنما ممارسة فعلية، فكل انسان في موقعه مسؤول بأن يقلل من الحواجز التي تفصل بينه وبين الآخرين، لكن من دون التحسس بمسؤوليتنا، ومن دون أن يتحسس كل انسان بمسؤوليته تجاه المجتمع وتجاه مستقبل بلاده، فان هذه الوحدة لن تتحقق، وهناك نوعان من الوحدة: فهناك وحدة مفروضة على الإنسان بالقوة مثل وحدة الجيوش، فعندما يتوجه الجيش الى المعركة فإن القائد سيوحدهم بالقوة شاءوا ذلك أم أبوا، هذه الوحدة لا تنفع لبناء الحضارة، بينما الذي يبني الحضارة هي الوحدة النابعة من روح الانسان وقلبه وممارسته، وبناءً على ذلك، نطالب بوحدة كهذه لبناء المجتمع الانساني، ولعل قوله سبحانه وتعالى في مفتتح هذه الآية: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" اشارة الى هذه النقطة وهي مسؤولية كل انسان تجاه الوحدة، وتوحيد المجتمع مع الآخرين، أي يجب عليّ أن اعترف بك وانت تعترف بي، فأنا كانسان يعيش حولي الناس، وأنا كأب يجب أن اعترف بأبنائي، وكزوج اعترف بزوجتي وكأخ اعترف بأخواني وكأبن عم اعترف بأبناء عمومتي، و كل انسان في محيطه يجب أن يعترف بالآخر لا أن يعيش في زنزانة نفسه أو إطاره الضيق، وأنا أعجب من أننا كمسلمين وكموالين لأهل البيت (ع) وعندنا هذه البصائر القرآنية وهذه الثقافة الحسينية وهذه القيم التاريخية الحافلة بالمزيد من العطاء، وما نزال نعيش في العراق متفرقين، فكيف لا نستفيد من هذه البصائر؟!
أيها الإخوة: لابد أن يُظهر العالم علمه، وأنا مسؤول أمام الله ولابد أن أقول كلمتي في قضية من القضايا لإتمام الحجة، فأقول أيها الأخوة: تقع حوادث تفجير في العراق منذ اليوم الأول وحتى الآن، وأنا بما أقول زعيم، وقد قلت ذلك منذ اليوم الأول لعودتي الى العراق: ياجماعة... إن الأمن كالاوكسجين، يستنشقه كل انسان ويملأ رئتيه هو وليس صاحبه، أي إذا تنفس شخص آخر فهل استفيد أنا من هذا الاوكسجين؟! أو إذا شرب صاحبي الماء فهل أرتوي أنا؟! كلا، بل يجب أن أشرب الماء حتى أرتوي، كذلك الأمن، فهو مسؤولية كل انسان وقد حملت شعاراً بعد عودتي الى العراق: (كل عراقي خفير) و (كل عراقي مسؤول عن أمن بلده)، لكن لا ندري من ربان هذه السفينة؟ ومن الذي يقود هذه الأمة؟ والى أين؟ لماذا نحن خضعنا لهذه الكلمات؟ وقد عشنا طويلاً في العراق منذ آلاف السنين في ظل الوحدة فما الذي فرقنا؟ وجاء بالطائفية؟، رجل خبيث أعوج، جاء من (العوجة)، وأراد أن يعوج كل العراق، فقالت الناس عليه: (سين وشين) في العراق – سنّة وشيعة- لكنه سقط وانقبر، لكن الى متى نبقى مختلفين عن بعضنا؟ والى متى هذه المحاصصات؟ إن قسم من المحاصصة من الحقوق، لكن إذا دخلت المحاصصة الى العمق فإنها تتحول الى إطار سلبي، لأنه في مثل هذه الحالة تغيب الكفاءة، ولن تُعد لـ "إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ" قيمة حينئذ، فيقول قائل: أنا من جماعة... أو حزب... أو تجمع.... فإذن هذا موقعي شئتم أم أبيتم! وسواء أكنت كفوءاً لهذه المهمة أم لم أكن! وهذه هي مشكلة البشرية، لذا يجب علينا حل هذه المشكلة، فلكل شخص فعل ورد فعل فذاك يقول: أنا عندي... وهذا يقول أنا أيضاً يجب أن يكون عندي... وتستمر المشاكل وتحصل التفجيرات في بغداد.
أنا لديّ تعليق على هذه التفجيرات وأقول: يا جماعة... لماذا نحن ابعدنا الشعب عن القيام بدوره، فالشعب يجب ان يعرف وأن يكون عنده حسّ أمني ويجب ان تكون كلمته ومشورته مسموعة، فنستشيره ونسمع كلامه، فقد مضت أيام لم تكن فيها حكومات لكن لم تقع فيها تفجيرات، أيها الأخوة، انتم في العراق عشائر وكل واحد في عشيرته ومنطقته وقد تكون عشيرته بعيدة في الصحراء لكن أمنهم مستتب والسبب هو وجود نظام أمني خاص بهم، فيعرفون كيف يحافظون على منطقتهم، إذن، أولاً: هذا الشعب موجود ولابد ان له دور واضح، وان تكون لنا ثقة به، فهم أولادنا وابناؤنا.
ثانياً: اذا تقع تفجيرات لا يجب ان نستغلها فرصة كي يسبّ أحدنا الآخر، فبدل ان نوحد جهودنا مقابل تحدي كبير حدث في بلدنا، هل نأتي ونحول هذه الفتنة سبباً للاختلاف؟ وللإمام أمير المؤمنين (ع) كلمة جميلة بعد حرب صفين قال: (اللهم إن حرمتنا النصر فاعصمنا من الفتنة)، خذوا حذركم، فاذا حدثت مشكلة لا تحولوها الى فتنة، والفتنة مع الأسف الشديد لا تبقى محصورة بين جدران البرلمان أو جدران رئاسة الوزراء او جدران المجالس الأمنية بل تنتشر في العراق وتمزق الشعب العراقي بأسره.
إن الديمقراطية لها إيجابياتها ونحن نؤمن بها، ولكن لها سلبيات ايضاً، يا جماعة... إن من سلبيات الديمقراطية إنه عندما يحين موعد الانتخابات يصاب الناس بالتمزق، فأنا أؤيد هذا وانت تؤيد ذاك، أنتم مؤمنون صالحون وفي بلد واحد وعندكم مشاكل مشتركة، فهل من الصحيح أن تطبقوا نفس الحالة السائدة في الغرب على بلادنا؟ يجب علينا أن نأخذ إيجابيات الديمقراطية، وفي نفس الوقت يجب ان نتحصن ضد سلبياتها، وبكلمة: ما حصل في العراق من تفجيرات يجب ان اقول بصراحة: إن التفجيرات حصلت واظهرت مشكلة كامنة فينا، فالتفجيرات ليست هي المشكلة الوحيدة، فهناك مشكلة الكهرباء والطرق والنفط والبنزين، لكن التفجيرات هذه لها صوت عالٍ وفيها دماء، لكن البلد بحاجة الى دراسة.
أيها الأخوة: اوجه كلامي للمسؤولين وأوجه خطابي للشعب العراقي كله والمسؤولين جزء من هذا الشعب وليسوا متميزين عنه، واقول: يا جماعة... اجلسوا وفكروا، إن وقعت حادثة أو حصلت اخطاء في هذا البلد، فلتكن عندكم جلسات تقييمية ليس لمحاكمة زيد ومواجهة عمر، وانما لدراسة الحالة والاستفادة منها، و(السعيد من انتفع بتجارب غيره)، لكن (المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين)، أي إن الذي يلدغ من هذا الجحر لن يمد يده مرة ثانية على هذا الجحر، أما نحن نستمر في مدّ أيدينا في الجحور ونصاب باللدغات تلو اللدغات وهكذا دواليك...!! إن هذا خطأ كبير، فاذا تحدث مشكلة علينا ان نجلس وندرس هذه الحالة، وانا ادعو منذ خمس او ست سنوات كل ذي فكر وذي بصر والآن عندنا حرية نقد، وبدلاً من أن نحول هذه القضايا الى بازار للمعركة الانتخابية ومهرجان للخلافات السياسية، أن نفكر برحمة البلاد والعباد لحفظ هذه الدماء، وان كل انسان له كرامته وقيمته وتاريخه، فلا تكون الجماهير مهمشة، فمتى نعود الى بصائرنا وركائزنا وقيمنا، هذه القيم المباركة، إذ لا بأس بالاختلاف، واقول مرة اخرى: لتكن هناك احزاب وجهات مختلفة و... ولكن ليس على حساب أمن البلاد ولا على حساب دراسة التجارب السابقة ولا على حساب مستقبل بلدنا، فجيب أن يكون كل شيء في محله، ""يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا"، لكي توحدوا الصفوف ويعترف بعضكم ببعض بحقوقه ثم يتعاون بعضكم مع بعض، "ان اكرمكم عند الله اتقاكم" تحملوا الافضل الى الامام "ان الله عليم خبير".
نسأل الله سبحانه وتعالى ان يبارك لنا ويوفقنا وينفعنا بسيدنا ابي عبد الله الحسين ويجعل مناسبة هذا العام مناسبة محرم وبداية السنة الهجرية مناسبة مباركة وميمونة وإن شاء الله ببركة اهل البيت وببركة الامام الحسين يرزقنا روح إلهية و روح عرفانية و روح وحدوية حتى نوحد جهودنا ونخلص بلادنا من كل المشاكل التي تحيط بنا.
وصلي اللهم على محمد وآله الطيبين الطاهرين.
|
|