الجانب الرباني من شخصية الإمام الحسين عليه السلام
|
من الملفت للنظر في حياة الإمام الحسين عليه السلام أن هناك خصيصة بارزة في حياته علينا أن نكتشفها ونعتصم بها، ألا وهي ربانيته، وتجرده في ذات الله تعالى، وذوبانه في بوتقة التوحيد، وابتعاده عن أي غل أو شائبة مادية.
ونحن لو تعرفنا على هذه السمة في حياة أبي عبد الله الحسين عليه السلام، ليس فقط سنتعرف على جوانب شخصيته، بل سوف يكون بإمكاننا انتهاج نهجه، والاستنارة بسيرته، والرقي ولو بمقدار بسيط إلى تلك القمة التي كان عليه السلام قد سما إليها.
والطريق إلى تحقيق هذا الهدف واضح، فمن أراد الله تعالى فعليه أن يبدأ بأبوابه، وأبو عبد الله عليه السلام هو من أوسع هذه الأبواب، ومن أراد معرفة الحسين عليه السلام فلابد أن يبدأ بمعرفة ربه خالق السماوات والأرض.
لم يكن الإمام الحسين عليه السلام رجل حرب وبطل مواقف جهادية فحسب، وإنما كان يكمل مسيرته الجهادية بمسيرة عبادية. وفي هذا المجال يروى أنه قيل لعلي بن الحسين عليه السلام ما أقل ولد أبيك؟! فقال: العجب كيف ولدت...؟ كان أبي يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة.
إن هذا الرجل العظيم الذي كان يتفرغ إلى الله ويبكي ويتهجد ليلاً، هو نفسه الذي حمل السيف في يوم عاشوراء، وصرخ بذلك الدوي الذي ما زال هتافه يحرك الملايين: (هيهات منّا الذلة) فالإيمان هو الذي يحدد مسار الإنسان، وهو الذي يوجب عليه أن يسلم تسليماً مطلقاً، ويكيّف مواقفه بحسب ما يأمره به الله تعالى.
التسليم المطلق
هذه الحالة (حالة التسليم المطلق) هي التي تفسر لنا جميع أبعاد شخصية الحسين عليه السلام، ونحن نجد تجلياً لهذا الإيمان في الدعاء الذي قرأه عليه السلام في يوم عاشوراء:
(اللهم أنت متعالي المكان، عظيم الجبروت، شديد المحال غني عن الخلائق، عريض الكبرياء، قادر على ما تشاء، قريب الرحمة، صادق الوعد، سابغ النعمة، حسن البلاء، قريب إذا دعيت، محيط بما خلقت، قابل التوبة لمن تاب إليك، قادر على ما أردت، تدرك ما طلبت، شكور إذا شكرت، ذكور إذا ذكرت، أدعوك محتاجاً، وأرغب إليك فقيراً، وأفزع إليك خائفاً، وأبكي إليك مكروباً، وأستعين بك ضعيفاً، وأتوكل عليك كافياً. اللهم أحكم بيننا وبين قومنا بالحق، فإنهم غرونا وخذلونا، وغدروا بنا، وقتلونا، ونحن عترة ولد نبيك وولد حبيبك محمد الذي اصطفيته بالرسالة، وائتمنته على الوحي، فاجعل لنا من أمرنا فرجاً ومخرجاً يا أرحم الراحمين) .
لقد قرأ أبو عبد الله عليه السلام هذا الدعاء عندما أحاط به ثلاثون ألفاً، وربما يكون عليه السلام قد قرأه بعد أن وقع أصحابه وأهله صرعى مضرجين بدمائهم على أرض كربلاء، ومع ذلك فقد كانت بصائر الإيمان تتلألأ وتتجلى في ملامحه، فكان كلما ازدادت المصاعب عليه ازدادت طلعته بهاء وانشراحاً، لأنه كان يعلم أنه قد نجح في أكبر تجربة، وأعظم بلاء فشل فيه الآخرون.
وقد سجّل التاريخ هذه الالتفاتة نقلاً عن أحد المشتركين في قتال الامام من أهل الكوفة، حيث قال: (ما رأيت مخذولاً قط، قتل عنه صحبه وبنيه، أربط جأشاً وأقوى عزيمة من الحسين، فكلما كان يسقط من اصحابه شهيداً كان وجهه يزداد إشراقاً وتألقاً...)، طبعاً ذلك الراوي ومعه التاريخ برمته، لم يفهم مغزى هذه العلامات، إنها السمو والفوز الأبدي، وليس الظفر بالاجساد والمغانم والاموال وغيرها من متاع الحياة الدنيا الزائلة.
إن الامام الحسين عليه السلام بهذه الفقرة الرئيسة من نهضته ينير لنا طريقاً طويلاً في الكفاح ضد الانحراف والطغيان وكل الظواهر الشاذة في المجتمع، فالانحراف لا يقومه انحراف مثله، والدم لا يمحوه دمٌ مثله، إنما هنالك القيم والمبادئ التي تتصل بالسماء وتجعل الانسان مرتبطاً كليةً بخالقه العزيز المتعال، في كل صغيرة وكبيرة، في عزّه وذلّه وضعفه وقوته وعلته وسلامته، ولا ينقطع عنه طرفة عين، لأن في هذه الحالة سيكون مثل ورقة صفراء أمام رياح عاصفة، وهذا هو حال الكثير من الذين بحثوا عن المجد في المعارك السياسية والصراعات على المال والجاه. ومثل هذه الروح الإيمانية، والسمو المعنوي جعلا أبا عبد الله عليه السلام شعلة وقادة في نفوس الملايين، بحيث إننا نجد اليوم ما نجده من بطولات وشجاعة المجاهدين المتبعين لنهج الحسين عليه السلام، وكيف أنهم يربطون أنفسهم ومبادراتهم الشجاعة في مختلف الميادين باسم الحسين عليه السلام.
العطاء دون حدود
هكذا كان الحسين عليه السلام .... ولذلك تجلت نصرة الله تعالى له في يوم عاشوراء، لأنه أعطى لله كل شيء، فهو تعالى الحبل الذي اعتصم به أمامنا الحسين عليه السلام ، ولا بد أن نعتصم به، وأن أهم وصية أوصى بها أنبياء الله وأوصياؤهم هي التقوى والتجرد من الذات، وهذه الوصية هي أحوج ما نحتاج إليه في حياتنا، وبالذات لمن يعمل في الساحة السياسية. فالإنسان الذي دخل ساحة السياسة لابد أن يتطرق الى الازمات الاجتماعية والاقتصادية والقضايا المعقدة، فلابد للإنسان الرسالي من أن يزداد اتصالاً بالوحي وبالتعاليم الإلهية وأيضاً بالرجال الربانيين.
ومن جهة أخرى، فإن الإنسان الرسالي الذي يخوض المعترك السياسي يواجه ضغوطاً كبيرة، من الداخل الذي يعيشه أو من جهات خارجية لها مصالح في بلده، لذا فهو يختلف عن الإنسان العادي، فهو يحتاج أكثر من غيره إلى تقوىً تحجزه من السقوط في مطبات كثيرة، وعليه فإن الرساليين والمتدينين مدعوون اليوم أكثر من أي وقت مضى لأن يجعلوا صبغتهم العامة صبغة ربانية من خلال طريقين يكمل أحدهما الآخر:
الأول: الاتصال بالقرآن الكريم.
الثاني: البحث في سيرة أهل البيت عليهم السلام.
فنحن كلما بحثنا في سيرتهم عليهم السلام وازددنا اتصالاً بهم، وازداد تمسكنا بنهجهم، يعصمنا الله من المشاكل والأزمات التي تحيط بنا. وفي خطٍ متوازٍ، علينا الحذر من هجران القرآن الكريم، وهذا بالحقيقة من أهم وأعظم الدروس التي نستلهمها من نهضة أبي عبد الله الحسين عليه السلام.
واذا نظرنا بشكل عام على الساحة اليوم، نجد أننا ما نزال نقف على مسافة غير قريبة من الحسين عليه السلام ، ولم نصل بعد الى المرتبة التي تمكننا من الاستنارة بالشعلة الحسينية الوقادة بالرغم من أن خطباءنا وكتّابنا فعلوا الكثير في سبيل بث الروح الحسينية في نفوسنا، ولو إننا استفدنا من كل جوانب حياته عليه السلام وجعلناه قدوة وأسوة لنا لاستطعنا أن نصل إلى أهدافنا بسرعة أكبر، لذلك فإننا مطالبون بإلحاح لدراسة حياة أبي عبد الله الحسين عليه السلام وحياة الطيبين من أبنائه، والسائرين على دربه.
|
|