الحسين (ع) .. راية للإصلاح ومواجهة الفساد بكل أشكاله
|
*إعداد / بشير عباس
حينما يبزغ فجر النهضة في أمة من الامم لا يلبث المجتمع الناهض ان ينقسم الى قسمين: منهم من يسبق الاخرين ويجاهد في سبيل الله ويقاتل ثم يقتل. ومنهم من يحمل راية القتيل الشهيد في سبيل الله ويحقق اهدافه من بعده. هذه سنة الله تعالى جارية في الاولين وجارية في الآخرين منذ ان قتل قابيل هابيل وبدأ الصراع بين الحق والباطل، إذ ان هابيل استشهد، ولكن هناك من حمل رايته وهو اخوه الذي استمر في الدفاع عن الحق ومن ثم الانبياء من بعده.
وبعد ان بزغت شمس الرسالة الالهية الخاتمة على يد نبينا الاكرم صلى الله عليه وآله، كان هنالك "من المؤمنين رجال صدقوا ماعاهدوا الله عليه ..."، فحمزة سيد الشهداء كان من أولئك الرجال، وحينما استشهد سلام الله عليه في معركة أحد، تعرضت اركان الدين للاهتزاز آنذاك، والسبب ان حمزة كان أسد الله الغالب وكان الرجل الذي يحسب المشركون له ألف حساب. لكن السؤال؛ حينما سقط حمزة على أرض المعركة هل سقطت الراية على الارض أيضاً؟ كلا... بل حملها الامام امير المؤمنين (ع) وقام بالاضافة الى دوره ، بدور حمزة ايضا، فنزلت الآية الكريمة: "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنه من ينتظر وما بدله تبديلا"، وقد أصبح حمزة سيد الشهداء، وهو الوسام الذي اعطاه النبي الاكرم حيث قال: (سيد الشهداء عمي حمزة). ولم يدع الامام امير المؤمنين (ع) أن يؤثر استشهاد حمزة على مسيرة الرسالة بل تفادى ذلك بنفسه المقدسة مع الثلّة المؤمنة الصالحة ممن بقي من اصحاب النبي الأكرم، فكان أن ظلت راية التوحيد خفّاقة رغم انتصار المشركين عسكرياً في هذه المعركة.
رجالٌ صدقوا في كربلاء
الآية الكريمة الآنفة الذكر نجد لها مصداقاً بارزاً في واقعة الطف، حيث التفّ حول الامام الحسين (ع) اخوته وابناء اخوته وابناءه وثلّة من اصحابه وانصاره والخلّص من عباد الله تعالى، وحازوا مرتبة الشهادة، وكانوا "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه". لكن اين حصلت هذه المعاهدة وهذا الميثاق بين هؤلاء المؤمنين وبين ربهم؟ هل حصل في عالم الذر و قبل ان يأتوا الى الدنيا؟ أم في هذا العالم حينما جاء المؤمن وبايع الامام بايع القيادة الربانية؟ ثم؛ متى يصدق الانسان عهده و وعده؟ ذلك حينما يستمر بالاستقامة والصبر وتحدي الظروف الصعبة، و يستمر حتى يسلم الامانة، كما قال النبي الأكرم (ص): (فوق كل برٍ بر حتى يقتل المرء في سبيل الله فليس فوقه بر)، أي بمعنى أن يعطى الانسان كل ما لديه بما في ذلك نفسه الغالية في سبيل الله. لقد فعل ذلك جميع اصحاب الامام الحسين (ع) وأهل بيته.
لكن هل هذا هو نهاية المسيرة؟ كلا... فالآية الكريمة تقول: "فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر"، فمن هو الذي ينتظر بعد استشهاد المؤمنين والمضحين؟
هذا المقطع من الآية ينطبق على الامام السجّاد وعمته العقيلة زينب سلام الله عليهما، إن عائلة الامام الحسين (ع) هي التي حملت الراية من بعده رغم ظروف السبي القاسية والضغوطات النفسية الشديدة التي تعرض لها أهل البيت (ع) في الكوفة والشام، إلا انهم بمواقفهم البطولية أبقوا على جذوة النهضة الحسينية متقدة في نفوسنا، وتبقى كذلك على مر الاجيال.
كان من انصار الامام الحسين (ع) ومن أهل بيته شابٌ يدعى الحسن بن علي لم يستشهد في معركة الطف فاخذ اسيراً، بعد اصابته بجروح، ثم عافاه الله بعد ذلك، ومن نسل هذا الشاب خرج ثوار عظام سجلوا أروع الملاحم البطولية في سوح المواجهة ضد طغيان وظلم الأمويين، فابنه عبد الله وحفيده محمد ذو النفس الزكية، كانوا في قافلة الثورات التي اندلعت بعد واقعة الطف، وقد اختار الله تعالى مفردة (ينتظر) لأن كلمة الانتظار تعني عدم البقاء طويلاً بعد الشهيد، والاستعداد والتوثب المستمر لحين لحظة الانطلاق والانقضاض على جبهة الباطل في معركة قادمة ، وكم من المؤمنين تخلفوا عن ركب الشهداء في معارك الحق الفاصلة، لكن ما لبثوا أن التحقوا في أخرى ونالوا وسام الشهادة وسطعت أسمائهم على صفحات التاريخ، فهذا الامام امير المؤمنين سلام الله عليه في معركة أحد خرج منها مصاباً بسبعين جراحة بليغة، وحينما زاره النبي (ص) وهو في فراش المرض قال له: صبراً يا علي...! فقال الامام: يارسول الله هذا موطن الشكر وليس موطن الصبر... بمعنى اني حملت سبعين جرحاً، وكل جرح بمنزلة وسام في سبيل الله، لذا انا في موطن اشكر فيه ربي على هذه الأوسة التي منحني الرب سبحانه وتعالى إياها، ثم قال يارسول الله؛ قد فاتتني الشهادة... فقال له النبي: يا علي هي وراءك.
إذن؛ الذين لم يستشهدوا في معركة أحد أو أي معركة اخرى، فانهم لم يبقوا طويلاً حتى خاضوا معركة في ساحة وظروف أخرى، ونالوا الشهادة، لأنهم كانو منتظرين، فهم لم يجلسوا في بيوتهم، إنما حملوا الراية وكانوا مستعدين دائماً للتضحية بأنفسهم، وبما يملكون لتبقى هذه الراية عالية وخفّاقة ومن اجل ان تبقى كلمة الله تعالى هي العليا.
من الذي (ينتظر)؟
في الوقت الحاضر، وحيث نعيش ذكرى استشهاد الامام الحسين (ع) وأهل بيته واصحابه في واقعة الطف، اذا نتدبر في الآية القرآنية الكريمة نجد انها تنطبق علينا نحن الذين نقيم الشعائر ونحمل قيم ومبادئ الامام الحسين (ع) وننشرها الى العالم، بمعنى اننا من تشملهم الآية الكريمة "ومنهم من ينتظر"، فنحن نعد من المنتظرين الذين يحملون راية ابي عبد الله الحسين، وهي في الحقيقة مسؤوليتنا و واجبنا بان نكون اوفياء لتلك التضحيات، و ورثة لتلك المواقف البطولية التي سجلها شهداء الطف، والحق والانصاف نقول: ان الموالين لاهل البيت (ع) حملوا الراية خلال السنوات الماضية، ولو بنسبة معينة، ولم يدعوها تسقط أرضاً، فهذه الشعائر المواكب الحسينية المنتشرة في العالم من اقصى الشرق الى أقصى الغرب، وهذه الصيحات التي تعلو وترتفع في كل مكان تهتف: (ياحسين... ياحيسن...)، لهي دلالة على ان وجود موالين لاهل البيت من الذين التزموا نهج أمير المؤمنين وأبنائه الأئمة الهداة المعصومين، بقوا متمسكين ومصرين على حمل الراية وهم يعدّون من المنتظرين، وهذه هي مسؤوليتنا التي تتلخص في كلمة؛ ان نستمر على نفس النهج الذي سار عليه الامام الحسين (ع) و استشهد تحت رايته.
رسالة الحسين (ع)
الامام الحسين حينما خرج من مكة المكرمة ألقى خطبة عصماء هي جديرة بالدراسة حتى في مدارسنا الابتدائية والمتوسطة بل وحتى في الجامعات، فهو يشكل تراثاً عظيماً من تراث الاسلام، بدأ الامام الحسين خطبته وهو في يوم التروية، حيث كانت حشود الحجاج تستعد للوقوف في عرفات، قام في الناس خطيبا وقال: (خط الموت على ابن ادم مخط القلادة على جيد الفتاة، وما أولهني الى اسلافي اشتياق يعقوب الى يوسف.... الى ان قال: اعلموا اني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مفسداً إنما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي)، وفي بعض الروايات (في شيعة أبي) ثم قال: (وآمر بالمعروف وانهي عن المنكر). هذه الرسالة تمثل راية الحسين وهي الاصلاح والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، حيث إن الامر بالمعروف والنهي عن الممنكر من مفردات الاصلاح، فلم يكن الامام الحسين مؤسساً للشريعة، ولم يأتِ بدين جديد، انما المؤسس هو جده النبي الاكرم صلى الله عليه وآله، فهو الذي أسس وهو الذي أُوحي اليه، و هو الذي أنزل اليه القران، الذي حصل هو الانحراف في الامة، في البداية كانت متباطئة ثم اخذ الانحراف وتيرة متسارعة حتى اصبح الاسلام في وادٍ والمسلمون في وادٍ اخر، واصبحت الفجوة كبيرة بين المسلمين في عهد النبي وبين المسلمين في عهد يزيد.
وفي التاريخ صور وشواهد عديدة على هذا المآل الخطير الذي بلغته الأمة، منها ما حصل في عهد معاوية عندما كان يلفظ أنفاسه الاخيرة، فذهب الى المدينة المنورة وتوجه الى مسجد النبي الأكرم و وقف على أعلى مرقاة فوق المنبر وأجلس يزيد في المرقاة التالية، وجاء أحد المتزلفين من الذين باعوا دينهم بدنيا غيرهم فقام خطيباً ومعه السيف، وقال: امير المؤمنين هذا - واشار الى معاوية- فان مات فهذا - اشار الى يزيد- ومن أبى فهذا ثم استلّ سيفه من غمدهه وهو يشهره بوجه الحاضرين!
إن الحزب الاموي مارس الكثير من الاعمال وقام بخطوات عديدة لمحو الثقافة الدينية والايمانية من المجتمع واستبدالها بثقافة الجاهلية الاولى التي حاربها الرسول الأكرم وضحّى من أجلها المسلمون، وثبت صدقها وأحقيتها عقلاً و وجداناً. إذن، عندما يأتي اليوم الذي يقف رجل على منبر رسول الله وفي مسجده المقدس، ويتفوه بهكذا كلام والناس يسكتون، فمعنى ذلك ان المسلمين اصبحوا بعيدين جدا عن النهج الذي رسمه لهم الاسلام. فقد دعاهم الامام الحسين الى الاصلاح السياسي أولا، ثم الاصلاح في كل المجالات، يقول سبحانه وتعالى: "وان طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فاصلحوا بينهما"، ولذا نحن اليوم والحمد لله نقول بكل فخر واعتزاز ان راية الامام الحسين عامل وحدة بين المسلمين، وهي تحول دون الاقتتال والتمزق، وهو ما كان يطمح اليه الحكام الطغاة من عهد الامويين وحتى اليوم، لتسهل عليهم مهمة السيطرة على مقدرات الامة الاسلامية.
من هنا يجب على العاملين في الهيئات الحسينية، ان يكونوا عامل إصلاح، ولا يدعوا المجتمع يتمزق وينهار تحت وطئة المصالح الحزبية والعصبيات الفئوية، ولا يدعوا الكيان الواحد يصبح كيانين، والاثنين ثلاث وهكذا... إنما ينضوي الجميع تحت راية واحدة، هي راية الحسين (ع).
مسؤولية من يلون الشهيد
ربما تكون - والله العالم- مسؤولية المنتظرين أعظم من مسؤولية الشهداء، فالشهيد يسقط على الارض ويحلّق الى السماء ويكسب أجره من الله تعالى، لكن يبقى (المنتظر) عليه مسؤولية حمل الراية كل يوم، كما يتحمل مسؤولية الاصلاح في الامة، وهو مما جاء في رسالة الامام الحسين عليه السلام حين خروجه الى كربلاء، قال: (ولامر بالمعروف)، إذن، فان المتوقع من المؤمنين الذيي يشاركون في الشعائر الحسينية ان يقوموا بدورهم بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يدعوا المعروف مهجوراً بين الناس، إن كل عمل خير له فائدة، كما ان لكل عمل شر آثار في الدنيا قبل الآخرة، فاذا نرى حبس السماء للمطر او ان الارهاب لا يتوقف و جروح العراق لا يلتئم، و اذا رأينا ان الحكومة تتأخر في تشكيلها، لنعلم ان هناك ذنوب في المجتمع، يجب ان نسعى لعدم تكرارها والحدّ منها، والكل مسؤول، ولا يوجد ثمة رجل أولى بآخر في الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن الرسول الأكرم يقول: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)، ليحاول كل واحد منّا بالكلمة الطيبة وبالموعوضة الحسنة ان يقف أمام المنكر وفي نفس الوقت نأمر بالمعروف، حتى تتنزل النعم وتزول النقم.
نحن لا نتحمل في عاصمة العراق وجود الملاهي وأماكن الرذيلة، وليعلم الجميع ان هذه الذنوب الظاهرية لها آثارها أولاً على من يرتكبها وثانياً على المجتمع الذي لا ينهى عنها، ولنا عبرة في الاوضاع التي تعيشها المجتمعات المبتلية بداء الفوضى الاخلاقية، حيث التفكك الأسري والامراض الجنسية والظواهر الاجتماعية الخطيرة من قبيل انتشار المخدرات وظهور عصابات القتل والابتزاز والسرقة. وعليه لابد أن نكون يد واحدة في مواجهة الذنوب والامر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما من يتحدث عن الحرية فان طريقها الصحيح هو الذي يؤدي الى نظافة ونزاهة المجتمع، ولا يدفع ابناءه نحو السقوط في متاهات الامراض والظواهر الاجتماعية التي تلقي بالانسان إما خلف قضبان السجون أو على قارعة الطريق.
عندما نقف أمام ضريح الامام أبي عبد الله الحسين عليه السلام نقول في بعض الزيارات: (اشهد انك طهر طاهر مطهر من طهر طاهر مطهر طهرت وطهرت بك البلاد طهرت ارض انت فيها)، وعليه فنحن نريد مجتمعاً طاهراً ببركة الحسين (ع)، وفي كل سنة وخلال شهري محرم وصفر ننتظر رحمة الهية جديدة، لاننا نجد توجه الناس الى الله والى النبي الأكرم والى الامام الحسين صلوات الله عليهم، و توجه الناس الى القيم الالهية، وكلما زاد هذا التوجه و زادت الضراعة الى الله عزّ وجل كانت هناك فرص لنزول الرحمة الالهية. والفئة التي تواصل حمل هذه الراية الحسينية – الربانية هي التي تكون مصداق الآية الكريمة "من المؤمنين رجال صدقوا..."، وهم الذين يبقون بعد الشهداء الابرار، أما الاخرون الذين الذين يقفون على الجانب الآخر فهم: "ويعذب المنافقين ان شاء" وهم الذين يسكتون على الباطل والانحراف الاخلاقي ويضيعون دماء الشهداء، لكن ثمة فرصة يعطيها الله تعالى: "ويتوب عليهم ان الله كان غفورا رحيما".
|
|