قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

راية الثقافة .. بين الأمراء والعلماء
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
الصراع الابدي الذي يلخص فلسفة الحياة، وتتجلى فيه حكمة وجود الانسان في هذه الحياة، يعبّر عن نفسه بصور شتّى؛ فمرة يكون صراعاً سياسياً، واخرى اجتماعياً، وثالثة عسكرياً، ولكن ابرز صور هذا الصراع هو الصراع الثقافي، ذلك أن الانسان هو المخلوق الوحيد الذي يستطيع تحديد وجهة حياته المتمثلة في الثقافة، فثقافته هي التي تحدد كل مفردات حياته، ولا فرق في ذلك بين انسان واخر مهما كانت الفروق بينهما .
ولأهمية الثقافة لابد ان يكون الرجال الذين يحملونها ويرفعون مشعلها ملتزمين بها، صابرين على الاذى الذي قد يلحقهم بسببها . فاذا كان حامل هذه الثقافة رجلا جبانا ضعيف الارادة فمن الطبيعي ان يبيعها للاخرين بثمن بخس، وفي هذه الحالة سوف تغرق الجماهير في بحر الظلام، وهذا يعني ان الفساد سيغمرهم، والانحراف يهيمن عليهم، وتخيم عليهم الضلالات، ويكون الكفر والنفاق ديدنهم.
الثقافة من اختصاص العالم
قيل لأمير المؤمنين عليه السلام: من خير خلق الله بعد ائمة الهدى ومصابيح الدجى...؟ قال: العلماء اذا صلحوا، قيل ومن شر خلق الله بعد ابليس وفرعون ونمرود و... قال: العلماء اذا فسدوا و المظهرون للاباطيل الكاتمون للحقائق... وفي الحقيقة فان الامام علي عليه السلام قد حدّد داء الامة ودواءها.
وفي حديث آخر يحدد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله سعادة الامة او شقاءها بصلاح او فساد طائفتين هما: العلماء والامراء، حيث قال صلى اللـه عليه وآله: صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت امتي، واذا فسدا فسدت أمتي، قيل: يا رسول الله ومن هما؟ قال: الفقهاء والأمراء. والملاحظ ان النبي صلى الله عليه واله قد بدأ بالعلماء، لان الامير قد يكون قويا مقتدرا ولكنه لا يطالب بالوعي والعلم والثقافة، والدعوة الى الله، وحتى لو كان الامير عالما فانه لا يستطيع ان يطبق العدالة في مجتمع فاسد متخلف؛ فالمجتمع يجب ان يكون صالحاً او على الاقل يحمل بذور الصلاح، والذي يصلح هذا المجتمع هو العالم، فاذا اصبح العالم هو الداء ، فلا دواء!
فالعالم هو الذي يجهز الناس بسلاح الثقافة، وهو الذي يمنحهم الثقة بانفسهم لكي ينهضوا للمطالبة بحقوقهم من خلال نشر الثقافة الرسالية، والسبب في اقتصار المسألة على العلماء دون الأمراء، هو ان العلماء يتعاملون على الارواح والنفوس، فيما الامراء يتعاملون على الابدان، وفي محاورة جميلة جرت بين الملك الايراني البائد (شاه ايران) وبين الامام الخميني (رحمه الله)، وكان الاول يحاول إفراغ الثورة الاسلامية من محتواها، فقال للامام الخميني: لتعلم إني مسؤول عن حياة الشعب الايراني. فاجابه الامام الخميني بالقول: لكني مسؤول عن دنياهم وعن آخرتهم معاً.
إذن، هنالك مسؤولية اخلاقية وحضارية - إن صح التعبير- أمام العلماء والطبقة المثقفة في المجتمع الاسلامي، ليس بوسعهم التنصّل عنها او التقليل من شأنها، او تحويلها الى طرف آخر. فالعلماء هم الذين يمثلون القيادات التي يجب ان نعمل ونتحرك تحت لوائها، ومع هذه القيادات سوف نحشر يوم القيامة، يقول القرآن الكريم: "يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ اُنَاسٍ بإِمَامِهِمْ فَمَنْ اُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَاُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً" (الاسراء /71).
التجاذبات السياسية .. واجهة الاحداث
عادةً ما تكون السياسة واجهة الأحداث في بلاد العالم، أما التي تمتلك عمقاً حضارياً و إرثاً ثقافياً، لن تكون هذه السياسة وتجاذباتها وتفرعاتها سوى واجهة في ساحة الاحداث، لأن مؤسسات الدولة من سلطة تنفيذية او تشريعية أو جيش او غيره، إنما تستند في أحكامها وتحركاتها على ثوابت ثقافية تنتمي اليها وتدافع عنها، بل وترى التضحية من أجلها شرفاً عظيماً. واذا تحدثنا سلفاً بأن العالم هو الذي يجب ان يحمل راية الثقافة والوعي في المجتمع، فان المقصود قطعاً ذلك العالم الذي يعبّر عن هوية المجتمع وانتمائه وتاريخه، وكل ذلك يعد مكوناً للثقافة، - مثلاً- عالم الاجتماع او عالم الاقتصاد، بامكانه ان يترك بصماته على ثقافة مجتمعه وعلى سلوكه بشكل أو بآخر. وهنا تكمن اهمية تصدي العالم لأمر الثقافة، لأنه بذلك سيضمن سلامة المجتمع من النزوات السياسية والسلطوية التي ربما تسوق المجتمع الى المكاره و الكوارث، كما حصل في العراق، حيث عندما انسحبت الثقافة من المجتمع أخذت مكانها وعلى الفور الديكتاتورية الحزبية ثم الفردية، ثم الحروب المدمرة، فبدلاً من أن يحمل الشعب ثقافة أصيلة ترفع من شأنه أمام العالم، حمل ثقافة خاصة بشخص (صدام)، وهو لم يكن سوى انسان معقد ومنبوذ في اسرته ومحيطه الاجتماعي، وكل همه كان الانتقام من هذا المجتمع. وحصل ما حصل... ومن هنا تحديداً تأتي اهمية تصدي القوى الايمانية لحمل راية الثقافة وعدم التهاون والتخاذل، لأن المسألة جد مهمة وخطيرة، وتكرار ما سبق، يعد بالحقيقة جريمة نكراء بحق الشعب العراقي وأي شعب عاش ويعيش تجربة مماثلة.
وليس خافياً وجود قوى منافسة في الساحة تسعى جهدها لأن تجد موطئ قدم لها في معترك الثقافة الأبدي، فكيف لها ان تقبل او تنحني للثقافة الاسلامية – مثلاً- وهي صاحبة باع طويل في النشاط الثقافي والفكري، ولها سجل حافل من الاعمال التي ترى انها غير خاطئة! فضلاً عن انها ترى في هذه الثقافة حديثه العهد في الوضع السياسي الجديد، وان التطورات السياسية هي التي أوجدت المناخ الجديد والمنفتح أمام العمل الثقافي الحر.
تجارب من القرآن الكريم
في مسيرة العمل الثقافي هنالك مسألة لابد من أخذها بنظر الاعتبار، وهي المسبقات الثقافية، من عادات وسلوكيات طبعت المجتمع بسبب السياسات الماضية، فالتغيير السياسي ليس كل شيء، فمن السهل جداً في العالم – لاسيما الثالث منه- تغيير رئيس وإحلال آخر مكانه بانقلاب عسكري او تزوير انتخابات أو غير ذلك، لكن من الصعب جداً تغيير نمط معين من السلوك والثقافة لدى شعب ما، إذ لا يمكن تصور انقلاب ثقافي على ثقافة المجتمع! إنما لابد من العمل المدروس والتقدم خطوة خطوة الى الامام، وقد كشف لنا القرآن الكريم جميع هذه الموضوعات بشكل غير مباشر، وعلينا ان نستخلص منه ارشاداته ووصاياه في هذا الصدد من خلال استخدام وعينا وفطنتنا؛ فقصة بني اسرائيل تقدم لنا حالة من التأثر بالثقافة السابقة، وذلك بعد أن منّ عليهم الله تعالى بالنصر والخلاص من فرعون وبطشه ودمويته، فقد انقلبوا على اعقابهم وعادوا الى عبادة الاوثان رغم ان نبيهم موسى عليه السلام حررهم من أسر وعبودية فرعون، وذلك بمجرد أن رأوا قوماً عاكفين على عبادة الاصنام، وهذا دليل على أن الثقافة الفرعونية - الوثنية التي درجوا عليها لم تنمحي من ذاكرة بني اسرائيل و وجدانهم.
وفي الحضارة الاسلامية فان القرآن الكريم يصف المسبقات الفكرية والثقافية بانها (جاهلية)، وجاءت هذه العبارة بعدة اشكال منها موجهٌ للرجال: "إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ" (الفتح /26)، كما جاء الخطاب الى النساء ايضاً: "وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى" (الاحزاب /33)، بل وحذر من هذه الجاهلية في مجمل التعامل الانساني، حيث قال تعالى: "أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ" (المائدة /50)، وفي تاريخنا الاسلامي الكثير من الشواهد والقصص التي تروي لنا كيف ان صحابة ومقربين من الرسول الأكرم ومن أهل البيت عليهم السلام ايضاً، كانت عاقبة أمرهم الى سوء، ولعل حادثة الخذلان الشهيرة في معركة أحد أبرز الامثلة على ذلك، حيث نزلت الآية القرآنية الكريمة تستنكر فرار أولئك الذين صدقوا فوراً بالنداء الذي يقال انه صدر من ابليس بان (قتل محمد)!
من اجل الخروج منتصرين على العلماء الملتزمين والرساليين اتباع خطوات منها خطوتان:
الأولى: مكافحة الرواسب الثقافية وازالتها من الاذهان من خلال تقديم البديل الافضل والاحسن، وتجنب الصراع المفتوح من دون استعداد مسبق. ومن البدائل؛ ضخّ روح الأمل بالمستقبل والتعريف بالحقوق الاساسية للانسان في مقدمتها الحرية.
الثانية: رصّ الصفوف بين القوى الايمانية، وتوجيه الطاقات والقدرات نحو خط واحد وهدف واحد، ثم ان الوحدة من اهم العناصر التي امرنا الله تعالى ان نوفرها في انفسنا اذ قال سبحانه وتعالى: "إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الانبياء /92). فعندما يكون العمل مشتركاً تكون الغاية مشتركة و واحدة أيضاً، ومصداق هذا نراه جليّاً في موسم الحج، كما يؤكد الاسلام ان نوجده في طقوس ومناسبات أخرى خلال ايام حياتنا، مثل صلاة الجماعة أو مآدب الافطار في شهر رمضان المبارك، وهكذا تكون الاعمال والمشاريع الثقافية المترابطة والمتواصلة مع بعضها والتي تؤتي ثمارها كل حين. على عكس المشاريع والاعمال المتناثرة التي تعبر عن مبادرات فردية خاصة، او افكار حزبية او فئوية لا تنشر جناحها على ربوع العالم الاسلامي، بل العالم بأسره.