الجمود الثقافي وراء وجود الأنظمة السياسية الفاسدة
|
*محمود ظاهر
من خلال نظرة بسيطة وخاطفة على الثقافات الناجحة والسائدة في التاريخ نجد انها نجحت في الوقوف على مسافة متساوية بين الثابت و المتغير. والمعروف في تاريخ الثقافات ان الثوابت تتواصل بين جيل وآخر، وفي الوقت نفسه تدور هي حول محور ثابت، الامر الذي يجعل العلاقة بين الحركة والثبات علاقة اصيلة، وهذه العلاقة قائمة فيما يتصل بالثقافة والفكر، والقيم والاخلاق، والنظرية والتطبيق. فكل حركة ثقافية لها جانبان؛ الجانب الثابت الذي يمثل المحور، والجانب المتحرك الذي يمثل المتغيرات والتطورات. والمشكلة الرئيس التي تعاني منها بعض الامم، عدم وجود حالة التوازن والتعادل بين الثوابت والمتغيرات. لنأتي بمثال من التاريخ؛ فان الأمم التي عارضت وناهضت الرسالات السماوية، كانت كل مظاهر حياتهم تعد من الثوابت، فلم يكونوا يؤمنون بالمتغيرات حتى في ملابسهم، و طريقة كلامهم، وعاداتهم في الحرب والسلم، وعباداتهم وطقوسهم... كانت جميع هذه المظاهر تعد عندهم من المقدسات والثوابت التي لا تقبل التغيير، ومثل هذه المجتمعات أصيبت بالتحجّر، ولذلك انهارت بمجرد اصطدامها بالتغيير والتطوير، لانها لم تكن قادرة على امتصاص الصدمة.
لا للجمود ولا للميوعة
نفس هذه الظاهرة مازالت سائدة في مجتمعاتنا، ومثالٌ من الحال الحاضر، ما نشهده من جمود في نظام التعليم الديني؛ فقديما كان المسلمون يتعلمون القرآن الكريم ثم الفقه والتفسير والحديث، وقد كان هذا هو مجمل التعليم السائد في مجتمعاتنا، في حين ان العالم قد تطور، ودخلت التعليم حقول جديدة مثل حقل الاقتصاد والاجتماع وعلم النفس والطب والقانون والسياسة، ولكن الاجهزة التعليمية في بلداننا الاسلامية بقيت متحجرة على النظام القديم.
وعندما دخلت الثقافة الغربية بلادنا بكل معطياتها وتطوراتها، شعرت اجهزتنا التعليمية انها لا تستطيع ان تواجه النظم المعقدة والواسعة، ولذلك انهارت لانها كانت متحجرة لاتمتلك من المرونة والقدرة على استيعاب التطور ما يمكنها من التكيّف مع التطور القادم والهائل الذي حدث في العملية التعليمية، بل والتفوق عليه من خلال منافسته وتحديه.
وفي المقابل فان هنالك أمثلة عديدة عن المجتمع الذي يمكن وصفه بـ (المائع) ؛ أي الفاقد للثوابت، والذي يتبنى المتغيرات اكثر من الثوابت، والامثلة كثيرة من مجتمعاتنا الاسلامية ايضاً: فعندما فقدت القيم والمبادئ التي كان المجتمع الاسلامي الأول يرتكز عليها ويخرّج على ضوئها العلماء والعباقرة، فانه بات فريسة لقيم وثقافات هي بالحقيقة ثوابت وقيم متجذرة لدى أمم أخرى، فوجدت أنها مجبرة على الأخذ بها، لتظهر على الواقع على شكل افرازات من قبيل الاباحية الاخلاقية والتفكك في العلاقات الاسرية وشيوع قوانين مجحفة في التجارة والاقتصاد في مقدمتها الربا.
ان من الخطير جداً ان لا تكون للانسان مقاييس لمعرفة الثوابت وتمييزها عن المتغيرات، وفي الحقيقة فان هذه الظاهرة تعد أخطر حالة من الممكن ان يعيشها المسلمون، ومن أهم وظائف المشروع الحضاري الديني لمجتمعاتنا في العصر الراهن فرز هذين النوعين من القيم؛ أي القيم التي ينبغي ان تكون ثابتة، والقيم التي ينبغي ان تكون متغيرة.
التغيّر؛ نظرية اسلامية أصيلة
ان القيم الاسلامية تعتمد بدورها على هذه النظرية؛ فالاسلام يقرر ان هناك قيمة ثابتة لا يمكن ان تتغير تتمثل في وجود الخالق سبحانه الذي هو باق أبدي سرمدي، وان كل ما يتصل به تعالى هو ايضا ثابت، وكل ما اتصل بالخلق فهو متغير. فكل شيء هالك إلا وجهه، وكل شيء فان والذي يبقى ويخلد هو وجه ربنا ذو الجلال والاكرام. بينما الطبيعة في حالة تغير مستمر، ونظرية التغير والصيرورة في العالم هي نظرية اسلامية اصيلة؛ على سبيل المثال فان القرآن الكريم يقرر ان كل شيء متغير حتى الجمادات. فالانسان يعتقد ان الجبال بضخامتها وصخورها الهائلة ثابتة، في حين ان القرآن الكريم يقول: "وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ" (النمل / 88)، وكأنه يريد ان يفهمنا ان نظرتنا الى الحياة، والطبيعة والمجتمع والى اي حقل من حقول الحياة يجب ان تنبع من مبدأ التغيّر في الطبيعة.
ولعل هناك من يتساءل قائلاً: وما الضير في ان تكون نظراتنا ثابتة ؟
هذا في حين اننا عندما نتدبر في حياة الانسان، وبالذات في حالاته النفسية نجد ان النظرة الثابتة الى الحياة هي المسؤولة عن الكثير من الاخطاء الفكرية والنظرية لدى الانسان. ولتوضيح ذلك نورد مثالا من عالم الاخلاق، وآخر من عالم السياسة، لان حديثنا يتصل في الواقع بالقضايا الستراتيجية الهامة والخطوط العريضة.
فمن واقع الاخلاق نجد ان الانسان الذي يزعم -مثلاً - ان صحته مستقرة، ستعتري حياته اشكاليتان؛ اولاً: انه سوف لا يشكر الله تبارك وتعالى على نعمة الصحة، ثانياً: سوف لا يحافظ عليها استنادا الى اعتقاده انها مستقرة وغير متغيرة، فتراه لا يبحث عن العوامل التي ادت الى صحته، ولا عن العوامل التي تسبب مرضه. بينما الانسان المؤمن بالتغيّر والتحول، نراه يحافظ على صحته وسلامته لاعتقاده الجازم ان ثمة عوامل تغيير ربما تقلب صحته المتسقرة الى صحة متدهورة.
ومن عالم السياسة فيتمثل في تساؤلات من قبيل: من هو المسؤول عن بقاء الانظمة الفاسدة؟
للجواب عن هذا السؤال: ان السبب الرئيس هو النظرة الجامدة تجاه السلطة. فالانسان يعتقد بان الحكم باقٍ، ومن غير الممكن تغيير حاكم بهذه السهولة، أو ثمة صعوبات جمّة في هذا الطريق، في حين ان الله سبحانه وتعالى يقول: "وَتِلْكَ اْلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ" (آل عمران / 140)، والايام هنا تعبير عن السلطة. لقد أبت سنة الله عز وجل ان تبقى جماعة حاكمة الى الأبد، وبناء على ذلك فان الانسان ليس هو السبب في اسقاطها، بل ان أجلها المحتوم هو من يقرر سقوطها وانهيارها.
وهكذا فان مسؤولية بقاء الانظمة الفاسدة قائمة على اساس النظرة الشيئية والجامدة الى هذه الانظمة. فالنظام مثله كمثل كرسي قائم على قواعد، فمادامت القواعد موجودة فان النظام موجود ايضاً، اما اذا انهدت هذه القواعد فان النظام سينهد ويسقط ايضاً. من هنا اذا أردنا ان نحظى بثقافة الحياة، لا مناص لنا من ان نوازن بين الثوابت والمتغيرات في عناصر الثقافة.
|
|