قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

حلول لإشكاليات على حرية الرأي
*أنور عزّالدين
عند الحديث عن حرية الرأي في الإسلام تثار عدة اشكالات، منها: موضوع العقوبات الجزائية (حدود وتعزيرات)، ومنها قضية الارتداد وكيفية تعامل المشرع الإسلامي مع المرتد، حيث أن الرأي الشائع هو قتله، وتطليق زوجته منه، واقتسام ميراثه.
حوار الفكر بالفكر
وتزداد الإشكالات حضورا مع حضور بعض الممارسات العملية، حيث قامت فئات بدعاوى (حسبة) بالنسبة لبعض الكتاب والمؤلفين على أن مفاد كتاباتهم يعني الارتداد مما يعني ترتب تلك الآثار المذكورة. بدايةً لا بد من التمييز بين نوعين من الأحكام: ما هو غير محدود بالزمان والمكان أو الاشخاص وهو الذي تعبر عنه الأحاديث بأن (حلال محمد حلال إلى يوم القيامة وحرامه حرام إلى يوم القيامة)، بمعنى أن هذا الحكم لا يخضع لتطور الزمان ولا لتغير الأحوال ولا مجال للاجتهاد في نفيه أو تغييره. وبين ما يقبل الاجتهاد فيه، وما يكون للزمان أو المكان أو الأشخاص أحيانا مدخلية فيه، فإذا تغيرت تلك المعطيات، فإن التغير في نفس الحكم يكون طبيعيا، إذ أن الأحكام تتبع العناوين، ومع فرض تغير العنوان على أثر تغير الزمان أو المكان فلا مانع من تغير الحكم، ومن ذلك ما يسمى بالأحكام الولائية أو التدبيرية. فالنبي الأكرم كونه قائداً للأمة و للمجتمع آنذاك، قد يتخذ بعض الاجراءات والأعمال من أجل إدارة ذلك المجتمع المحدود بالزمان والمكان، ولهذا فإنه قد لا تكون لها صفة إلزامية دائمة وفي كل المجتمعات.. وذلك أن أصل تشريعها كان محدودا بذلك الزمن أو المكان أو المجتمع.
من هنا ينبغي التمييز بين ما هو من الأحكام الثابتة وبين ما هو ممارسة من المسلمين؛ حكاما أو محكومين في فترات تاريخية مختلفة، إذن؛ المقدس ولازم الإتباع هو الأول دون الثاني. وتارةً تعنون الممارسات العملية بعنوان سيرة المتشرعة الكاشفة عن استنادهم إلى حكم شرعي ثابت، فهو الحجة. وأما في غير هذه الصورة فتكون تلك الممارسات قابلة للأخذ تارة والرد أخرى.
وهذا يبلور رؤية الاسلام إزاء مفهوم الحرية، إذ ينهانا عن التعامل مع الأفكار المخالفة بقوة البطش وإلغاء الآخر، ذلك أنه لم يثبت يوما أن القوة استطاعت أن تنهي وجود الفكرة، فهي قد تختفي عن السطح لبعض الوقت، لكنها تبقى تتفاعل تحت السطح وتكبر ثم تظهر بشكل أو بآخر على صعيد المجتمع ولو بعد حين. وعليه فان الفكر يواجه بالفكر، والرأي بالرأي المضاد، والشعار القرآني الذي هو قانون في التعامل مع الأفكار هو: "قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين" وقد تكررت هذه المطالبة بالبرهان والدليل مراراً في القرآن الكريم، رغم أن الطرف المقابل كان كافرا جاحدا.
نظام العقوبات وحرية الرأي
لا يوجد مجتمع بشري يخلو من نظام للعقوبات، وإنما قد تعارف العقلاء على مثل هذا النظام - مع اختلافهم في تفاصيله- لكي يتحقق احترام النظام الاجتماعي، ومن خلاله تتأدى حقوق الناس ولا يعتدى عليها. وبامكان الإنسان أن لا ينتمي إلى ذلك المجتمع فلا يُطبق عليه نظام عقوباته، مثلما هو الحال بالنسبة إلى المسيحيين في بلاد المسلمين، فلا يجرى الحد على المسيحي الشارب للخمر ما دام في منزله. ولكن الأمر يختلف في الظهور الاجتماعي إذ أنه ما دام قد انتمى لذلك المجتمع فإنه يلتزم قهرا بلوازمه. وهكذا الحال بالنسبة إلى المسلم الموجود في هذا المجتمع فإنه ما دام اختار الانتماء إليه، فإن ذلك يعني أنه يلتزم بقوانينه.
وليس هذا خاصا بمجتمع المسلمين - وإن كانت عقوبات الإسلام تختلف عن غيرها وإنما كلامنا الآن في أصل العقوبات والخضوع لها - بل هو موجود في سائر المجتمعات. فأنت تأخذ تأشيرة دخول إلى بلد أوربي، فيلزمك هذا بالأحكام العامة هناك، ولا تستطيع أن تقول أنا أقود سيارتي بالطريقة التي أريد، أو أمارس العمل الذي أحب.
ان نظم العقوبات هو جزء من نظم المجتمع، والذي ينتمي لذلك المجتمع لا بد أن يقبلها. وبالتالي لا تعارض بين العقوبات كنظام اجتماعي مع حرية الرأي، إذ تكون من الأمور التعاقدية، التي يوجبها الإنسان على نفسها ضمن تعاقد بين طرفين، فإنه يستطيع الإنسان أن لا يدخل في ذلك التعاقد من البداية ولا يوجب على نفسه شيئا، لكنه ما دام قد دخل في ذلك فإنه ألزم نفسه بما لا يستطيع معه المخالفة والعمل من غير قيود.
الوجود الطبيعي لـ(أهل الكتاب)
الناظر إلى التشريعات التفصيلية في هذا الموضوع ينتهي إلى أن الدين الإسلامي، قد جعل وجود المسيحيين واليهود بل والمجوس ايضاً في مجتمعات المسلمين وجودا طبيعيا وعاديا، وقد شرع أحكامه مبنية على ذلك. فتشريع قانون الزواج من أهل الكتاب، وما يستتبع الزواج من علاقات عاطفية ومشاعر محبة متبادلة، بل وتآلف وتناسب بين عائلتين على الأقل، حيث سيصبح المسيحيون (أخوال) المسلم وخالاته وأجداده لأمه. لا يمكن معها أن نفهم غير أن الدين الاسلامي ينظر إلى هذه الجهة نظرة طبيعية.
وربما يقال: أن هذا الكلام مخالف لما ورد من توجيهات قرآنية تحث على الغلظة عليهم كونهم من مصاديق المشركين، إلا أنه يمكن القول إن بعض الآيات التي ورد الحديث فيها عن المشركين منصرفة عن أهل الكتاب، ويمكن أيضا أن يكون التفريق على أساس بداية الدعوة ونشوء الدين، وبين استقامته وثباته. فإننا قد وجدنا أن النبي الأكرم قد وادع اليهود في أكثر من مكان، وايضاً ومسيحيي نجران وكتب لهم بذلك عهودا. بل إنه عندما قامت الدولة الإسلامية، وكان فيها هؤلاء صاروا (أهل ذمة) و(معاهدين) وفي اللفظين من معنى التعاقد والالتزام من قبل الدولة ما لا يحتاج إلى شرح وتفصيل.
ولعل الناظر في تاريخ المسلمين يرى أن وجود أهل الكتاب، وحياتهم كانت طبيعية في مجتمع المسلمين أيام الرسول، فهم يبيعون ويشترون ويُقرضون ويقترضون، واستمر ذلك إلى آخر أيام النبي الأكرم صلى الله عليه وآله. كما أن إطلاقات المعاملة بالتي هي أحسن، و "قولوا للناس حسنا" تشمل هؤلاء سواء في صريح بعضها وفي ظاهر الآخر، حتى فيما يرتبط بالمسألة العقائدية التي هي محل انتصار وحماس عادة، فضلا عن التعامل الاجتماعي.
واللافت ان الإسلام لم يتدخل في مصادرة حق المسيحيين في صياغة قوانين للأحوال الشخصية تناسب شعائرهم، وطبيعة نظرتهم الدينية الى الزواج – مثلاً- وغيرها من المسائل الاجتماعية والاقتصادية، فنراه يبيح مناكحهم على قاعدة ان (لكل قوم نكاح). ما يعني ان العلاقة بين زوجين مسيحيين هي علاقة شرعية تترتب عليها كل الآثار المنصوص عليها في القوانين المسيحية، مضافا الى ما يفترضه الإسلام من حدود تكون بمثابة الضابط لعلاقة المسلم بالمسيحية في حال تمت أي علاقة زوجية بينهما. وهذا الامر يشهد من ناحية اخرى على حليّة زواج الرجل المسلم من المرأة المسيحية حتى لو بقيت على دينها. بل ان الإسلام يكفل لهذه المرأة المتزوجة من رجل مسلم حرية عبادتها وذهابها الى الكنائس لتمارس معتقداتها الإيمانية. فقد ورد في صحيح محمد بن مسلم عن أبي جعفر الباقر عليه السلام: (سألته عن نكاح اليهودية والنصرانية فقال: لا بأس. أما علمت انه كان تحت طلحة بن عبيد الله يهودية على عهد النبي). وصحيح معاوية بن وهب عن ابي عبدالله الصادق عليه السلام: (في الرجل المؤمن يتزوج اليهودية والنصرانية، فقال: اذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية والنصرانية؟ قلت له: يكون له فيها الهوى، قال: ان فعل فليمنعها من شرب الخمر وأكل لحم الخنزير).
أما في الحرية الاقتصادية، فان الإسلام أقر عمليات التبادل التجاري فيما بين المسيحيين، بما فيها تلك المحرمة على المسلمين كعمليات بيع وشراء الخمر والخنزير. بل ان الإسلام وصل في مبانيه الفقهية الى وجوب ضمان المسلم ما أتلفه للمسيحي. فلو ان مسلما أراق خمرا لرجل مسيحي لتحمّل ثمنه مع أنه لا ثمن للخمر في الإسلام، ولا صحة لأية عملية شراء او بيع للخمر بين المسلمين.
المحاور الآنفة الذكر، تدلنا على عمق وسعة التعاطي الاسلامي مع مفهوم الحرية، وهنالك بحوث فقهية معمّقة عكف عليها العلماء في الحوزة العلمية، الى جانب بحوث لمفكرين وكتاب اسلاميين خلال السنوات الماضية تناولت هذا المفهوم ولم تترك زاوية فيه إلا وسلطت عليه الضوء واشبعته إثراءً ونضوجاً، لكن تبقى المشكلة دائماً في التطبيق، إذ تتدخل عوامل عديدة تجمّد كل ما توصل اليه الباحثون والعلماء حول الحرية في الاسلام، بحجة ان المستفيدين من هذا المفهوم الاسلامي سيضرون بالاسلام وبالمسلمين. الامر الذي يستوجب إعادة قراءة للفكر الاسلامي الاصيل في ضوء القرآن الكريم والعترة الطاهرة لوضع النقاط على الحروف وبلورة الفكرة أكثر حتى لاتكون عرضة للتحوير او مصدر للاختلاف، ولتكون جزءاً ثابتاً في المشروع الحضاري الاسلامي.