الشاعر بين الاصالة والإبتكار
|
علي ياسين
بيئة الشاعر جزء من تجربته ولا مفر له من الاستجابة لاتجاهات العصر الذي يحتويه، والشاعر المطبوع في رأي نقاد الادب ودارسيه هو الذي يأتي بالافكار غير المسبوقة وهذا في مقياسهم هو الاصالة وسمعة الابداع في الشعر، أما الاستعارة فهي نقيض ذلك ولكن الكثير من الشعراء الكبار يردد الأفكار السالفة والخواطر والأفكار والاحاسيس المسبوقة وقد يتعرضون من خلال ذلك الى الإتهام بأنهم مقلدون وبأن نصيبهم من الابتكار والقدرة على التجديد محدود جداً.
إن الشاعر المطبوع يفيد من تجاربه وتأثراته ونزعاته وماحصله في دراسته ويتخذ ذلك كله مادة ويستغل كل قواه الفكرية والعاطفية في تنظيمها وتنسيقها وإشادتها و بنائها وهو يستعين على ذلك بما يستخلص من التقاليد المرعية والأحكام والنظريات السالفة ومدى معرفته بالطبيعة البشرية وما يستمده من العقائد السائدة والآداب الغالبة فهو يفيد من تجاربه، والشاعر لم ينفرد بخلق ديانته وعقائده ومألوف نظراته الأخلاقية ولا حتى نزعاته النفسية وإنما يستمد كل ذلك من إتجاهات عصره ومدى تأثره به وهو يضيف الى هذه المادة المتجمعة ليلقي منها الضوء على المستقبل فهو لا يقف في الميدان منفرداً وإنما يتطلع الى ماحوله ويأنس بما يرتاح إليه ويستصوبه من الآراء والمعتقدات ومختلف الاتجاهات.
والشاعر يستعير ويقتبس ويمعن في الملاحظة والبحث والتقصي ليظفر بالذخائر والنفائس ولا يرمى من أجل ذلك بعدم الأمانة ونقص الأصالة والعامل الهام هو كيف تناول المادة التي استعارها وكيف أفاد منها وأنماها وزاد عليها وأضاف من عنده ما يزيدها تألقاً ولمعاناً وبهجة وإشراقاً وعمقاً وإتساعاً، ومادام بعيداً عن التقصير في التسامي بها والإضافة اليها وتجميلها، وتصحيح ما قد يكون من الاخطاء والانحراف واستكمال ما قد ينقصها من المزايا والمحاسن فإننا لا نستطيع أن ننكر عليه أصالته وإجادة أدائه.
فالشاعر ينتفع بالحِكَم المأثورة والأمثال المضروبة والكلمات الخوالد ويجعلها جزءاً من مبتكراته في الأدب ويلقي عليها ظل شخصيته ويطبعها بطابعه لا يوجه إليه الإتهام بالإغارة على التراث الأدبي والفني، ومعروف أن الكثير من الكتاب والشعراء يفيدون كثيراً ممن يشبهونهم في المزاج والإتجاه الفكري والفني وقد كان المتنبي يشبه الشاعر أبا تمام الطائي في ميله الى الحكمة ونظراته النافذة للحياة والمجتمع ولذلك عني عناية خاصة بدراسة شعر أبي تمام وقد روى العبيدي أنه لما قتل المتنبي في طريق الأهواز وجد في خرج كان معه ديوانا الطائيين بخطه وعلى حواشي الأوراق علامة كل بيت أخذ معناه وسلخه.
وإذا نظرنا الى هذه الرواية بعين الفاحص المتأمل نجد أنها لا تنال من أدب المتنبي، وإنما تدل على إنكبابه على الدرس والحرص على الإفادة من الآثار الأدبية الممتازة للمتقدمين وبخاصة الذين يشبهونه في المزاج والإتجاه.
والشاعر أبو تمام شغل بإعداد ديوان الحماسة المعروف حينما ذهب الى عبد الله بن طاهر في خراسان وعاقته العوائق الجوية عن سرعة العودة الى مستقره وقد دل بحسن اختياره للأشعار التي اختارها في هذا الديوان على مدى ثقافته وسعة إطلاعه، والشاعر الانكليزي شكسبير لم يبتكر موضوعات رواياته وإنما استمدها من الكتاب والشعراء الذين سبقوه والواقع إن جانباً كبيراً من الفن يقوم على المحاكاة والإفادة من براعة المتقدمين وحسن تناولهم لمشكلات الحياة والمجتمع وكثير من التأملات التي استغرق فيها الشعر وقد لا تكون أفلتت من الشعراء السابقين والحكمة القائلة إنه لا جديد تحت الشمس تنطوي على معنى يستحق النظر والتقدير قبل توجيه الإتهام بالسرقة والسطو على المعنى والأخيلة والأفكار والأحاسيس والشاعر قد يجيد في الاختيار في محاكاة المتقدمين وقد يتعرض للإخفاق والتقصير مهما تكن كفايته وسوابق تفوقه وإجادته وما يعجب به الفنان وفي آثار سابقيه قد يبعثه الى الرغبة في محاكاتهم ومحاولة الاجادة والتفوق فيه وقد يكون من الظلم والرغبة في الإساءة والنيل من السمعة والمكانة المبادرة الى اتهام كبار الشعراء بالانتهاب والسرقة الذي أولع به كثير من النقاد و المؤلفين في الأدب العربي ولعل هذا من أسباب إقلاع كثير من النقاد المحدثين عن سلوك هذا السبيل ودفعتهم الى الاعتدال والترفق في إتهام كبار الشعراء – وفي طليعتهم المتنبي – بالسطو والسرقة وهم مصابيح الفكر وفي طليعة الحكماء والمبتكرين المجردين.
|
|