الوظيفة السياسية في المراثي الحسينية
|
علي حسين يوسف
لم تكن مراثي الإمام الحسين (ع) بعيدة عن السياسة وصراعاتها، ققد رافق الشعر الحسيني العراقي الحدث السياسي الداخلي والخارجي وصار الشاعر يعالج من ضمن ما يعالجه في المرثية قضايا الوطن والناس فقد عالجت من قبل مراثي الكميت والأسدي ودعبل الخزاعي وغيرهما من شعراء أهل البيت (ع) القضايا السياسية ورافقت أحداث الأمة كما طالبت بحقوق الناس المهدورة ونددت باستبداد الحكام الظلمة. وقد جرى الشعراء الحسينيون على هذا المنوال في كل العصور في المناداة بالاصلاح و الدعوة الى العدل من خلال استلهامهم مبادئ الثورة الحسينية في أشعارهم فهي أفضل وسيلة لبث روح التضحية والشجاعة والإقدام في نفوس الجماهير. وكان الشاعر في رثاء الإمام الحسين يحاول أن يوظف مبادئ الثورة الحسينية والعمل على غرس تلك المبادئ فإن الإمام الحسين (ع) رمز البطولة و التضحية والفداء وخلاصة الشجاعة والبأس ومعلم الثورات الحرة جميعاً: يقول السيد محمود الحبوبي:
دم العز أبقى أيّ ذكرى لمن دعا وآن لنا يا قوم أن نعيَ الذكرى
فنقفو خطى أحرارنا في جهادهم ونقرأ من تاريخنا الأسطر الحمرا
وندفع عنا الشر حاط شعوبنا ومن نحن بين الناس أن نقبل الشرا
كانت مبادئ الثورة الحسينية وأبعادها السياسية التي تمثلها الشعراء العراقيون بوصفها قيماً إنموذجية حاضرة في كل آن في أذهانهم فضلاً عن إنها تمثل ماضياً مشرفاً و محفزاً للأجيال للثورة على كل أشكال العبودية، يقول حسين علي الأعظمي:
دمه في كل جيل ثورة تصرع الظلم وللحق سواءُ
دمه رمز ضحايا أمة حرة فيها حياة وإباءُ
دمه الذكر الذي ننشده كلما لاح صباح ومساءُ
دمه البعث لموتى أمة حاربتها من بنيها اللؤماءُ
فقد وجد الشاعر أن تضحية الإمام الحسين (ع) كفيلة بأن تكون خير درس لأمة تنشد الثورة لتصرع بها الظلم ولتحقق حياة العزة والإباء التي أرسى دعائمها الإمام الحسين (ع) بوقفته في كربلاء ففي إحدى مراثي الشاعر محمد صالح بحر العلوم الحسينية يتخلص الشاعر الى مايشبه التحذير من مكائد الاستعمار والهيمنة الأجنبية التي استمرت جاثمة على العراق حتى بعد إعلان الحكم الوطني، يقول:
وكونوا كما كان الحسين وصحبه مصابيح خير للجماهير توقدُ
وصونوا حقوق الشعب من كل مارد على الشعب في طغيانه يتمردُ
ولا تثقوا من فاتح بتعهدٍ فما للغزاة الفاتحين تعهدُ
ولا تقبلوا بعد التجارب توبةً لطاغيةٍ، تأريخ عهديه أسودُ
ثلاثون عاماً وهي عمر لأمةٍ تمر وهذا الشعب فيها مصفّدُ
ثلاثون عاماً ـ كل ثانية بها تعادل قرناً ينقضي ويجدّدُ
تفاقمت الأرزاء من كل جانب علينا وكل بالغناء مهدّد
إن هذا النفس الثوري، وهذه الصرخة المدوّية التي تضمها مرثية بحر العلوم هي دليل واضح على ان الادب ليس ببعيد عن السياسة ومشاكل المجتمع فالشاعر ينعى حال العراق في الحقبة 1917ـ1947 الى الحد الذي شعر فيه بأن الغناء يهدد الجميع ان استمرت سياسة البلاد على ماهي عليه آنذاك مما يشير الى انه كلما اشتدت خلة الاديب بمشكلات الشعب وشاركه شعوره واحسّ بآلامه واحاسيسه كلما كان اقدر على تلمّس العلل وحل مشكلاته والحل عند بحر العلوم يتمثل في الاقتداء بسيد الشهداء الامام الحسين (ع) والسير على نهجه الذي اختط في محاربة الطغاة . ويؤكد عبد الغني الخضري ان الاحتلال والفرقة والتهاون في الدفاع عن الوطن لم تكن لتحصل لو تمسّك الجميع بنهج الامام الحسين (ع) في اشارة الى تكامل ذلك النهج وحيويته في العصور كلها، ويقول:
فلو اننا سرنا على ضوء نهجه لعادت يد الباغي على ارضنا صفرا
وعاد الذي غلّت يداه بحسرة وما كان يوماً بالمواعيد مغترا
وعدنا يداً لم نفترق لملمةٍ تشيع على الآفاق لامعة غرّا
نذبّ عن الاوطان من أرض يعربٍ وما وهبت يوماً لاعدائها شبرا
وفي مرثية اخرى يؤكد الشاعر نفسه هذا المعنى، فيقول:
فلو انا باخلاص بذلنا كبذل السبط اصحاباً وآلا
لعاد الكافر الباغي طريداً ولم يسلب لنا حتى العقالا
ولم تذهب فلسطين جبارا ولا ملك لغير العرب طالا
فقد وجد الشاعر ان كل المشاكل التي تعانيها الامة من تفرقة وتشرذم واحتلال كانت من جراء تضييع ابنائها مبادئ الامام الحسين (ع) وقد تكلم الشاعر وبحسرة واضحة حينما استعمل اداة التمني (لو) في اشارة الى شعوره بالخيبة والندم على ما اصاب هذه الامة، ثم ان الشاعر في المرثيتين تحدث بضمير الجماعة (نا) مما يعني صدق اخلاصه وانتمائه الى قضايا امته وابتعاده عن النظرة القطرية الضيقة فالشاعر كلما استطاع تجاوز انانيته الفردية كلما استطاع تخطي حالته الفردية والملاحظ على اغلب المراثي الحسينية التي عالجت الواقع السياسي ان الشعراء كانوا يرون في ثورة الحسين (ع) ثورة رابحة بحساباتها المعنوية على الرغم من انها انتهت بمصرع سيد الشهداء (ع) واهل بيته وصحبه لذلك انطلق الشعراء في التعامل مع هذا الحدث بوصفه درساً مثالياً للنجاح في اغلب مشاكل الانسان العربي بوصفه ماضياً مشرفاً وتأريخاً مشرقاًَ يمكن ان يزرع في الانسان مواقف التحدي والرفض ويشدّ من عزيمته يقول طالب الحيدري:
كفى ذلة ان يخضع العرب للعدى وان يستطيع الناهضون تصبّرا
وفي الصفحات اللامعات بطولة تقود الى الحرية المتعثرا
وفي الجثث الغرقى بقاني نجيعها منار الى العلياء يهدي المحيّرا
ولم ار كالقاني من الدم قوة تدك عروشاً او تخلّد أعصرا
وقد يصل الامر بالشاعر الى رفض كل انواع الحزن من اجل مواجهة التحديات فالغد سيكون مشرقا بالتحدي لتكتسب النفوس القوة والمتعة فالحسين بطل تحدّى فناضل وقاتل فاستشهد. ان الحدث الحسيني كان غذاءً ودافعاًَ مهما في نظم المرثية لتؤدي القصيدة دورها في التوظيف السياسي يقول عباس الملا علي:
قطرة من دم الحسين تنادي في سماء الدنى بصوت جهارا
امة العرب ها انا فوقكم حمراء قد زجت عن جبيني الستارا
كل صبح وعصر أُريكم كيف تبقى الدماء دوماً شعارا
فالبسوها طرية فهي ازهى من دم الكرم ان تعودوا سكارى
وسلاف النجيع اشهى سلافاً ينبت العز او يعيد انتصارا
وقراع السيوف أرخم جرساً من قراع الدفوف ليلاً نهارا
خلق الشهم للمعالي خدينا مثلما خادن الغوي العذارى
امسحوا الطرف وانظروا لي طويلاً قطرة تملأ السماء احمرارا
كم أُنادي وأُرسل اللفظ نارا يا بني العرب بداراً بدارا
فالشاعر تكلم بلسان حال قطرة من دم الحسين (ع) ليكون الكلام اكثر تأثيراً، وهذا التقمّص يعبر عن ابداع تكمن خلفه عاطفة ثائرة رافضة لكل انواع الظلم والشاعر ينقلها ـاي العاطفةـ من فرد واحد أحسّ بها اولاً الى آخرين كثيرين يجعلهم الفن يشاركونه عاطفته وقريب من ذلك قول احمد الوائلي في احدى مراثيه الحسينية وقد انعكست الاحداث السياسية والاجتماعية على مضامين مرثيته فراح من خلال المزاوجة بين العرض الاساسي للمرثية وتلك الاحداث يستمد المسّوغات التي تدفع الى استنهاض الشباب المسلم لرفض الواقع السياسي والمتردي، ويقول :
يا دما شابت الليالي عليه وهو للآن في الرمال جديدُ
يحمل الطف والحسين حساماً كلما مرّ بالوجودِ يزيدُ
وإذا عرًّس الخنوع بجيل وانحنى منه للمذلّة جيدُ
صاح بالرمل من صداه دوّي فاذا الرمل فارس صنديد
هكذا انت كلما افتقر الجي ل لعزم فمن دماك الرصيدُ
صرخة لم يضع صداها وان حاول تضييعها الضجيج الشديدُ
ولهيب ما اطفأته بحار لا ولا استام من لظاه الجليدُ
ونزوع حر وان حاولت ان تحتوي نزعه النفوس العبيدُ
إن دنيا الخنوع للحر سم وهي للخانعين عيشٌ رغيدُ
فقد حاول الشاعر من خلال مخاطبته الامام الحسين (ع) ان يصوغ فكرته في الابيات المتقدمة التي اكدت بقاء الذكرى الحسينية خالدة في ضمير الزمن على الرغم من تباعد الحقب بوصفها درساً متجدداً ومستمراً باستمرار الصراع بين الخير والشر. وكان موضوع الحرية من اهم المطالب التي الحّ عليها الشعراء العراقيون في مراثيهم الحسينية والملاحظ ان هؤلاء الشعراء طالما ربطوا الحرية بالتخلص من الاستعمار لذلك وجدوا بأن الحرية لا يمكن ان تتحقق إلا بالسير على النهج الثوري الذي اختطه سيد الشهداء في مقارعة الظالمين يقول عبد القادر رشيد الناصري:
أأبا العقيدة والنضال الدامي قدست ذكرك ياابن خير امامِ
وجعلت يومك رمز كل بطولة غرّاء تقطع في فم الايــــــامِ
.............................
أنا ان بكيتك لست ابكي فانياً تطوي مفاخره يد الايامِ
لي من مصابك وهو نبع خالد وحي يحيّي مرقمي بسلامِ
..............................
حرية الامم الضعيفة دوحةٌ تسقى ولكن بالنجيع الدامي
فقد عقد الناصري الصلة بين نضال الامام الحسين(ع) ومسألة الحرية في اشارة الى توظيف ذلك في المطالبة بحرية شعبه المستلبة. كما حفل الشعر الرثائي الحسيني السياسي بفضح طبيعة السلطة التي تحكم البلاد بمختلف مراحلها ودعا كثيراً الى مناهضتها فاذا كان الامر يتعلق بمراثي الامام الحسين(ع) فإنه ليس غريباً ان تفعل المراثي في النفوس ما لا تفعله القصائد السياسية الاخرى فقد كان مجرد ذكر الامام الحسين (ع) بعد مجزرة الطف يعد بملحظ سياسي تحدياً سافراً لنظام الحكم الجائر ودعوة للاطاحة به فهو يرعب الطغاة ويدخل الذعر بين صفوف اوليائه بل هو يقيمهم ويقعدهم منذ عصره حتى العصر الحاضر يقول عبد الهادي مطر:
وابعث حياة الناهضين جديدة فيها الاباء مؤيد ومظفــــــرُ
وارسم لسير الفاتحين مناهجاً فيها عروش الطائشين تدمرُ
وان لم تلبّك ساعة محمومة ذمت فقد لبّت نداءك اعصرُ
قم وانظر (البيت الحرام) ونظرة اخرى لقبرك فهو (حج اكبر)
اصبحت مفخرة الحياة وحق لو فخرت به فدم الشهادة مفخرُ
قدست ما أعلى مقامك رفعة اخفيه خوف الظالمين فيظهرُ
وتعود ذاكرة الشاعر الى زمن الحكومة الاموية حينما يرى حكومته المعاصرة لا تلبي طموحات الشعب يقول نفس الشاعر في نفس القصيدة:
شكت الامارة حظها واستوحشت اعوادها من عابثين تأمّروا
وتنكّرت للمسلمين خلافةٌ فيها يصول على الصلاح المنكرُ
سوداء فاحمة الجبين ترعرعت فيها القرود ولوّثتها الانمرُ
سكبت على نغم الاذان كؤوسها وعلى الصلاة تديرهن وتعصرُ
تلك المهازل يشتكيها مسجد ذهبت بروعته ويبكي منبرُ
فشكت اليك ما شكت إلاّ الى بطل يغار على الصلاح ويثأر
فقد اشار الشاعر الى ما وصلت اليه الحكومة الاسلامية في عهد يزيد من انحراف عن مبادئ الاسلام الامر الذي اقتضى ان يجهز الحسين (ع) بدعوته لتصحيح ما اعوجّ من امرها ودلالة الابيات واضحة في بعدها السياسي الذي يتمثل في نقد السلطة الحاكمة وتنبيهها على اخطائها. ومن الطبيعي ان يكون اسم الامام الحسين (ع) رمزاً للحرية والكرامة والاصلاح لذلك فقد وظف الشعراء العراقيون الصفات اللائقة بالامام (ع) مثل ( الشهيد، البطل، وابي الاحرار، وسيد الشهداء) وغيرها فقد ارادوا منها اقصى ما تتحمله من دلالات فاذا كانت البطولة درجات فإن الامام بوقفته تلك قد بلغ اقصى درجاتها واذا كان الشهداء ليسوا بمنزلة واحدة فأن الامام الحسين (ع) كان سيد الشهداء جميعاً فكان مجرد ذكر الاسم الشريف مدعاة للتضحية بكل معانيها والشهادة بأقصى درجاتها فهو القدوة لكل الاحرار كما يقول عبد الحسين الازري
ما كان للاحرار الاّ قدوةً بطلاً توسّد في الطفوف قتيلا
بعثته اسفار الحقائق آية لا تقبل التفسير والتأويلا
مازال يقرؤها الزمان معظماً من شأنها ويعيدها ترتيلا
دوّى صداها في المسامع زاجراً من علّ ضيماً واستكان خمولا
|
|