قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

(الغيب و الشهود) .. تلازم الحقيقة و شروط التقدم
*أنور عزّالدين
لو تأملنا ونظرنا في مستويات التقدم السريع وقفزاته الهائلة لبعض البلدان الصناعية الكبرى لادركنا مدى تأخرنا وتراجعنا وانحدارنا الى ادنى المستويات، ولانكشفت لنا هوة المسافة الهائلة بيننا وبينهم. علماً إننا نفتخر باستنادنا الى عامل الغيب والتسديد الإلهي، ونستقل الأمم الأخرى لاعتمادها العامل المادي وحسب، على أنه عامل متغير وغير ثابت بخلاف العامل الغيبي والمعنوي الذي يقف وراء كل عظيم وكل انجاز عظيم أيضاً.
لكن لابد أن نعرف إن مجرد الاعتقاد والايمان بالغيب والمعنويات لا يضع حجراً على آخر، ولن يقدم الانسان خطوة الى الأمام نحو تحقيق سعادته وأهدافه المشروعة في الحياة. والقرآن الكريم يشير الى هذه الحقيقة في الحياة بـ(الغيب والشهادة)، ومن يريد الخير لنفسه وللآخرين عليه أن يأخذ بنظر الاعتبار حقيقتي الغيب والشهادة معاً.
*حقيقتا الغيب والشهادة
ان عالم الوجود برمته يرتكز الى حقيقتين: هما حقيقة الغيب وحقيقة الشهادة، والله تعالى يحيط بهاتين الركيزتين علمه ومشيئته، "عالم الغيب والشهادة"، والعلاقة بين هاتين الظاهرتين تكمن في قلب الانسان هي التي تحدد فيما اذا كان الانسان حضاريا متطوراً أم بدائياً متخلفاً، وربما نسأل هنا : كيف يكون ذلك ؟ والاجابة بسيطة على هذا التساؤل، ربما نجدها في صورة مازالت حية موجودة في بعض المناطق النائية والبعيدة عن الحضارة، فحتى يومنا هذا هناك في بعض المناطق الاسترالية او الافريقية بل وحتى في اميركا اللاتينية أناس مايزالون يعيشون الحالة البدائية قبل التاريـخ ! فتراهـم يعيشون على الصيد بالطرق القديمة، وكما هي البدائية في ظاهر حياتهم، كذلك هي في افكارهم ومعتقداتهم وتصوراتهم.
ان مثل هؤلاء الناس البدائيين لايتصورون ان هناك سلسلة من العلل والمعلولات، أي يجهلون العلاقة بين الاشياء والترابط بين الحقائق والامور، بل يربطون الاشياء والظواهر باخرى لاعلاقة لها بها وهو مانسميه بـ (السحر) او (الشعوذة)، اي الاعتقاد ان هناك اسبابا غير منظورة وغير معقولة لايمكن فهمها، عادّين إياها الاساس الذي اليه تستند حركة الكون.
كل ذلك سببه ان الانسان الاول لم يكن يعتقد بمبدأ العلة والمعلول، ولايفهم السنن الالهية السائدة في الوجود والنظام الكوني، ومن ثم فانه لايأخذ بها لجهله اياها، بل يأخذ بمجموعة أوهام وخرافات، وعلى المثال فان بعض الناس البدائيين عندما يذهبون الى البحر ليصطادوا فيجدوه هائجا فانهم في هذه الحالة يتجمعون ليؤدوا بعض الرقصات المعينة ظانين انها ستسهم في تهدئة وتسكين البحر فيظهر السمك نتيجة لذلك، ولكن ماعلاقة الرقص بهيجان البحر ؟!
*الانسان المتحضر يدرك عالم الغيب والشهادة
إزاء كل ذلك نرى الانسان المتحضر يعتقد ان للاشياء حقيقتين: الشهادة والغيب من حيث الزمان والمكان، وفي الكائنات الحية هناك الروح والجسد، وفي الطبيعة هناك الوجود المادي المشهود والقوة الكامنة او المغيبة ـ ان صح التعبير ـ والتي تظهر حين وقوع الاسباب والعلل، وكما ان للشهادة قوانينها وسننها الالهية كذلك الحال بالنسبة الى الغيب فهو الاخر له سننه وقوانينه.
باختصار فان انسان الحضارة يفهم ان للحقيقة في عالمها وجهين؛ هما الوجه الظاهر وهو الشهادة، والوجه الباطن وهو عالم الغيب، وان للاشياء في الوجود أطرها وموازينها ومتعلقاتها، وهي تتحرك وفق السنن الالهية التي تتحكم بوجودها وطبيعتها فضلاً عن حركتهاوتفاعلها.
وعندما نزلت الرسالات السماوية اكدت بدورها على اهمية هذه السنن، وعلى سبيل المثال عندما مرض موسى (ع) ودعا الله تعالى ان يشفيه من مرضه كما تحكي الروايات، فانه سبحانه وتعالى أمره ان يراجع الطبيب لكي يحدد له علته، ومن ثم يبين له الدواء والعلاج، وبعد ذلك عليه ان يدعو ربه ليجعل الشفاء في هذا الدواء وليبرأ من مرضه، والا فان الدعاء وحده غير كاف، بل لابد من البحث عن سبب المرض لكي يتم استئصاله بالدواء مع طلب العون الالهي، وهذا هو مقتضى السنة الالهية في مثل هذه الحالات ؛ فالدواء هو من اسباب الشهادة، والدعاء من اسباب الغيب، فلا يصح ان نكتفي بالغيب ؛ أي الدعاء، ولايصح ايضا ان نقتصر على الشهادة ؛ اي ان نتناول الدواء ونترك الدعاء كما يرى ذلك الماديون الملحدون، فلا بد من الاثنين معا، لأن لكل دوره وفعله في جوانب الحياة.
وعلى هـذا الاسـاس فلـيس صحيحـا ما يقولـه الملحـدون بانعـدام اثـر الدعاء؛ فالمريض - مثلا ـ يكفيه الدواء فحسب لكي يشفى من مرضه، كلا؛ فان في النفس الانسانية فراغات لاتملؤها سوى الارادة الالهية، وهذا هو المراد بالتوكل على الله تعالى حين العزم، لان النجاح يتوقف ايضا على المشيئة والارادة الالهية.
والتوكل هو لون من الوان الدعاء الخفي؛ اي ان الانسان يمضي في عمله مستمدا اللطف من الله تعالى: "ولاتقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله... "، وعلى هذا فان سير الوقائع وتحصل النتائج وبلوغ الاهداف كل ذلك يتوقف على امرين هما :
1ـ موافقة السنن الالهية والعمل بها، وهو قوة الشهادة.
2ـ ذكر الله؛ دعاءً أو توكلا او اتقاء، وهو قوة الغيب.
وليس هناك في الحياة ما يحتم على الله تعالى القيام بفعل ما في هذا المجال، والى هذا المعنى اشار الدعاء الشريف الذي يقول (... ويا من لايبرمه الحاح الملحين).
*وعي التجارب
ينظر الانسان المؤمن الى الاحداث من خلال بصيرة معينة، فالمؤمن يستفيد من كل ظاهرة طبيعية او حادثة انسانية معينة في هذا الكون، تزكية لنفسه وتعميقا لرؤيته، وزيادة واكمالا لعقله. وهذا منهج فريد يتسم به القران الكريم، ويتجلى من خلاله المؤمن الذي استمع الى القرآن وافاد منه منهاجا وبصيرة ورؤية، ونقصد بهذا المنهج الفريد السعي لربط الحقائق الكبيرة بالسلوكيات المباشرة في حياة الانسان.
وما حدث في التاريخ مما يرويه لنا القرآن الكريم في قصص عاد وثمود وآل فرعون وسائر الامم، انما كان يمثل ظواهر كبيرة خلفت آثارها العميقة في التاريخ، فليس من البساطة ان يهلك الله قوما جبارين كانوا قد نحتوا من الصخور منازل لهم، ويمثلون اكبر قوة في الديار التي سكنوها في اطراف الجزيرة العربية، فخلال عشية وضحاها ارسل الله العزيز الجبار عليهم ريحا عاتية، اقتلعتهم من مخادعهم، ورمت بهم الى آفاق الفضـاء الرحب دون ان يبقـى منهم اي اثـر الا مساكنهم الخاوية، وكأنها لم تسكن من قبل.
وفي الوقت الذي كان فيه قوم هود يعانون ألم العذاب وهم في طريقهم الى الانقراض، كان النبي هود (ع) والمؤمنون معه قد حفروا لأنفسهم حفرة صغيرة، استلقوا فيها دون ان تؤذيهم تلك العواصف الهوج، بل تحولت الى نسيم عليل يستنشقون منه العبق الطيب، بفضل الله تعالى.
وهكذا كان حال فرعون ذي الاوتاد، فهو لم يكن شخصا بمفرده وانما كان يمثل خطا تاريخيا فهو كان يمتلك جيوشا قاهرة حتى قيل ان جيشه كان يضم سبعمائة الف انسان، وهذا عدد هائل اذا ما قورن بعدد سكان العالم آنذاك، ناهيك عما كان يملكه من امكانيات مادية هائلة، ولكن عاقبته كانت الهلاك في النهاية.
هذه الملامح التاريخية غنية المحتوى، عظيمة العبرة، والانسان المؤمن يستوعب مثل هذه الملامح التاريخية، ويستوحي منها آفاقا واسعة لذلك نجد ان الحديث في سورة الفجر يبدأ عن "ارم ذات العمـاد"، أي عـن عـاد و "ثمـود الذيـن جـابـوا الصخـر بالـواد" و "فرعون ذي الاوتاد"، ثم ينتهي الحديث الى الانسان، لان الهدف من كل التحولات والتطورات في التاريخ هو زيادة تجربة الانسان، وتعميق نظرته الى الحياة، ومحاولة فهم الحقائق، ومن ثم اكتساب العبر، لان (السعيد من اتعظ بتجارب غيره).
فعلى الانسان ان لايغتر بنفسه، وان يعتبر بمن مضى، وبما جرى، والقرآن الكريم انما يحدثنا عن قضايا تاريخية، وحوادث هامة وقعت في غابر الزمان لكي نتعلم كيف نفكر بعمق، وكيف نتبصر بدقة فننتبه ونعي.