دور الثقافة الرسالية في نهضة الأمة
|
*حسين محمد علي
عندما يفتش الانسان عن اساس المشاكل التي نعانيها وتعاني منها الامة الاسلامية اليوم، لابد ان يقع على المشكلة الثقافية كواحدة من اخطر المشاكل التي تتفرع منها الازمات والعقد الحضارية الاخرى.
والقضية الثقافية انما تتبوأ مكانتها الاساسية في هذا الصدد من بعدين رئيسين:
البعد الاول: المبدأية والتمحور حول الرسالة، فالاعتقاد بالمبدأ وحمل الرسالة يعنيان كل شيء بالنسبة الى كيان الامة الاسلامية. "إِنَّ هَذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" (الانبياء /92)، فالأمة الواحدة هنا لا تقوم على اساس الارض ولا على اساس القومية واللغة والمصالح، بل تقوم على اساس توحيد الله تعالى وهذا هو اساس الامة الاسلامية.
ومن المعروف ان الثقافة تشكل جزءاً أساساً من العقيدة والايمان والعبادة، فمن دون العلم والوعي السليم والرؤية الصائبة لايمكن ان تكون لدى الانسان عقيدة او ايمان.
البعد الثاني: الثقافة الصحيحة؛ وهو بعد مشترك بين الامة الاسلامية وبين سائر الأمم رغم انه بعد يميز الانسان عن غيره، فلا ريب ان الله قد اكرم الانسان وحمله في البر والبحر بما علمه : "وَعَلَّـمَ ءادَمَ الأَسْمآءَ كُلَّهَا" (البقرة /31)، وعندما علم الله تعالى آدم الاسماء أسجد له ملائكته، فالانسان اذن؛ هو كائن مثقف، والثقافة تؤثر عليه. لكن عندما انحرفت ثقافتنا عن مسارها الصحيح، انحرفنا عن صراط سعادتنا، وطريق فلاحنا، والعودة الى هذا الطريق وذلك الصراط لن يكون إلاّ بتصحيح الثقافة، فمن يحدثك عن الاصلاح والتغيير، وعن العمل السياسي والاقتصادي دون ان يقدم لك برنامجا سليما وواضحا في التثقيف والتوعية فان كلامه هذا لا يقوم على اساس ثابت، بل الصحيح ان يزودك بالبرنامج الثقافي الذي يخلق الانسان الحضاري، ومن ثم يأمرك بالتحرك، ويعطيك البرنامج السياسي او الاقتصادي او الاجتماعي وما الى ذلك.
*جهلان في مسيرة الثقافة..
نعاني في مجال الثقافة من مشكلتين؛ الاولى: الجهل، والثانية: الجهالة، وتلخص احدى الروايات الشريفة هاتين المشكلتين في قول الامام الحسن المجتبى (عليه السلام): (كفى بك جهلا ان تقول ما لا تعلـم، بل كفى بك جهلا ان تقول كل ما تعلم). وفي قول للامام علي (عليه السلام) عن ذلك: (لا تقل مالا تعلم بل لاتقل كل ما تعلم).
وعلى هذا فهناك جهلان؛ الجهل الاول: ان تحدث بما لا تعلم، والثاني: ان تتحدث بكل ما تعلمه دون ان تميز الغثّ من السمين، والمناسب من غير المناسب، وهنا لابد من التوقف عند هذين البعدين بدايةً بالبعد الثاني.
هناك البعض من الناس يزعم ان عليه ان يحدث الناس بما يعلمه علماً يقيناً صادقاً، او لا ينبغي ان يشاركه الناس في علمه فيحدث الناس بكل ما يعلم، مثل هذه النظرة يسبب هذا البعض الفساد بدلاً من ان يقدم لنا العلاج، ذلك لان الانسان الذي يريد ان يحدث الناس بكل ما يعلمه سيحدثهم بالتأكيد عن الاخطاء التي يرتكبها الاخرون، فهل من الصحيح ان احدث الناس بمعلوماتي حول الشخص الفلاني الذي اخطأ واذنب وانحرف ؟، فان استشكل عليه الاخرون اجابهم ان عنده علما بذلك. نعم، انت لديك علم، ولكن الافساد في الصدق، فافساد ذات البين هو كذب عند الله تعالى، في حين ان الكذب الذي يهدف الاصلاح هو صدق.
ان الاجواء التي نعيشها الان امتلأت بالسلبيات، لأن كل واحد منا يجلس ليحدث الناس عن سلبيات الاخرين، وهذا سلوك محرم عند اللـه، فقد حرم تعالى الغيبة وسوء الظن والتجسس على الناس والنميمة والسب، كما وحرم العشرات من الذنوب التي يرتكبها لسان الانسان في حين ان اكثرها معلومات لا مجهولات، لان فيها اشاعة لجو السلبية، ويمكن القول ان عشرين بالمائة من المحرمات الاخلاقية هي محرمات اللسان وخصوصا تلك التي تأخذ فيها الجوانب السلبية، وتحدث الناس بها.
* لا.. لثقافة اليأس..
وهناك مثل آخر نستوحيه من حديث للامام أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول فيه : (ألا أخبركم بالفقيه حقاً ؟ قالوا : بلى يا أمير المؤمنين، قال: من لم يقنّط الناس من رحمة الله ...).
إن على المعنيين بالشأن الثقافي أن يحملوا الخطاب الإيجابي الباعث على التفاؤل والأمل، لا اليأس والهزيمة ونهاية الطريق، فاذا ارتقى الخطيب المنبر سيتحدث عن نار جهنم، وإنها نكال للكاذبين والمحتالين وما أشبه، وهو صحيح دون شك، ولكن الناس الجالسين سوف يفهمون بان الحديث موجه اليهم، فهم كلهم من اصحاب النار، إذن؛ لماذا العمل والنشاط ولماذا التوبة أساساً؟!
وهذا ما اعطى الانطباع اليوم عن خطباء المنبر بانهم يركزون على سلبيات المجتمع واسقطاعات الأمة، ومن يسمع لحديث بعض الخطباء يتصور ان الدنيا قد انقلبت، ولا مجال لصلاح الانسان، في حين ان القضية ليست بهذا المستوى، فهناك نقاط ايجابية الى جانب النقاط السلبية، من الجدير تسليط الضوء عليها وبعث روح الأمل والنشاط في نفوس الناس.
ان الكلام يشبه الدواء، فالطبيب لا يمكنه ان يعطي المريض كل ما يريد من الادوية وبكميات كبيرة ؛ صحيح ان الدواء نافع للانسان ولكن بالمقدار المحدد والا كان مضرا بالانسان.
وعلـى سبيل المثال اذا رأينا رجلا متوغلا في العبادة والتضرع الى الله تعالى تاركاً مسائله الخاصة وشؤون مجتمعه، فهل نشجعه على سلوكه هذا؟ طبعاً كلا، بل نقول له ما قال الرسول (صلى الله عليه وآله) للامام علي (عليه السلام) : (يا علي ان هذا الدين متين فأوغل فيه برفق).
من هنا نعرف إن الثقافة السليمة لن تكون محصنة، إذا اتخذ المعنيون منهج التسطيح في الوعي ونشر السلبيات والاسقاطات، لأن ببساطة كل انسان في المجتمع قادر على ملاحظة السلبيات على الصعد كافة، ابتداءً من الأسرة والمجتمع والسوق والسياسة وغيرها، لكنه لايرى الحلول والمعالجات، تماماً كالأمراض والأوبئة التي تنتشر على حين غفلة من الناس، بينما لن يجد أحد العلاج إلا في المختبرات وعند العلماء والأطباء الاختصاص، كذلك الحال بالنسبة للوضع الثقافي، فان الحلول ومفتاح الحل يوجد عند مراجع الدين والخطباء والكتاب وعموم الشريحة المثقفة الرسالية، وعلى هؤلاء تقع المسؤولية لإرشاد الناس الى حيث يجدون بسهولة تلكم الحلول وما يجب عليهم فعله أو تركه. حينئذ تبقى المسؤلوية على الناس في أن يتقبلوا الرسالة أم لا؟
آن الأوان لأن تخرج النظريات والأفكار من بطون الكتب ومن على رفوف المكتبات المغبرّة، الى صعيد الواقع العملي وحيث يعيش الناس، ليعلم الناس أنهم فعلاً أصحاب ثقافة وحضارة عريقة لها صلة بين الأرض والسماء.
|
|