قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
الشهداء والأيتام والأرامل أمانة على طاولة السياسيين العراقيين
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *إعداد / بشير عباس
هل في التشريع الاسلامي منطقة فراغ...؟ هل الدين أهمل جانب من جوانب حياة الانسان او فوضه اليه وتركه الى هواه ومصالحه؟ أم ان الاسلام كلٌ لا يتجزأ وله في كل حادثة حكم وفي كل قضية قضاء؟
مما يظهر من التدبّر في آيات الكتاب الحكيم ومن احاديث النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي قال في أخريات حياته المباركة: (ما من شيء يقربكم الى الجنة إلا وأمرتكم به وما من شيء يُبعدكم عن النار الا ونهيتكم عنه)، بان الاسلام لم يترك منطقة فراغ من الناحية التشريعية، فلكل أمر قاعدة لاتخاذ الحكم المناسب، وربما هذا يعلّمنا ويكرّس في نفوسنا حقيقة المساءلة يوم القيامة عن كل جزء من أعمالنا وتصرفاتنا.
جاء في رواية عن الامام الصادق (ع) قال لابي بصير: - وكان مكفوفاً- يا أبا بصير... هل تسمح لي؟! قال: مولاي تأمر، فضرب يده قليلا على يده، ثم قال (ع): حتى هذا مكتوب في الكتاب؛ (حتى إرش الخدش)، و (الخدش) هو الجرح البسيط، و(الإرش) هو مقدار الديّة، لنتصّور كم يكون هذا المقدار...!
إذن لا توجد هناك منطقة فراغ في الاحكام الاسلامية، واذا قال بعض الفقهاء بوجود منطقة فراغ، فهو لايعني انه ليس للاسلام حكم، وانما يعني انه ليس للاسلام في هذا حكم خاص منصوص عليه، فهو يقرب الحكم بالاحكام الاولية العامة او الثانوية العامة، فنعرف معنى هذا الحكم من خلال الاصول العامة التي اطلقها الاسلام ومن خلال الاحكام العامة او القيم العامة، وعليه فان الاسلام لا ولن يسكت على أي شيء في الحياة، و ربما سكت في بعض الأمور المستجدة، لكن هذا السكوت لايعني انه ترك الامر لهوى الانسان، و القران الكريم ينهى الانسان عن الهوى: "اما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فان الجنة هي المأوى".
*بصائر قرآنية لحياتنا
من يجد أمامه منطقة فراغ، لايجب أن يعمل بما يراه او بما يعتقد انه حكم الاسلام، لأن هنالك مرجعية لابد ان يرجع اليها، وهذه المرجعية تمثل (أولي الأمر)، الذين امر الاسلام والدين باتباعهم، ولتوضيح هذه النقطة نتلو آيات مباركة من سورة (النساء) ونتدبر في جانب هذه الايات الكريمة بما يسع المقام، وهي الآية من (57 الى 59)، يقول ربنا تبارك وتعالى وهذه بشرى لنا: "والذين امنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ابداً لهم فيها أزواجٌ مطهرة وندخلهم ظلاً ظليلاً".
في الحقيقة هذه نعمة كبيرة أن يجمع الله في آية واحدة نعم الجنة، وهي البساتين الملتفة اغصانها ببعضها والمجتمعة بكل ما يحتاجه الانسان، و يجد في الجنة من الفواكه الطازجة واللحوم، مثل لحوم الطير ومما يشتهيه الانسان، و البيوت الفخمة، وكل ما يفكر به الانسان، بل كلما لا يفكر به ولا يستطيع ان يفكر به حتى في خياله، لان الانسان حينما يدخل الجنة يجد فيها من النعيم ما لا اذن سمعت ولا عين رأت ولا خطر على ذهن بشر. والدليل على ذلك أن رجلاً لو سمع قبل مئتين او ثلاثمائة سنة من يتحدث له عن حياتنا الحالية وعن (الكومبيوتر) و (الانترنيت) و (الفضائيات) و(الطائرات) وغيرها من سبل الحياة المتطورة لما كان يصدق؟ لذا فان حضارة الجنة تختلف عن حضارة الدنيا، ففيها نعيم تختلف عن نعيم الدنيا، مثلا؛ الجنة كل شيء فيها حي وناطق؛ فالبيت الذي تسكنه يتكلم معك، وحتى الحجر والشجر والثمر والطيور وكل شيء...! كل ذلك أُعدّ للمؤمنين الذين يعملون الصالحات "تجري من تحتها الانهار"، بمعنى لا يوجد عند أهل الجنة أزمة مياه أو كهرباء بسبب هذه الحكومة او ذلك النظام، ثم تقول الآية: (خالدين فيها ابدا)، فالانسان يخشى الموت حتى وإن حصل على كل نعم الدنيا، فان الموت ينغّص عليه متعته. "لهم فيها ازواج مطهرة"، والمقصود بالطهارة ليست من الدم فقط، فالبعض قالوا: إن الطهارة هي من الناحية المعنوية؛ أي من الصفات الذميمة، كالحسد والكذب والحقد وغيرها، فقلب تلكم الأزواج طاهر ناصع البياض، "وندخلهم ظلاً ظليلاً"، جاء في الدعاء: (اللهم اظلني في ذراك واسعدني بتقواك ولا تشقني بمعصيتك)، فهذا الظل، هو ظل الرحمة الإلهية وهي نعمة فوق كل تلك في الجنة؛ من النساء والقصور والكرامة. بأن يكسب الانسان حب الله له، وأن يحدّث الله تعالى يومياً.
وفي الآية التالية يقول سبحانه وتعالى: "إن الله يأمركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها" فالاداء بمعنى العطاء والوفاء الكامل، وإن يرد تلك الامانة والى من أعطاها إياه، "واذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل"، وهو بمعنى أن نعطي كل ذي حقٍ حقه بالقدر الذي يستحقه، "ان الله نعمّا يعظكم به".
على الانسان دائماً أن يفكر بانه المعني أيضاً في أداء الأمانات وليس القضية من طرف واحد، فالمصلحة مشتركة، فالأمانات تؤدّى بين الناس كثقافة عامة، فالمجتمع السعيد والناجح والمفلح هو الذي يتعاون أفراده فيما بينهم، فكل واحد منهم يؤدي الامانة الى الآخر، بعكسه تماماً المجتمع الذي تسوده الخيانة في الامانة، فهكذا مجتمع تكون الحياة فيه صعب للغاية، بسبب انعدام الثقة والخوف من الآخر، "ان الله نعمّا يعضكم به ان الله كان سميعاً بصيرا"، بعدها يقول ربنا سبحانه وتعالى: "ياايها الذين امنوا اطيعوا الله واطيعوا الرسول" كأنه بهذه الآية يريد أن يفهمنا أن للجنة ثمناً، وهو طاعة أولي الأمر، لكن من هم ولاة الأمر؟ إنهم أولئك الذين فوضوا الامر اليهم؛ إنهم قياداتكم، وتعريف القيادة واضح في القرآن الكريم، فقد جاء تعريفٌ في الآية المباركة "إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون" فمن الذي آتى الزكاة وهو في حالة الركوع؟! والقرآن الكريم حافلٌ بالآيات التي تنصّ على ولاية أهل البيت (عليهم السلام)، "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر" و "إنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرا" و "في بيوت اذن الله ان ترفع ويذكر فيها اسمه ويسبح له فيها بالغدو والاصال، رجال لا تلهيهم تجارة ولابيع عن ذكر الله"، والى جانب آيات الله المباركات، هنالك الافصاح من قبل النبي الاكرم (ص)، وليس أدلّ على ذلك من واقعة (الغدير) حيث رفع يد علي بن أبي طالب (ع)، ويقول: (من كنت مولاه فهذا علي مولاه اللهم والي من ولاه وعادي من عاداه)، وقوله (ص): (اني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي اهل بيتي ...)، إن جميع المسلمين كتبوا وحفظوا، بأن بعد علي، الحسنان وبعدهما الأئمة التسعة المعصومون، واذا كان غياب الامام الحجة المنتظر (عجل الله فرجه)، بسبب ذنوبنا وسوء افعالنا، فانه (ع) يقول: (فانهم حجتي عليكم وانا حجة الله ...)، إذن؛ فهذا درب المحجة... وهذا الصراط المستقيم؛ الله، رسول الله، اهل البيت، العلماء والفقهاء على تسلسل واضح، (وأولي الامر منكم).
*نعم للاختلاف.. لا لضياع دماء الشهداء
بدأ النزاع في هذه الدنيا من يوم وطئت قدم آدم على هذه الارض، فنشب النزاع بين قابيل واخيه هابيل، فقتل أحدهم الآخر، ومُذاك عرف البشر الاختلاف. لكن نعود الى السؤال الآنف الذكر؛ هل نبقى في منطقة الفراغ؟!
الجواب: كلا؛ فنحن أمامنا القرآن الكريم بامكاننا أن نستنتطقه حتى نجد الحل لمشكالنا، جاء في الآية الكريمة: "فان تنازعتم في شيء فردّوه الى الله"، فالخلاف بين جماعة وأخرى أو بين كتلة سياسية وأخرى، تُعد من المسائل الطبيعية، لكن اذا تحول الاختلاف الى ضياع للجهود والفرص في أوساط الامة الاسلامية، والى ضياع دماء الشهداء ودماء الشهيد الاول والشهيد الثاني والشهيد الشيرازي وآلاف الشهداء من المصلحين، فان هذا ما لا يقبله القرآن الكريم الذي يؤكد بصراحة بأن "... فردوه الى الله"، والسؤال؛ كيف نرده الى الله تعالى؟ إنه بالعمل بحكم الله العادل والحق، ومن ثم حكم الرسول الأكرم وحكم أولي الامر منكم، وبما إن التسلسل القيادي أصبح واضحاً، فاننا لن نكون في حيرة من أمرنا، فالذي يحمل هوية التشيع والولاء لأهل البيت و يحضر المجالس الفاطمية ويذرف الدمع على مصاب الصديقة الطاهرة (عليها السلام)، يجب أن تكون مواساته من الاعماق.
*بصيرتان
البصيرة الاولى:
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النساء: "الرجال قوامون على النساء"، بمعنى أن الرجل قوّام على المرأة وهو يحكمها، لكن سؤال هل يحكم بهواه وبالعصبية أم بمعيار آخر؟
القران الكريم يجيب بنفسه في هذه الآية: "واذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل" فالمؤمن لا يبلغ درجة من الايمان الا اذا انصف الناس من نفسه. فقد يكون للانسان حقٌ لدى الناس فيطلبه ويأخذه وهو أمرٌ مشروع وطبيعي، لكن عندما تكون ثمة حقوق للناس عليه، كأن تكون للزوجة حقٌ على الزوج، هنا يجب عليه أن يؤدي هذا الحق، لا أن يتجبر ويماطل ويبخس الناس أشياءهم، فهذا لايجوز، فاذا كانت ثمة إمرأة مظلومة في أمة فان دعاء هذه الامة لا يستجاب، لان هنالك حديثاً قدسياً مضمونه ان المظلوم الذي لايرى أحداً ينصره الا الله لابد من الحذر منه! وكما عند المرأة والزوجة، فان المسألة تنسحب على الأولاد في علاقاتهم مع الأب، ولا يقولنّ أحدٌ أننا أمام فسحة من الحرية، إنما هي حقوق يجب أن تؤدّى، حتى نصنع الأسرة المسلمة المثالية، وتزامناً مع أيام الفاطمية، من الجدير أن يكون ذكرى استشهاد الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بعنوان (يوم الاسرة العالمية)، لنقول للعالم: هلمّوا وانظروا الى معالم الاسرة الاسلامية، التي تحمل الرحمة والمودة والخصال الحسنة، فهي قدوة للانسانية جمعاء.
البصيرة الثانية:
يجب أن لا نستغرب اختلاف الافكار وتنوع المصالح و الآراء في ظل النظام السياسي والاجتماعي السائد في العراق، لكن في نفس الوقت اذا وقعت مشكلة ما يجب أن نعرف كيف نخرج منها بسلام وبقليل من الخسائر، وربما حدثت مشكلة مع اخيك المؤمن، فان لم تستطع ان تحل المشكلة عليك بالرجوع الى القرآن والى اهل البيت (عليهم السلام)، لا أن ندور في حلقة الأزمات المفرغة ونتبادل الاتهامات، لأن آنئذ فان الناس الذي يجدون أمامهم أسماء ولافتات عريضة تنتمي الى الدين والمذهب، لن يأخذوا بكلام اصحابها مهما كانوا، عندما يقولون ما لا يفعلون.
إن على نواب البرلمان الذين انتخبهم الشعب واعطاهم ثقته، أن يفكروا في مشاكل هذا الشعب ويفكروا في اليتامى والمعوقين والارامل، و بشكل عام أن يفكروا في أمر هذا الشعب الذي عاش الأزمات تلو الأزمات على مدى ثلاثين عاماً، كما عليهم أن يتذكروا دائماً تضحيات الشهداء، فهم سيقفون امامنا غداً يوم القيامة، ويحاجّونكم ويقولون: لقد وصلتم الى مناصبكم من خلال دمائنا وتضحياتنا لكنكم ضيعتم تضحياتنا، وهذا في الحقيقة يوم عسير ورهيب.
وإذن؛ فان أصوات الشعب التي ألقيت في صناديق الاقتراع وشكلت النخبة السياسية الحاكمة في العراق، هي بالحقيقة أمانة في أعناق كل من يجلس على كرسي الحكم بأي درجة ومرتبة كانت، ولا يجب أن تتحول بعض المسائل البسيطة الى مانع وعائق دون وحدتنا، وندعو الله سبحانه وتعالى ان يجعل اخواننا المتصدين للعمل السياسي يتمحورون حول محور الحق و يوحدوا كلمتهم، وأن يفكروا في هذه الامانة الالهية بأن يوصلوها الى أهلها، لأن في كل الأحوال تأتينا المخاطر كالسحب من هنا وهناك، والنبي الأكرم (ص)، يقول: (اذا أقبلت عليكم الفتن كقطع الليل المظلم فعليكم بالقران)، إذن، من الجدير الجلوس حول (الطاولة المستديرة) لتداول أمر تشكيل الحكومة بشكل جدي، فاذا استوت القلوب وخلصت النوايا و طهُرت الأنفس ان شاء الله يفتح الله الطريق أمامنا، "ومن يتقِ الله يجعل له مخرجا"، وذلك من خلال التنازل المتبادل، والفرقاء السياسيون ليسوا بعيدين عن بعض، فكلٌ يعرف الآخر منذ أمد بعيد، وبهذه الطريقة نتمكن من الخروج من نفق الأزمة السياسية الحالية الى حيث نور المستقبل المشرق الذي نرجو أن يستضيء به شعبنا العراقي الصابر والصامد.