لا استغناء عن حقيقتي الغيب والشهود في الحياة
|
*عبد الله الحسيني
لو تأملنا ونظرنا في مستويات التقدم السريع وقفزاته الهائلة لبعض البلدان الصناعية الكبرى لادركنا مدى تأخرنا وتراجعنا وانحدارنا الى ادنى المستويات، ولانكشفت لنا هوة المسافة الهائلة بيننا وبينهم، فما هو السبب أو الاسباب وراء ذلك؟
إن عالم الوجود برمته يرتكز الى حقيقيتين: الأولى: حقيقة الغيب والثانية: حقيقة الشهادة، والله تعالى محيط بهاتين الركيزتين، "عالم الغيب والشهادة "، والعلاقة بين هاتين الظاهرتين أي الغيب والشهادة في قلب الانسان هي التي تحدد فيما اذا كان الانسان حضارياً متطوراً أم بدائياً متخلفاً، والعلاقة بين الأثنين واضحة اليوم ونجدها في صورة مازالت حيّة في بعض المناطق النائية والبعيدة عن الحضارة، فحتى يومنا هذا هناك في بعض المناطق الاسترالية او الافريقية بل وحتى في اميركا اللاتينية أناس مايزالون يعيشون الحالة البدائية لما قبل التاريـخ ! فتراهـم يعيشون على الصيد بالطرق القديمة، وكما هي البدائية في ظاهر حياتهم، كذلك هي في افكارهم ومعتقداتهم وتصوراتهم .
ان مثل هؤلاء الناس البدائيين لايتصورون ان هناك سلسلة من العلل والمعلولات، أي يجهلون العلاقة بين الاشياء والترابط بين الحقائق والامور، بل يربطون الاشياء والظواهر باخرى لاعلاقة لها بها وهو مانسميه بـ (السحر) او (الشعوذة)، اي الاعتقاد ان هناك اسبابا غير منظورة وغير معقولة لايمكن فهمها، معتبرين اياها الاساس الذي اليه تستند حركة الكون .
كل ذلك سببه ان الانسان الاول لم يكن يعتقد بمبدأ العلة والمعلول، ولايفهم السنن الالهية السائدة في الوجود والنظام الكوني، وبالتالي فانه لايأخذ بها لجهله اياها، بل يأخذ بمجموعة أوهام وخرافات، وعلى المثال فان بعض الناس البدائيين عندما يذهبون الى البحر ليصطادوا فيجدوه هائجا فانهم في هذه الحالة يتجمعون ليؤدوا بعض الرقصات المعينة ظانين انها ستسهم في تهدئة وتسكين البحر فيظهر السمك نتيجة لذلك!
وأزاء كل ذلك نرى الانسان المتحضر يعتقد ان للاشياء حقيقتين هما الشهادة والغيب من حيث الزمان والمكان، وفي الكائنات الحية هناك الروح والجسد، وفي الطبيعة هناك الوجود المادي المشهود والقوة الكامنة او المغيبة ـ ان صح التعبير ـ والتي تظهر حين وقوع الاسباب والعلل، وكما ان للشهادة قوانينها وسننها الالهية كذلك الحال بالنسبة الى الغيب فهو الاخر له سننه وقوانينه .
وباختصار فان انسان الحضارة اليوم يفهم ان للحقيقة في عالمها وجهين؛ الوجه الظاهر وهو الشهادة، والوجه الباطن وهو عالم الغيب، وان للاشياء في الوجود أطرها وموازينها ومتعلقاتها، وهي تتحرك وفق السنن الالهية التي تتحكم بوجودها وطبيعتها بالاضافة الى حركتهاوتفاعلها .
وعندما نزلت الرسالات السماوية أكدت بدورها على اهمية هذه السنن، وعلى سبيل المثال عندما مرض موسى (ع) ودعا الله تعالى ان يشفيه من مرضه كما تنقل الروايات، فأمره سبحانه وتعالى ان يراجع الطبيب لكي يحدد له علّته، ومن ثم يبين له الدواء والعلاج، وبعد ذلك له ان يدعو ربه ليجعل الشفاء في هذا الدواء و يبرأ من مرضه، وإلا فان الدعاء وحده غير كاف، بل لابد من البحث عن سبب المرض لكي يتم استئصاله بالدواء مع طلب العون الالهي، وهذا هو مقتضى السنة الالهية في مثل هذه الحالات ؛ فالدواء هو من اسباب الشهادة، والدعاء من اسباب الغيب، فلا يصح ان نكتفي بالغيب، كما لايصح أيضاً ان نقتصر على الشهادة، أي ان نتناول الدواء ونترك الدعاء كما يرى ذلك الماديون الملحدون، فلا بد من الاثنين معاً، لأن لكل دوره وفعله في جوانب الحياة .
وعلى هـذا الاسـاس فلـيس صحيحـا ما يقولـه الملحـدون بانعـدام اثـر الدعاء، فالمريض ـ مثلا ـ يكفيه الدواء فحسب لكي يشفى من مرضه، لأن في النفس الانسانية فراغات لاتملؤها سوى الارادة الالهية، وهذا هو المراد بالتوكل على الله تعالى حين العزم، لان النجاح يتوقف أيضا على المشيئة والارادة الالهية .
والتوكل هو لون من الوان الدعاء الخفي ؛ اي ان الانسان يمضي في عمله مستمدا اللطف من الله تعالى: "ولاتقولن لشيء اني فاعل ذلك غدا الا ان يشاء الله" (الكهف/ 23)، وعلى هذا فان سير الوقائع وتحصّل النتائج وبلوغ الاهداف، كل ذلك يتوقف على أمرين هما :
1ـ موافقة السنن الالهية والعمل بها، وهو قوة الشهادة .
2ـ ذكر الله، والدعاء اليه وهو قوة الغيب .
وليس هناك في الحياة ما يحتم على الله تعالى القيام بفعل مافي هذا المجال، والى هذا المعنى اشار الدعاء الشريف الذي يقول " ويا من لايبرمه إلحاح الملحين ".
|
|