ماهية العقل و السبيل لمعرفة الهبة الإلهية
|
*محمد قاسم عبد المحسن
من أكثر الأشياء التي تضاربت الآراء حولها ماهية العقل ودوره، ففريق أقرّ به ولكن اختلف في الدور الذي يقوم به واختلف البعض في عائديته، فهل هو من ذات الانسان؟ أم هو من الجسم؟ أم من الروح؟ أو من ذات الروح؟ لذا حسم الله سبحانه هذا اللغط فبين حقيقة العقل من خلال كتبه والرسالات التي بعثها والانبياء (عليهم السلام) وخصوصاً في كتابه المجيد القرآن الكريم وعلى لسان رسوله الكريم (ص) والأئمة الأطهار (ع).
وقد تطرق الى هذا الموضوع سماحة المفكر الأسلامي والمرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله الوارف) في كتابه (بحوث في القرآن الحكيم)، حيث تناول رأي القرآن الكريم والمعصومين (ع). فتطرق الى عناوين مهمة لمفهوم العقل والمعرفة مثل (العقل في القرآن) (والعقل موهبة) و (السبيل لمعرفة العقل).
في البدء يجدر بنا الاشارة الى حقائق تمهيدية:
1- التذكّر والتذكير هما السبيلان المفضلان في حقل العقل والمعرفة كما في سائر حقول الفلسفة وعلم النفس لدى القرآن الكريم.
2- بمعرفة العقل نهتدي الى المنهج السليم للمعرفة، والى طبيعة الانسان النفسية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية والى كثير من الحقائق الهامة. ذلك أن الرأي الحازم في حقل معرفة العقل يعطينا قاعدة راسخة للعلم وسبل تحصيله، إذ العقل هو السابق الذي بالإيمان به، نملك الحجة القوية على صحة مدراكنا وأفكارنا واستنتاجاتنا، ولدى الكفر بها، ينبغي تصور قاعدة بديلة من إحساس وخيال نركن إليها في ذلك.
3- لا تجد أحداً اليوم ينكر العقل، أو يرضى بأن يقال له مجنون! وعندما نقول (العقل) نقصد به ذلك الأمر الذي يهدينا الى الحق والخير والجمال ويأمرنا به، ويكشف لنا عن امتناع التناقض وإمكان التسامي و... غير ذلك.
هذه جوانب من حقائق أشار إليها سماحة المرجع الديني السيد المدرسي، بيد أن الأفكار والطروحات حول العقل كثيرة، ففريق يقر بوجوده و بدوره وأنه أصيل في الإنسان ومفطور عليه، لكن يدعي أنه من طبيعة الانسان ومن ذاته، سواء أكانت الذات روحاً أم جسماً.
لكن القرآن الحكيم أوضح مفهوم مختلف فبين أن العقل ليس من ذات الانسان وليس بخارج عنه إنما هو هبة من الله سبحانه فالعقل ليس بجزء من ذات البشر، لكنه ليس بخارج عنه، ولقد تطرق سماحة المرجع المدرسي الى ذلك بصورة مبينة في كتابه (بحوث في القرآن الحكيم).
ومن بين الحقائق التي سوف تنكشف أمامنا بتسليط الضوء على العقل من خلال آياته، هي حقيقة الموهبة في العقل التي نعرف بها أن ضوء العقل لم يكن لدينا ثم فجأة وبدون أي نوع من الأكتساب الذاتي حصلنا عليه، ونفقده حيناً ولا نزال نصب إليه فترانا نريد أن نتذكر شيئاً فننساه ونريد أن نعرف شيئاً وقد يكون شيئاً بسيطاً فنجهله. حينها نعلم أن تدبير العقل بيد غيرنا وهو الله سبحانه.
ولو كانت موهبة العقل من ذات أنفسنا، إذاً ما فقدناه للحظة، وهل يفقد الشيء ذاته؟ ولما كان محدوداً أبداً، إذ إن المحدود نوع من الفقد الذاتي ولما عصت علينا أدنى المشاكل والملمّات.
إن معرفة العقل والسبيل لذلك في منظور القرآن المجيد ونظرة الإسلام لذلك، تتم عن طريق العقل نفسه فيعرف ذاته بذاته، فكل شيء يتعرف عليه في هذا الكون عن طريق العقل ومنها العقل نفسه، وبرأي سماحة المرجع المدرسي: (إن السبيل الوحيد الى معرفته هي شدة إثارته، حتى ينتبه الى نفسه ويعي مكنونات ذاته بذاته)، وكما إن النور القادر على كشف الأشياء وأيضاً كشف ذاته، فان العقل كذلك لا يمكن أن يكشف عن كل شيء ثم يبقى مجهولاً.
وبتكرار عملية العبور هذه يزداد وعي العقل لذاته ويقظته تجاه مكنوناته، وتشتد ثقته بقدراته ويقتدر على كشف حقائق جديدة وهذه الظاهرة (زيادة العقل بشدة إثارته) هي الظاهرة التي فشلت في تفسيرها فلسفات البشر.
ولكي نكون أمناء جداً على بصائر القرآن الحكيم، لابد أن نذكر بأن العقل نور، ومن حيث ذاته لا يتأثر بالخارج ولا يزداد ولا ينقص من مقدار نوريته، بل كل ذلك من حيث إضافته الى النفس، و المذكور أعلاه عبارة عن مدى زيادة العقل في النفس.
ولمعرفة العقل وكشفه يبدأ بكشف الأشياء والحقائق بداية ً ومن خلالها الى الكاشف أي العقل مثل النور الكاشف نعبر إليه من خلال الأشياء المضاءة بهذا النور، وهذه العملية (عملية العبور من المكشوف الى الكاشف) تشبه عملية العبور من الآيات الى معرفة الله سبحانه وتعالى.
إن الانسان حين الغضب لا يميز بين الخير الذي لا يرتاب عاقل في حسنه، وبين الشر، فهو سواء أمامه لحظة الغضب. إلا أنه يعود فميّز بين الخير والشر، وهذا الأمر الذي ميّز بينهما هو العقل، وفي لحظة الغضب يفسح المجال لدور الشيطان في إغواء الغاضب الى طريق الشر، لذا ينصح الغاضب بالاستعاذة من الشيطان الرجيم وبأن يهدأ ويضبط أعصابه ليستيقظ العقل، وهذا المنهج الجديد في معرفة العقل لا يختص بثبوت العقل، بل يكشف أيضاً لو تم اتباع صفاته بدقه وأسباب زيادته ونقصانه وسبل بلوغه الحقائق.
فأول ما يكشف عن العقل من صفات نفسيه، ارتباطه الوثيق بالمشيئة البشرية والتي قد يستنير أو لا يستنير بالعقل، إذ العقل كأية نعمة موهوبة للإنسان رغم أنها ملك الانسان ومستجيب لحاجته، لكنه لا يفرض ذاته عليه، بل يخضع له خضوعاً، فأنت قادر على أن تستنير من عقلك فتفكر وتستطيع أن تدع ضوء عقلك مطفأ ولا تفكر أبداً، وهذه الصفة تبين أهمية التركيز في معرفة الأشياء، فهو التوجه التام الى حقيقة الشيء باستعمال دوافن العقل كله، أما عدم التركيز أو الاضطراب الناتج عن ضعف الإرادة وعدم اتخاذ القرار الحازم فتفقد التركيز، فانه هدر لنعمة العقل وتجميد الارادة، كما ان حالات الانهيار العصبي الذي يأتي أحياناً على الانسان بسبب الغضب الشديد أو الشهوة العارمة، أو الحزن العميق هو الآخر يضعف الإرادة فيؤثر على نفاد العقل.
إن أختيار الأمور والقرارات نابعة من الإرادة لذا يستحيل على الانسان أن يتوقع الهداية دون أن يسعى إليها ويختارها وكذلك المعرفة تأتي من الإرادة في حب المعرفة.
إذاً ما دامت التربية هي القدرة على ضبط النفس حسب الإرادة الحرة، و كون الإيمان والعلم من انعكاسات التربية، فإن العقل يتأثر بها، إذ يتأثر العقل بالإرادة، والعقد النفسية آتية من فقد الإرادة التي يفترض أن تحرر الانسان من عجزه وخوفه وتجعله يفكر بطريقة سليمة.
هذه العقد النفسية التي تشوش الأفكار وتجعل الانسان غير مبصر للحقيقة، يعبر عنها القرآن الحكيم بـ(الهوى)، "فإن لم يستجيبوا لك فأعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدي القوم الظالمين" (القصص /50).
إن معرفة الله سبحانه تأتي من العقل، حتى في أتباع أوامره ونواهيه، فللعقل الدور الرئيس في إتباع أنبيائه و رسله إتباع أهل البيت (ع). وأوضح سماحة المرجع المدرسي العلاقة بين العقل والحق: (هنالك علاقة وثيقة بين العقل وبين إتباع الحق، فالعقل يهدي الى الحق وحب الحق والإرادة باتباعه، و يدعوان – الحق حب الحق- الفرد الى العقل، ومن هنا تأتي ضرورة التسليم للحق ورفض الاستكبار عليه). والتسليم للحق يأتي من العامل النفسي المؤثر في الرغبة الى الحق وتجنب الغرور بما لدى الانسان من أفكار ومسبقات ومن الثقة بعقله لمعرفة الحق، فمن يشعر أنه عاجز عن المعرفة وبلوغ مراتب متقدمة من العلم والمعرفة، عليه أن يلجأ الى تقليد من كان أجدر وأكثر ثقة ونبغ في الحصول على العلم والمعرفة.
وبما أن العقل موهبة فإنه مفقود من فترة طفولة الانسان، ولكنه يُبعث فجأة في الانسان حينما يبلغ سن الرشد، قال الله تعالى: "حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أشكر نعمتك التي أنعمت علي" (الاحقاف/ 15)، وهنا يشعر بضوء باهر يغمر فؤاده، ليهديه الى الحكمة والعلم، فالحكمة تبين له الخير والشر وهي القيمة النهائية التي نلجأ إليها، يقول المرجع المدرسي: (إن الحكمة هي السبيل التي هدى الله إليها الانسان)، قال تعالى: "إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفورا" (الانسان/ 3).
وأخيراً لقد لخّص سماحة السيد المرجع (دام ظله الوارف) نظرة الاسلام والقرآن الى العقل بالتالي:
1- إن معرفة كل شيء تتم بالعقل، ومعرفة العقل تتم بذاته.
2- العقل نور أو طاقة موهوبة للنفس، فلا هو من ذات النفس ولا هو مكتسب من الخارج.
3- تعتمد صحة العلوم البشرية على التسليم للعقل، ولذلك فإن معرفة العقل، تُعد بداية التقييم الصحيح للعلوم جميعاً.
4- معرفة الخير والشر تعتمد على العقل، والدعوة الى الخير آتية من العقل، ولا عقل لمن لا يعمل به.
5- المعرفة تربية أولاً، وتعليم ثانياً.
***********
*طالب في حوزة الإمام القائم (عجل الله فرجه)
|
|