قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام
من عوامل النهوض الحضاري..
العدل والإحسان
*كريم الموسوي
الأمة المقتدرة لاتمثل أفراداً منقسمين على انفسهم، بل هي مجموعة من الافراد يدعم بعضهم بعضاً، ويسعون جميعهم من أجل هدف مشترك واحد. وعندما تكون الأمة سائرة على الطريق الصحيح فان افرادها سيضعون في كل يوم حجراً جديداً على بنائهم، ومع مرور الزمن يتحول هذا البناء الى صرح شامخ.
هذا ما يريده منّا القرآن الكريم بأن نكون أمة متعاونة فيما بينا نبني ونتقدم، وكتابنا الكريم يبين لنا قواعد بناء هذه الأمة، وكيف تصبح قوية مقتدرة، وذلك من خلال تقديم توجيهات يقف العدل في مقدمتها، والذي يمثل الطرف الآخر للحق. فالعدل هو العمل بالحق، وان نعطي لكل انسان حقه، لكنه لايعني المساواة دائماً، لانها قد تسبب الظلم كما إذا ساوينا بين المحسن والمسيء، أو بين العاطل والعامل. بينما المفهوم الحقيقي للعدل ان نعطي لكل ذي حق حقه كما أمر به الله، وكما تقتضيه الفطرة الانسانية، والعدل هو قوام الحياة، والمجتمع الذي يقوم على اساس العدل هو مجتمع منسجم مع سنن الله في الكون.
وإذا أردنا مطابقة هذا الكلام مع عالمنا اليوم، نجد ان المجتمع البشري يقوم على اساس الظلم. فهناك أقلية تعيش بأفضل حال، وتتمتع بكل وسائل الراحة، وتمتلك اكثر من ثلثي خيرات هذه الارض، في حين ان الاغلبية الساحقة تعيش حالة الفقر والحرمان. لذا ان مشاكل العالم بازدياد مستمر. والحل الوحيد امام البشريـة، في أن تعيش الراحة والسعادة بعيداً عن الحروب والمشاكل، هو أن تعيش تحت راية العدل الالهـي. وهذا الحكم كما ينطبق على البشرية ككل، فانه يصدق ايضاً على أي تجمع آخر مهما كان صغيراً.
فنحن إذا اردنا ان نبني مجتمعاً منسجماً وموحداً، فلابد من ان نقيمه على اساس العدالة، وان يكون حق كل انسان محفوظاً. وبناء على ذلك فان العدل هو اساس الحضارة، أي ان قوتها تكمن في العـدل، وضعفها ناجم من الظلم الذي يؤدي الى انهيارها عاجلاً ام آجلاً.
*معالم الأمة المقتدرة..
يدلنا القرآن الكريم في سورة (النحل) (الآية /90-91) على معالم الاقتدار علّنا نهتدي السبيل وننقذ مجتمعنا مما فيه التمييز والحرمان والتخلف الحضاري والثقافي:
1- "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ" ..
الملاحظ هنا انه تعالى قد ذكر هنا مفهومين؛ العدل والاحسان. فمستوى العدل ان تعطي الآخرين حقوقهم دون زيادة او نقصان، أما الاحسان فهو ان تعطيهم زيادة في حقهم بعد ان تأخذ من حقك.
2- "وَإِيتَآءِ ذِي الْقُرْبَى"..
بما إن الأسرة تُعد التجمع الاول والاساس في البناء الحضاري، لابد أن نبدأ من هذا المجتمع الصغير، فالمجتمع الذي يعيش التهرؤ والاختلاف لايرجى له التقدم. لذا يجب علينا ان نحكّم العدل في العلاقة بين اعضاء الاسرة الواحدة، ثم ننقل هذه العدالة الى المجتمع الكبير. فإيتاء ذي القربـى، هو أن تكون أيدينا مفتوحـة ازاء من تربطنا به علاقة القرابة، وهذا مستوى أعلى من العدل، وأسمى من الاحسان.
3- "وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَآءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْي"..
معنى الفحشاء أن لا يلتزم الانسان بالعدالة بالنسبة الى نفسه، فهو لايعيش حالة التوازن في نفسه كانسان، وعلى هذا فان تنظيم الحياة يقابل الفحشاء، والعدل في حياة الانسان هو ان يصوغ حياته على ضوء الأوامر الالهية فيعطي كل جانب من حياته، وكل بعد من ابعاد وجوده حقه. اما المنكر فيعني ان يتجاوز الانسان ظلماً و يسلب حقوق الآخريـن، ويعتدي عليهم. وقد نهى الله سبحانه وتعالى عن البغي، والعدوان على الآخرين.
إذن، لنأخذ بنظر الاعتبار هذا النظام الاجتماعي القائم على اساس العدل، والاحسان، وإيتاء ذي القربى؛ ولنحذر أشد الحذر من الظلم، والفوضى، وقيام المجتمع على اساس الفحشاء والمنكر والبغي.
4- "وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا"
يجب ان نبني علاقتنا مع الآخرين على اساس كلمة الشرف. فعلينا إذن أن نفي بالعهد، وان تكون كلمة الشرف هي محور علاقاتنا مع الآخرين، لكي نستطيع ان نحافظ على وحدتنا وتماسكنا.
هنا يظهر سؤال: ما هو معيار الحسن والقبح لوضع النقاط على الحروف وتحديد المعايير الاخلاقية التي أشرنا اليها آنفاً؟
للاجابة على هذا السؤال، ان المقياس الرئيس للحسن في مجال العلاقات الاجتماعي ان يكون دور الفرد في التجمع الذي ينتمي اليه، اكثر من غيره، فليس من الصحيح ان يرى الواحد منّا ان تجمعه لايعطيه حقه فيبدأ بنقضه بطريقة او بأخرى لكي يبنيه من جديد حسب تفكيره، فيكون حاله كحال تلك المرأة الخرقاء التي يحدثنا عنها القرآن الكريم قائلاً: "وَلاَ تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً" (النحل/ 92)، ثم يقول تعالى: "... تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أمة هِيَ أَرْبَى مِنْ أمة" (النحل/ 92).
أي ان التجمع الذي لايفي بعهده، فانه في الحقيقة لايفي باليمين الذي قطعه على نفسه، فيخشى ان يصبح الشخص الفلاني قائداً له، ويفكر كل واحد في ان يصبح هو القائد، فيعمد بذلك الى هدم البناء.
وعلينا ان نحذر في هذا المجال من ان نجعل لانفسنا قالباً ثم نطلب من الآخرين ان يدخلوا فيه. فالله سبحانه وتعالى يقول محذراً من هذا السلوك السلبي: "وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أمة وَاحِدَةً وَلَكِن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَلَتُسْاَلُنَّ عَمَّا كُنتُم تَعْمَلُونَ" (النحل/ 93).
ومن هنا يتضح إن الاسلام حدد لكل فرد في المجتمع واجباته التي يجب أن يتسابق لأدائها على أفضل شكل ممكن، لا أن يقف في مكانه ويصدر الاحكام ويحدد الأخطاء لهذا أو لذاك، إذ ليس من واجب الفرد محاسبة الناس على ما في ضمائرهم، كما هو غير مستعد لأن يُحاسب على ما في ضميره ومكنوناته، وعبر هذا الطريق يمكننا تطويق الخلافات داخل المجتمع وصولاً الى نقاط القوة والاقتدار.