قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الوحدة .. بين الشعار السياسي و النافذة للطموحات الانسانية
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *أنور عزّالدين
الوحدة؛ طموح طالما راود الشعوب والمجتمعات، وهو شعار طالما جرت خلفه احزاب وتيارات سياسية وفكرية للتعكّز عليها وصولاً الى السلطة والحكم، فهي مفردة جميلة محببة الى النفس ومفهوم يداعب الفطرة الانسانية ويبعد عنه شبح التمزق والضعف والهزيمة. لكن كيف تتحقق هذه المفردة (الوحدة) في حياتنا؟
اذا ابتعدنا قليلاً عن الاجواء السياسية التي تحاول ان ترفع الوحدة شعاراً برّاقاً، واقتربنا الى القرآن الكريم الذي يعالج القضايا والامور بعمق وشمولية، نجد ان الوحدة لها جذور في تكوين الانسان، وتحقيقها لا يتم بقرار سياسي او اعلان رسمي، إنما بمراجعة للسلوك الذي نتهجه الانسان في حياته، فاذا كان ايمانياً وانسانياً، فانه لن يكون بحاجة الى قرار حكومي، أما إن كانت المنهجية هي العدوان ونزعة العنف والانتقام والهيمنة، فانه حتى وان انفقت عدة حكومات مجتمعة ما لديها من ثروات وقدرات ما استطاعت ان تحقق هذه الوحدة بين البلاد والشعوب.
لنلاحظ ان اول حادث يذكره القرآن الكريم في حياة البشر هو الصراع بين أخوين: (قابيل وهابيل)، وكانت نتيجة الصراع أن قابيل أخاه هابيل. ويجب ان ننتبه الى ان سرد القصة لم يكن لمجرد الحكاية والتسلية كما هو دأب البعض في الوقت الحاضر. إنما القصة القرآنية تحمل العبر والدروس والتذكير بخلفية المشكلة التي أدت لنشوب أول صراع في تاريخ البشر، وهذا تحديداً ما تضمن رسالات الانبياء والرسل، حيث عالجوا الاسباب والعوامل التي تؤجج الصراع وتمزق عُرى المجتمع. علماً ان الصراع يبدأ بين الزوج و زوجته ، وبين الأخ و أخيه، وبين الجار مع جاره، فاذا وجدنا مجتمعاً موحداً ومتماسكاً، لابد ان نتيقن ان افراده تسودهم اجواء الودّ والمحبة والتعاون. والعكس بالعكس. وهو ما يدعو اليه القرآن الكريم خدمة للانسان وللمجتمع نفسه، نقرأ الآية الكريمة: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ" (آل عمران /103 ).
نظريات للوحدة
بما ان الوحدة باتت همّاً سياسياً كبيراً وشعاراً يخدم الانظمة الحاكمة، فان افكار ونظريات طُرحت في هذا المجال وذلك بعد قرون من تبشير القرآن الكريم للانسان بالطرق والقواعد الصحيحة للوحدة بين افراد الجنس البشري، من هذه النظريات:
أولاً: من خلال الحكم المركزي والفردي الذي يوحد الارض والانسان، حتى وان كان بثمن الديكتاتورية ومصادرة الحريات وكثير من الحقوق، والمثير ان هذا النمط الشمولي والديكتاتوري له مؤيدوه ومناصروه من مفكرين ومثقفين حتى اليوم، وليس كما نتصور بانها تجربة أبيدت الى الابد كما هو الحال في الاتحاد السوفيتي السابق او يوغسلافيا السابقة او بلدان اوربا الشرقية سابقاً، لننظر الى بلد اسلامي وكبير ومهم في الجزيرة العربية، نجد هنالك من يثني ويمجّد المدعو (عبد العزيز آل سعود) بانه تمكن بقوة فرسانه وسطوته وعنجهيته ان يوحد مناطق (نجد) و (الحجاز) في دولة واحدة وتوحيد القبائل في اطار انتماء لبلد واحد. لكن هذا حصل على حساب حقوق الناس في معتقداتهم وآرائهم في السياسة والاقتصاد والامن، واليوم نشهد كيف ان هذا البلد الموحد اصبح يحمل العلامة الفارقة بين دول العالم بانه يصدر رجال ينتحرون باحزمة ناسفة وسط الاسواق والاماكن العامة، او يفجرون السيارات وحتى الطائرات المفخخة، وبالنتيجة بات أي مواطن يحمل (الجنسية السعودية) ينظر اليه في مطارات العالم بانه مشبوه وعليه علامات استفهام.
ثانياً: الثروة المدعومة بالنظام الرأسمالي التي تشجع على الانتاج وسياسة السوق المفتوحة، ولعل ما نشهده من عولمة اقتصادية وتفعيل لمنظمة (غات) التابعة للامم المتحدة لتحرير التجارة الدولية وازالة قيود الجمارك، ومن خلال التبادل التجاري بين دول العالم، فان الشعوب ستكون اقرب من بعضها من خلال تبادل السلع والمنتجات، لكن الاعتراض والسؤال الكبير الذي يعجز عنه اصحاب هذه النظرية هو؛ ما هو مصير البلاد الفقيرة والمتخلفة أو غير القادرة على المنافسة، فان كانت فقيرة بالاساس ستزداد فقراً ومأساة، وإن كانت تمتلك شيئاً من الثروة المعدينة مثل النفط وغيرها، فانها مهددة بالاستنفزاف والفقر على المدى البعيد وربما القريب، لانها ستكون تابعة لدول متقدمة اقتصادياً وتكنولوجياً، وفي أحسن الاحوال ستكون مقلّدة في بعض صناعاتها وانتاجها.
ثالثاً: النظرية الاسلامية.. انها تنسف الوحدة كشعار ترفعه الانظمة الديكتاتورية، والوحدة التي توظفهاالانظمة الرأسمالية لخدمة مصالحها المادية. وتشيّد الوحدة على اساس العقل مضافاً الى الوحي، فالعقل في الاسلام هو الحجة الباطنة، والوحي هو الذي يثير دفائن العقل، ويفجر طاقات الفكر وهو الحجة الظاهرة لله سبحانه على العباد المتمثل بانبياء الله تعالى وخاتمهم نبينا الأكرم صلى الله عليه وآله، وهذا هو الاساس المتين للوحدة .
هذه البصيرة القرآنية تعني ان ليس من حق احد الغاء دور الآخرين. فالوحدة لاتعني وحدتي انا فحسب، بل تعني توحيد الله وحده، واستظلال (الانا) بظل رحمة رب العالمين، وبقاءنا جميعاً في ظل سحابة الرحمة الالهية الواسعة. فالذي ينظم علاقتي بك هو عقلي وعقلك، والوحي بدوره هو الذي ينظم عقلينا ، ويفجر طاقات فكرينا .
الصنيمة ضد الوحدة
من هنا يمكن ان نتدبر في الآية المباركة الآنفة الذكر: "وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا"، فهل حبل الله هو القومية او العنصرية او الديكتاتورية؟ وهل يعني الاقليم او الدولة ؟ كلا بالطبع ، فالحبل الالهي هو ان الله جل وعلا هو رب كل شيء، وهو رب السماوات والارض، وخالقنا جميعاً. فعلاقة الله بي ، وعلاقته بك ، هي علاقة واحدة، لانه هو الذي خلقك وخلقني ؛ فكلنا عباد له .
وعندما قال المرجع المجاهد آية الله الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء (رحمه الله): (بني الاسلام على كلمتين ؛ كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة)، فقد ربط بين الاصل والفرع. فكلمة التوحيد لاتنفصل عن توحيد الكلمة، فمن يؤمن بالله لايمكن ان يجمع الى هذا الايمان، إيماناً آخر بارضه او بقوميته او بعنصره... وإذا كان الجمع بين الايمان بالله والايمان بالاعتبارات الاخرى ممكناً، فماذا تعني الاصنام اذن...؟ وهل كان الانسان غبياً في التاريخ الى درجة انه لايعلم ان هذا الصنم لم يخلقه؟! وذلك الانسان الجاهلي الذي كان يصنع صنماً من التمر حتى اذا جاع التهمه! أفلم يكن يعلم ان هذا الصنم ليس الهه ؟! بلى... انه كان يعلم بذلك ، ولكنه كان قد جعل من التمر رمزاً لقبيلته.
وهذا يعني اننا عندما نقول (صنم) فان ذلك يقتضي ان نرفضه، ونرفض تلك القوة التي تدعم هذا الصنم. اما اذا كنا نؤمن بصنم من قبيل القومية او العنصرية او اي صنم آخر، فان هذا يعني استحالة ايماننا بالله الواحد ؛ وبالنتيجة فان ايماننا بهذه الاصنام يستوجب عدم اتحادنا، لان الاصنام لابد ان تفرقنا. فاذا عبد كل واحد منا صنماً ، فسوف يكون لكل انسان عشيرته ، وارضه ، وعنصره ، ولغته المختلفة عن لغة الآخرين.
وهذا يرشدنا الى ان الصنمية فكرة وتطبيقاً على ارض الواقع، تقف بالضد من فكرة الوحدة والتلاحم الاجتماعي وحتى الوطني، فقد تكون الاصنام في الوقت الحاضر على شكل سلطات حاكمة او سلاطين في مواقع مقتدرة، ولا يكون للعشيرة او العنصر او القوم قوة تذكر، فالنتيجة واحدة، فالصنمية الحزبية او السياسية لن يكون في صالحها الوحدة والتلاحم بين افراد الشعب او الجماعة، لأن هذا من شأنه ان يخلق عوامل قوة من قبيل الوعي والثقافة والابداع وهو ما لا يريده الحاكم – الصنم إنما يطلب الطاعة والانقياد الاعمى دونما مناقشة. وان حصلت محاولات في طريق الوعي والنهضة الفكرية، نجد محاولات بالمقابل لزعزعة استقرار المجتمع وبث الفرقة وروح التمزق فيه. وخير دليل على ذلك ما شهدناه من سياسة خبيثة اتبعها النظام البعثي – الصدامي البائد مع الشعب العراقي، عندما عزل في البداية بين عامة الناس وبين الدين ورموزه، ثم أتى الى شرائح الناس والمجتمع، وبدأ يقطّع ويمزق فيهم جزءاً بعد آخر، حتى بلغ الامر أن يفرق بين الاب وبين ابنه الطفل الصغير وبات الاب مع كل هيبته ومنزلته الاجتماعية المعروفة، يخاف من ابنه الصغير لئلا يشي عليه عند المعلم في المدرسة، والامثلة كثيرة في هذا المجال، ولعل القارئ ستتبادر الى ذهنه صور ومشاهد لا تعد ولا تحصى من هذه السياسة، والنتيجة؛ ان افراد الشعب العراقي بات يعيش حالة الاحباط واليأس واللامسؤولية حتى ازاء النفايات التي امام بيته او السارق الذي يسطو على جاره!
من هنا فاننا اذا اردنا تحقيق الوحدة بين افراد المجتمع ما علينا الا البحث في اسباب التمزق ومعالجتها وازالتها عندئذ نجد الوحدة والتلاحم اقرب الينا مما نتصور، لنلاحظ –مثلاً- مراسيم احياء ذكرى الامام الحسين عليه السلام في ايام عشوراء او الاربعين، وكيف تتظافر الجهود ووتوحد القوى والامكانات لهدف واحد لاغير هو الامام الحسين عليه السلام. وهذا يدلنا الاسلام على كل هذه الحالات الايجابية المحببة الى النفوس لتكون ضمن حياتنا اليومية طوال ايام السنة وليس خلال ايام معدودة.