خطورة تغلغل الآراء البشرية في الدين
|
*يونس الموسوي
يكفينا لتبيين خطورة استخدام الرأي في الدين، هو أن نقول بأنّ ما عليه المسلمون اليوم من الاختلاف والتمزق والابتعاد عن دين الله إنما هو نتيجة للآراء التي أقحمت بالدين فتحولت وأصبحت على شكل مذاهب وفرق إتخذت طابعاً إسلامياً.
إذا قلنا (الاسلام) فهو دين الله وشريعته للبشرية الخاتمة، وأما إذا قلنا المذاهب والفرق نتساءل ونقول: هل هي من عند الله أم من عند البشر؟ انها ليست من عند الله وأنه عزوجل لم يذكرها في كتابه المجيد ولم يؤسسها النبي الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم، ذلك أن الدين واحد وأن الاسلام واحد وهو من عند الله، وأما ما عدا ذلك فهو من تأسيس البشر ونتيجة لآرائهم التي أدخلوها في الدين، ولم يفرّقوا بينها وبين السماوي.
وكانت هذه كما في الروايات والأحاديث الشريفة هي البداية للتحريف الذي حدث في الأديان السابقة، كما نقرأ عن الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله: (لم يزل أمر بني اسرائيل معتدلاً حتى نشأ فيهم المولدون وابناء سبايا الأمم التي كانت بنو اسرائيل تسبيها فقالوا بالرأي فضلّوا وأضلّوا) كنزالعمال، خ918.
وفي البداية لابد أن نتفق بأن دين الله بعقائده وشرائعه هو شيء منزّه عن العيب والنقص، يعني أنه يسد حاجة الإنسان الفكرية والشرعية، فمن يعتقد بالرأي واستعماله في الدين هو في حقيقة الأمر يدعّي النقص في هذا الدين حتى وإن لم يتفوه بذلك بلسانه، لأن إستعمال الرأي معناه: الأخذ بالرأي البشري دون الحكم السماوي وهذا يحدث نتيجة أمرين:
الأول: إن الله سبحانه وتعالى لم يجزم حكماً في تلك القضية، وهذا باطل ومعارض لحقيقة كمال الدين.
الثاني: هو جهل الإنسان المستعمل لرأيه في العقائد أو الأحكام بحقيقة ما أرسله الله عزوجل أو بسنة النبي الأكرم (ص) وهو الأقرب إلى الحقيقة، لأن الذي يعرف الكتاب والسنة من دون لبس أو تشويش هو يستطيع إستنباط أحكام الله عزوجل من ذلكما المصدرين الرئيسيين، أما الذي لايعرف فإنه سيتخبط بين رأيه ورأي الشرع حتى يسقط في الشبهة.
وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وآله عن حال هذه الأمة من بعده فقال (تعمل هذه الأمة برهة من كتاب الله ثم تعمل برهة بسنة رسول الله ثم تعمل بالرأي فقد ضلّوا وأضلّوا) كنزالعمال، خ915.
ولو أخذنا مسألة بسيطة على سبيل المثال، وهي تفسير القرآن الكريم وهي بسيطة نسبة إلى الكتاب والسنة وإلا هي بحد ذاتها مشكلة كبيرة أدت إلى تعقيدات كثيرة، فبالنسبة إلى التفسير فكل جماعة وكل مذهب وكل فئة بل كل عالم له تفسيره الخاص للقرآن الكريم مع معارضة النبي الأعظم (ص) للتفسير بالرأي، وأقول: إنه لو اتفق المسلمون جميعاً على تفسير واحد للقرآن الكريم لحلّت أكثر مشاكلهم، وتهاوت اختلافاتهم، ولكن لكل عالم ولكل جماعة تفسيرها الخاص بالقرآن الكريم المغاير تماماً لتفسير الفئات الأخرى.
السؤال المهم هنا، إذا لم ينبري هؤلاء العلماء لتفسير القرآن الكريم ولم يبرزوا آراءهم بشأن القضايا العقائدية والأحكام الشرعية ماذا سيكون مصير المسلمين؟
القضية المهمة هنا هي: أن الله سبحانه وتعالى لم يترك دينه مبهماً من غير توضيح، ولم يهمل عباده المسلمين من دون أحكام، فأنزل إليهم كتاباً مقدساً فيه تبيان لكل شيء، وبعث فيهم رسولاً مبيناً ومفصلاً لكل شيء من العقيدة والاحكام، لكنهم اختلفوا من بعده وتشرذموا إلى أحزاب وجماعات، وأهم شيء اختلفوا فيه هو القرآن الكريم.
وقد أرجع الإمام علي عليه السلام القرآن الكريم إلى نصابه في عهد الخليفة عثمان، كما أعادت الإمامة إلى الأمة دينها، وهكذا يتبين أن النبي الأعظم صلى الله عليه وآله خلّف من بعده الامامة لتكون حليفة القرآن، فلولا الإمامة لما حفظ القرآن، ولولاها لما حفظت سنة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله. وهنا ندرك بأن الله سبحانه وتعالى لم يترك دينه سدىً ولم يهمل عباده دون أن يبعث إليهم أئمة يهدونهم إلى الرشاد، فهم صلوات الله عليهم كانوا اللسان الناطق للقرآن الكريم والحافظين لسنة النبي الأكرم (ص) بعد محاولات واضحة من جانب بني أمية لتحريف تلك السنّة.
ومنذ أن ابتعدت الأمة عن الإمامة دخل اللبس في دينها وبدأت الآراء البشرية تتغلغل إلى النصوص الدينية وإلى الأحكام الشرعية وإلى تفسير القرآن الكريم، وما نلاحظه اليوم من فوضى في الفتوى ولدى بعض الفرق الإسلامية إنما هو نتيجة لتلك الآراء التي أقحمت في الدين وصرفت المسيرة الإسلامية وفتحت المجال لكل من تعلم شيئا من الإسلام لكي يُفتي الناس حسب آرائه وقياساته العقلية التي لاأصل لها من الدين الشريف. وهؤلاء عندما وجدوا أنفسهم في القمّة، وملاذاً للأمة في مسائلها الفكرية والشرعية، أخذوا يدلون بآرائهم الخاصة وتفسيراتهم ليركبوها على الدين، وهم لايعلمون بأنهم بهذا الفعل سيخلقون ديناً جديداً يختلف إختلافاً كلياً عن دين السماء، وهذه هي النتيجة الطبيعية للتجاوز على دور ومقام الإمامة.
ان الإمامة هي الضمانة الأكيدة لدين الناس وإيمانهم، لأن الأئمة عليهم صلوات الله هم أكثر الناس معرفة بالقرآن الكريم، وحتى إذا لم نتحدث عن امتياز العصمة فامتياز النسب وقربهم من الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله يجعلهم في المقدمة في كل الحالات، لأنهم كانوا يحفظون في كتبهم أحاديث النبي الأكرم (ص) بعد ما ضاعت من أيدي المسلمين في فترة منع تدوين الحديث في عهد الخليفة الثاني. والعقل يحكم بأن يأخذ المرء السنة النبوية الشريفة من بيت الرسول الاكرم وليس من مكان آخر، لاسيما وأن الأمويين إستفادوا من فرصة منع تدوين الحديث ليقوموا هم بعد ذلك بهذا العمل وإضافة أشياء كثيرة عليها.
وحتى بالنسبة إلى تفسير القرآن الكريم فقد أخذوا بتفسير الكتاب حسبما تشتهي أنفسهم وترغب من دون رعاية لأسباب النزول أو الروايات الواردة في هذا الشأن، بينما قدّم الأئمة عليهم صلوات الله التفسير السليم لكل آية من آيات الكتاب المقدس ولاسيما الآيات المتشابهة التي اختلف فيها المسلمون ومنعوا من تفسيرها بآرائهم.
وهناك آيات كثيرة تدل على الإمامة وعلى منزلة آل البيت عليهم صلوات الله وأن التفسير السليم لمثل تلك الآيات سيبرز المكانة الحقيقية لآل بيت النبوة، ولكنهم عندما يحرفون معاني تلك الآيات فإنهم في الواقع يحرفون الدين عن جادته السليمة.
من هنا لابد أن يعرف كل مفتي ولاسيما أولئك الشبان الذي بدأوا يظهرون على مستوى وسائل الاعلام العربية بالعشرات والمئات، لابد أن يعرفوا بأن إستعمال الرأي في مسائل الحلال والحرام، هوالذي أوصل الأمة الاسلامية إلى هذا المستوى من الاختلاف والاقتتال.
|
|