بناء جدار الوحدة .. بين قاعدة الحب وقاعدة الكراهية
|
*أنور عزّالدين
ثمة حقيقة لابد من الاشارة اليها، وهي ان سنن الله تبارك وتعالى شاملة وعامة لاتختلف من زمان لآخر، ولا من انسان لآخر . وآيات القرآن الكريم لا تخلو من تفسير وتذكير بهذه السنن، لذا يجدر بالانسان ان يستوحي من القرآن الحكيم ما يعالج به أوضاعه ويشفي أمراضه ومنها حالة التفرّق والتشتت التي تعاني منها الامة.
ولا يغيب عنا ان مثل القرآن الكريم كمثل الغيث الذي ينزل من السماء، حيث كل بقعة من بقاع الأرض تمتص من هذا الماء قدراً معيناً تستفيد منه بالطريقة التي تناسبها. لذا يجب ان يكون الانسان مستعداً لتلقي هذا الغيث والرحمة الالهية. ومن اعظم ما يجعل الانسان يستفيد من القرآن الكريم، الاعتقاد بان آياته تعنيه وتنفعه، وليس كما يتصور البعض بانها لا تنفعه، وان كانت فانها خاصة بالمؤمنين او باصحاب الرسول الاكرم صلى الله عليه وآله. في حين ان الآيات القرآنية حتى ولو تحدثت عن المشركين وعبدة الاوثان، فانها تتحدث عن السنن الالهية العامة التي يخضع لها المشركون كونهم بشرا، ولذا فان الله سبحانه وتعالى عندما يتحدث عن المشركين الذين جابهوا رسول الله صلى الله عليه وآله عندما أمرهم بعبادة اله واحد فانه قال عن لسانهم: "أَجَعَلَ الأَلِهَةَ إِلَهاَ وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى ءَالِهَتِكُمْ اِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ" (سورة ص / 5-6). هذه المعارضة لم تكن معارضة شاذة، اي انها لم تكن نابعة من المناخ الذي كان سائداً في مكة آنذاك، انما هي من طبيعة الانسان، فالانسان يبقى هو الانسان، فالانسان المكي في زمن الجاهلية هو نفسه انسان اليوم في بلاد الاسلام، مع فارق الظاهر، فهو يتأثر بنفس المؤثرات، فنحن ايضاً يمكن ان نتخذ آلهة متعددة ونقول: كيف تكون الآلهة في مصلحة اله واحد؟! كل ما هنالك ان الانسان في البيئة الجاهلية تحولت القضية بالنسبة اليه الى صنم يعبده بشكل ظاهري، اما نحن فاننا لانمتلك اليوم جرأة لأن نعبد هذه الاصنام الظاهرية فنلجأ الى اسلوب عبادة الاصنام الخفية، فنلتف - مثلاً - حول القانون، ونقول اننا يجب ان نقدس الارض او العلم، او العنصر او العشيرة و... وهي كلها آلهة من دون الله.
القاعدة .. المنطلق
ربما نسمع بشعارات الوحدة ترفع هنا وهناك، ورغم ان المفهوم واحد لكن نجد الاختلاف في المنشأ، فأية وحدة نريد...؟ هل هي وحدة القوم كما سعى لذلك القوميون العرب طوال قرن من الزمن؟ أم وحدة الوطن التي سعى ايضاً لها دعاة الوطنية القائمة على التراب والحدود الجغرافية؟ أم وحدة اللغة التي ابتدعها الاستعمار الفرنسي ويطلق عليها اليوم بـ (الفرانكوفونية) أو الناطقين بالفرنسية في العالم، وهم بقايا البلاد المستعمرة المتناثرة بين المحيطات والقارات؟
القرآن الكريم حينما يدعونا الى الوحدة في آية واضحة وصريحة: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ" (آل عمران /103)، فانه يضع لنا القاعدة الرصينة والثابتة وهي قاعدة الدين المتمثل بحبل الله المتين الواصل بين الارض والسماء، هذه القاعدة هي التي يجب ان تحمل بناء الوحدة الشامخ والرصين، وقد اثبتت التجارب ان كل القواعد التي انطلقت منها الوحدة لم تجد نفعاً للبشرية، بل العكس جرت الويلات والكوارث، فالحرب العالمية الثانية لم تندلع إلا بعامل الوحدة والتلاحم بين ابناء العرق الآري في المانيا، ولم يحقق الكيان الصهيوني كل هذه الانتصارات السياسية والعسكرية والامنية، ولم يصل الى ما وصل اليه من سيطرة على البلاد العربية والاسلامية، إلا باتخاذ العرب شعار (الوحدة العربية)، وهم الذين نزل الكتاب المجيد وكلام السماء بلغتهم. نعم هنالك اختلافات بين ابناء الدين الواحد من حيث الظروف الاجتماعية والثقافية والبيئية وغيرها، وهي حقيقة يقرّها الاسلام بل يعدها آية من آيات الله، تقول الآية الكريمة: "وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ" (الروم /22).
وعندما نقول (القاعدة الرصينة)، بمعنى انها تمثل مجموعة من الحقائق والقيم الاخرى التي لابد ان تجتمع الى بعضها لتكون جسرا للاصلاح والتغيير. فالوحدة هي رمز لصفاء الذهن وتعبير عن وضوح الرؤية وعن الايجابية، وتعبير عن الامل والخلق الرفيع، وعن التسامح والكرم والتضحية والايثار. وهذه كلها حقائق مختلفة ومتعددة ولكن رمزها واحد وهي كلمة (الوحدة)؛ فعندما نقول اننا قد صلينا في المسجد، او جلسنا في المصلى، فان كلمة (المسجد) او (المصلى) هي كلمة واحدة، ولكنها تعني مجموعة متكاملة من الحقائق. إذن؛ الوحدة هي البناء. اعمدتها الرؤى الستراتيجية، وجدرانها الصفات الحسنة، وسقفها القيادة السليمة، وارضيتها الايمان الخالص والنفسية النقية، وبالتالي فان كل هذه المفردات تجتمع مع بعضها لتكوّن حالة (الوحدة).
النزعة العاطفية اكبر الثغرات
ربما نتحدث عن الوحدة على اساس الدين والمبادئ الاسلامية، لكن هذا ليس كل شيء، فالانسان الذي يقول انه مسلم ومتدين، يبقى انساناً يحمل نوازعاً وغرائزاً تشكل عامل دفع الى جانب عوامل دفع اخرى في سلوكه وحياته، وهذه ربما تشكل ثغرة من جملة ثغرات في جدار الوحدة بين الاخوة المؤمنين، لذا نجد احياناً الثغرة عبارة عن الانانية الفردية واحياناً عبارة عن الحزبية والفئوية الضيقة، وهي مشكلتنا القديمة – الحديثة، فكل واحد منّا يعتقد انه يمتلك صحيفة بيضاء عند الله سبحانه وتعالى، ويعتقد بانه هو الذي يمثل الوحدة وانه هو المحور، أما الآخرون فهم منحرفون ولابد من تطويعهم والسيطرة عليهم!
هذه النزعة غير مقتصرة على شريحة معينة دون اخرى، بل ربما نجدها في المثقف كما نجدها في الانسان العادي، ونجدها في الانسان الجاهل كما نجدها في العالم. واذا القينا نظرة سريعة على واقع الساحة نجد ان القسط الاكبر من المسؤولية تقع على علماء الدين والمفكرين والخطباء. ومعروف تأثير العالم في تحديد مصير الامة، كما في الحديث الشريف: (اذا فسد العالِم فسد العالم). وليس ابناء الامة فقط معرضون للفساد في حال فساد العالم، بل ان الامراء والحكام يستمدون الشرعية لظلمهم وطغيانهم من فقدان صلاح العلماء، فلا يوجد حاكم يصلح من تلقاء نفسه، بل ان السلطة بحد ذاتها هي اعظم عامل في افساد الانسان. فالعالم اذن؛ هو وحده الذي يستطيع ان يصلح السلطة السياسية .
من هنا نفهم ان (الوحدة) كما هي ليست شعاراً سياسياً يرفع هنا وهناك، فهي ايضاً ليست رغبة نفسية تاتي بدوافع عاطفية، فالقضية لا تتعلق بشعب من الشعوب او بلد من البلدان، إنما الهدف الاكبر هو توحيد الامة الاسلامية جمعاء من اقصى الشرق الى اقصى الغرب، وهذا يتطلب نظرة متعمقة بعيداً عن التسطيح والعاطفية التي تدعو اليوم الى الوحدة لكن تنقضها بعد غد، او ندعو لها باقوال اليوم، ثم ننقضها بافعال في اليوم الثاني، وهذه نتيجة سقوط هذا المفهوم العظيم في وادي الحب والكراهية، فهذا من جماعتنا وذاك لا...! او هذا من مدينتنا ومنطقتنا وذاك لا...!
|
|