بين نظرتين على الدين والحياة..
حتى لا نكرر تمجيد الحاكم الظالم
|
*يونس الموسوي
لو كان من حق الانسان ان يتصوّر لنفسه ديناً خاصاً يتّبعه، ويدخله الله تعالى به الجنة، لما كانت هنالك حاجة ملحّة الى بعث الرسل، ولا الى تواتر الرسالات الالهية الى البشرية جمعاء. فلا ريب ان دين الله ليس هو كل ما يتصوّره الانسان وما يعتقد به. فهناك من يعتقد بعبادة الاصنام الحجرية، او عبادة نوع من النباتات، او الحيوانات... ولو كانت هذه الاعتقادات كافية للانسان لما بعث الله عز وجل الرسل، ولما انزل الكتب المقدسة، ولانعدمت جدوى الانبياء والمرسلين من أجل تحكيم مبدأ التوحيد والعمل برسالات الله .
*فئتان على غير صواب.
أمام هذه الحقيقة الناصعة، نجد ثمة فئتين من الناس تسعى جاهدة لأن تتنصّل من مسألة الهداية والرشاد والتكامل، وتعتقد أن لاحاجة للرسول والمبلّغ للوصول الى الحقائق:
الفئة الأولى؛ تحاول الإيحاء بان لا حاجة الى مرشد أو منار يضيء لها الدرب، فهي على الصراط المستقيم، ويعتقد أصحاب هذا المذهب أنهم لا شكّ على الصراط المستقيم. في حين انه لايكفي الانسان ان يعيش في عالم التمنيات، فيمنّي نفسه بصلاح اعماله وكثرة انجازته، ومن ثم بالفوز بالجنة. فهناك الكثير من الناس ممن يرتكبون المعاصي ويعملون المنكرات، ومع ذلك فانهم يخدعون انفسهم بصلاح اعمالهم بان تلك المعاصي لا تحول دون دخولهم الجنة .
الفئة الثانية؛ تزعم ان الدين ماهو إلاّ مجموعة من الواجبات الشخصية يقوم بها الانسان بعيداً عن المسؤوليات الأخرى كالمسؤولية السياسية والاجتماعية؛ معتقدين ان اداءهم لهذه الواجبات سيضمن لهم النجاح في الدنيـا والفلاح في الآخرة. ومن عادة هؤلاء ان يفتّشوا عن أي حديث او رواية تؤيد وجهة نظرهم ؛ كأن يأتي احدهم بقصص واحاديث غير موثوق بها، في حين ان عليه ان يتمسك بالقرآن الذي يمثّل الحجة الشرعية الدامغة .
والقرآن الكريم عندما يبيّن لنا الاسلام، فانه يبيّنه على حقيقته نابضاً بالحيوية، فاتحاً للآفاق، كاشفاً عن الحقائق، مثيراً لدفائن العقول، مبصّراً بالاوضاع، لا كما يتصوّر البعض من المحدودية والعجز والانفصال عن الواقع .
من هنا على الانسان أن يعرف بان الايمان وحده غير كافٍ إذا لم يجسّده على ارض الواقع ضمن أطر الدين التي تشمل الحياة كلّها، وبالطبع فان الانسان لايستطيع ان يصل الى درجة الايمان من دون ان يواجه الصعوبات والازمات فهذه المواجهة ضرورية من اجل ان يجتاز مرحلة الامتحان، ليثبت جدارته في الالتزام وتحدي أهواء الذات .
و مشكلة المسلمين اليوم تكمن في انهم خلقوا لانفسهم أطراً واعتقادات لاتمت الى واقع الدين بصلة، في حين ان هذه الاعتقادات ليست هي الاسلام الذي اراده الله عزّ شأنه للأمة. وقد تكرّست هذه الحالة فينا - للاسف –
حتى أمسينا على أوضاع مزرية في الجانب الثقافي، فلا هوية واضحة ولا اتجاه معين يسير عليه الناس، وهذا بسبب العصي التي يضعها أصحاب رؤى وتصورات كهذه في عجلة تقدم الانسان نحو الحقيقة والمعرفة الإلهية، لكن حسبنا القرآن الكريم فهو معنا ويكشف زيف إدعاءات هؤلاء وحقيقتهم، تقول الآية الكريمة: "قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَآئِلِينَ لاِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ اِلَيْنَا وَلاَ يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً" (الاحزاب / 18)، ونحن نرى ان من ديدن البعض اليوم إعاقة ابناء الأمة عن العمل في سبيل الله بدلاً من تشجيعها عليه ؛ كأن يأتي الانسان المسلم الى صديقه فيخبره عن نيّته في القيام بعمل رسالي ما، وإذا بصاحبه هذا يسلب منه طموحه ويقتل ارادته عبر كلمات سلبية كأن يلومه على عدم التفكير بمستقبله ومستقبل عائلته، او يوحي له بأن الطريق الذي يسلكه فيه محاذير كثيرة، أو انه يكلفه الكثير ولا يضمن له الكسب المادي المفيد.
*الفكر الانهزامي، طريق الى الهاوية
هنا يتضح لنا كيفية نشوء هذا النمط من الفكر والتوجه لدى البعض في الساحة، فاذا وجدوا اصحاب الفكر الانهزامي والتبريري أنهم مهددون بجيل الوعي والثقافة الأصيلة، فانهم يسعون لأن يبعدون الآخرين عن الساحة، وإلا بان موقفهم المتخاذل وتوجههم الفكري الخاطئ، وهذا ما يفسر لنا جانباً من الوضع الاجتماعي الذي ساد مدينة الكوفة عندما دخلها مسلم بن عقيل (عليه السلام)، فقد قالت الغالبية العظمى: مالنا والدخول في السلاطين! فبعد أن كان خلفه اربعة آلاف مقاتل، تركت فيهم هذه الفكرة أثرها البالغ، بان لا شأن لهم بقضية الصراع بين الامام الحسين (عليه السلام) وبين يزيد، كما لو أن القضية شخصية، في حين كانت تتعلق بمصير الدين والرسالة وتراث رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وللاسف فان هذه الحالة مازالت سائدة في مجتمعاتنا اليوم، ولكن بصور شتى. فأول خطوة للانهزاميين نجدها في محاولتهم حصر الافكار في اطارها النظري ومطالعتها بين طيات الكتب على أنها نتاجات ذهنية ليس إلا، ولا علاقة لها بالسلوك العام، ولا بالواقع الذي يعيشه الانسان، لذا نجد البعض يشكك اليوم في المقولة المأثورة (كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء)، ويقولون : لا تكرار ليوم عاشوراء ولأرض كربلاء مهما كانت الظروف وتشابهت المواقف والرموز! وهذا تحديداً ما جعلنا اليوم نشهد حالة التمجيد أو على الأقل تبرير أفعال الطاغية والحاكم الظالم مقابل المطالبين بالعدل والاحسان والقيم الاخلاقية.
لكن هل ضمن هذا التوجه الفكري والثقافي خيراً لاصحابه وللأمة؟
حقاً؛ (ما أكثر العبر وأقل المعتبر)، كما صدح بذلك أمير المؤمنين (عليه السلام)، وأول درس أمامنا مرحلة ما بعد رحيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) من دار الدنيا، وما شهدته من أحداث جلل وخطب مريع غير مسار التاريخ والحضارة الاسلامية برمتها، وقد نبّهت الصديقة فاطمة الزهراء (عليها السلام) المسلمين، وحذّرتهم من الاوضاع الجديدة قائلة: (لقحت فنظرة ريث ما تنتج، ثم احتلبوا طلاع القعب دماً عبيطاً، وذعافا ممضاً، هنالك يخسر المبطلون، ويعرف التالون غبَّ ما أسكن الأوّلون). أي اصبروا حتى تثمر هذه الشجرة الخبيثة التي زرعتموها. ولم تمرّ الايام طويلاً حتى تسلّط على الأمة أخبث الناس من أمثال معاوية وابنه يزيد وسمرة بن جندب الذي حكم البصرة ليلة واحدة وقتل فيها ما يقرب من خمسة آلاف انسان بريء !!
وفي التاريخ البعيد عنّا، عندما سكت الناس على مقتل نبيّ الله يحيى بن زكريا (عليه السلام)؛ و ذُبح في وضح النهار بفتوى ملفّقة من بني اسرائيل، دون ان يعترض احد على هذه الجريمة النكراء، بقي دمه الزكي يفور من موضع قتله دون ان يستطيع احد أيقافه. ولكن ما ان مرّت فترة وجيزة من الزمن حتى سلّط الله تعالى (نبوخذ نصر) على بني اسرائيل، فقتل منهم سبعين ألفاً، حتى اصبحت دماؤهم تسيل كالنهر، وحينئذ توقّف فوران دم يحيى (عليه السلام) بعد ان اخذ الله بثأره .
وفي الحقيقة فان هذه القصص ليست للمتعة والاثارة، بل هي عبرة لنا لنعيد النظر الى هداها في نوع الدين الذي نعتقد به ؛ فان كان يعني التبرير واختلاق الاعذار والتقاعس والانهزامية، فهو ليس من الاسلام في شيء. لذا علينا ان ندرس الاسلام من جديد، وان تكون لدينا القدرة على التمييز بين اسلام الله، وبين اسلام الشعارات الذي لانفهم منه سوى اسمه، وبعض الممارسات السطحية .
ان الاسلام الحقيقي هو الاسلام الذي لايعترف بالحدود والفوارق أيّا كانت. وهذا هو الاسلام الحق الذي يجب ان نلتزم به، ومتى ما استوعبناه وحوّلناه الى واقع على الأرض فحينئذ سوف لاتنكّس للمسلمين راية ولن يكونوا في عداد المتخلفين والفاشلين.
|
|