إختلاف التوجهات مشيئة إلهية
|
*أحمد عبد الرحيم الحي
ينصدم البعض أحيانا عندما يرى سلوكيات أو أفكار تناقض ما يوقن بصحته من توجهات، ويتصور أن واجبه هو أن يضم الناس جميعاً تحت مظلة توجه واحد يجزم بأحقيته.
لقد أعطى الله الحرية للناس وحمّلهم مسؤولية ما يتخذونه من قرارات يكون هو عز وجل الطرف الوحيد المسؤول عن حسابهم عليها، وهذا بالطبع لا يسقط مسؤولية إرشاد الناس لما نعتقد بصحته وأفضليته ولا يعني التراخي في تبليغهم الحق الذي نجزم به. بل ندعوهم للخير بكل جد وإصرار، ثم نترك لهم مطلق الحرية والخيار. هذا المعنى نستلهمه من قوله تعالى: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر".
إن أي توجه مهما بلغ من رشد وصواب - وإن كان مصدره إلهيا مباشرا كالقرآن الكريم- فإنه من غير
الممكن أن يخضع له جميع الناس، ومن ثم فإن أي محاولة لفرض أي توجه تبوء بالفشل الحتمي. قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ"، وفي هذه الآية إشارة إلى استحالة اجتماع الناس كافة على نهج واحد وتوجه واحد، فاختلافهم هو اختلاف أبدي.
وقد ننصدم ونتأسف عندما نرى ما نعدها سلبيات أو ظواهر انحراف تنتشر بين الناس، ولكن يجب أن لا نغفل أن هذا التنوع بما فيه من اتّباع الخير والشر هو طريق رقي البشرية ومعرفتها لما فيه صلاحها، وتمييزها بين الحق والباطل، وسعيها النابع من قناعة ذاتية لإشاعة الفضيلة ومحاربة الفساد بعد أن ترى بنفسها آثاره المقيتة. بل وأكثر من ذلك، فإن وجود الصالح والفاسد والمهتدي والضال يخلق فرصا حقيقية للتسابق الإيجابي والتنافس البنّاء نحو الأفضل والأمثل. فوجود المخطئ فرصة له وللآخر بأن يتعلم من الخطأ ويتجنبه ليتطور ويرتقي.
إن التعددية هي سنة أرادها الله وبدونها لا يمكن للإنسان أن يتكامل، لأن التكامل هو محصلة تراكم تجارب وتوجهات وأجزاء مختلفة عن بعضها البعض، فالتوجه الواحد لا يمكن له أن يتكامل بمفرده. بل على العكس من ذلك، إن أي تيار أو توجه إذا فقد المغاير والمخالف له فإنه يضعف وينهار نتيجة انعدام النقد وإمكانية الاستفادة من نجاحات الآخرين وأخطائهم كذلك. يظهر هذا جليا في التجارب التاريخية التي اتبعت نهج التفرد والإلغاء للآخر، فكانت تحفر قبرها بيدها وتموت بالأمراض التي تعجز عن تشخيصها نتيجة غياب الرؤية المغايرة والطرف الآخر القادر على رؤية عيوبها بكل وضوح.
جنبا إلى جنب مع التشديد على التبليغ والتذكير والأمر بالمعروف وإنكار المنكر، وجَّهنا القرآن الكريم صراحة وفي آيات كثيرة لفسح مجال الحرية للآخرين والتعايش معهم، حيث قال عز من قائل: "قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا"، وقال: "لكم دينكم ولي دين" و "لنا أعمالنا ولكم أعمالكم"، وقال مخاطبا نبيه الأعظم: "نحن أعلم بما يقولون وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد". وكذلك كانت سيرة الرسول الأعظم حيث وقع ميثاق التعايش والتعاون مع يهود المدينة وما حولها مع مواصلة جهوده العظيمة في دعوتهم للإسلام ومحاورتهم بالعقل والبرهان ومجادلتهم بالتي هي أحسن.
هذه المعاني الجميلة لقيم التعدد والتنوع والاختلاف والمواقف الإيجابية منها مع تأكيد الثبات على الحق وتبليغه مجموعة في آية واحدة من كتاب الله المليء بآيات التسامح والحرية، ولو لم تكن إلا هذه الآية لكفت: "..وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ".
ليست هذه دعوة للامبالاة تجاه السلبيات، أو للانسحاب من ساحة الإصلاح، والتملص من المسؤولية الملقاة على عاتق فرد فرد منا، وإنما هي دعوة للتعقل والحكمة في اتخاذ قرارات وخطوات الإصلاح الشجاعة والفعالة.
|
|