قسم: الاول | قبل بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

العلم الأسمى والمعرفة المؤدية الى السعادة
لمشاهدة الصورة لحجم اكبر إضغط علي الصورة *عبد الخالق محمد
عندما يتقن الانسان علماً ما، فانه يعتقد انه أدرك الحقائق وكشف الخفايا وان علمه هو الأول وهو الآخر والأولى من بقية العلوم، سواء أ كانت علوماً طبيعية مثل علم الكيمياء أو الفيزياء أو الطب أم علوماً انسانية مثل التاريخ والاجتماع والاقتصاد والسياسة والقانون وغيرها، لكن الذي يروم التكامل الانساني وتحقيق الأهداف الكبيرة في الحياة بآفاق واسعة من المعرفة، فانه لا يحده هذا النمط من التفكير، لأنه سيكون أمام القرآن الكريم الذي يصدح بالآية المباركة "وفوق كلّ ذي علم عليم"، فالعليم بدلالة إطلاقه، هو الله سبحانه وتعالى ولا أحد غيره، ومهما ذهب الانسان بعلمه وجد انه بحاجة الى عالم غيره، فالمهندس بحاجة الى الطبيب المعالج وهذا الطبيب بحاجة الى المهندس البناء والذي يشقّ الطرق ويشيّد الجسور و... هكذا، لكن الله تعالى غنيٌ عن العالمين.
والانسان مهما بلغ من العلم، فانه لن يستغن عن المعرفة الإلهية لأنها تشكل عقل العبادة وحبل الاتصال بينه وبين الله تعالى، ولولا هذه المعرفة لما تمكّن الوصول الى الأهداف والغايات الحقيقية لما يقوم به من أعمال عبادية. قال أحد العارفين العظماء إن كل العلوم في الحياة تتوقف عند حافة الموت، فعندما تغادر هذه الروح جسد الانسان، فانها تتلاشى ولايبقى الانسان في الحياة الأخرى بلا علم، إذ ليس في عالم البرزخ أو يوم القيامة طبيب أو محامي أو مكتشف أو سياسي محنك أو... بينما علوم الدين ترافق صاحبها حتى يوم القيامة، فهو لن يتردد عن معرفة ربه ونبيه وإمامه وكتابه وقبلته منذ الساعات الأولى لنزوله بيته الجديد (القبر).
من هنا يمكننا القول ان معرفة الله أشرف العلوم، ومنشأ هذه الأهمية هي ان الله عز وجل هو مصدر الوجود ومنشأ الخير، وهو الذي خلق كل شيء وقدّره تقديرا، وهو المبدئ والمعيد، والخالق الرازق، له الاسماء الحسنى في عالم التكوين وفي عالم التشريع والثقافة وعلوم الفكر؛ وإذن، فهو المحور، والايمان به يأتي قبل كل ايمان. يقول الامام علي (عليه السلام) في اول خطبة وضعت في كتاب نهج البلاغة : (الحمد لله الذي لا يبلغ مدحته القائلون ولايحصي نعمه العادّون ولا يؤدي حقه المجتهدون، الذي لا يدركه بُعد الهمم ولا يناله غوص الفطن، الذي ليس لصفته حد محدود ولا نعت موجود ولا وقت معدود ولا أجل ممدود، فطر الخلائق بقدرته ونشر الرياح برحمته ووتّد بالصخور ميدان أرضه).
فعلم الدين يبدأ من حيث الايمان بالله سبحانه وتعالى ؛ فهو مصدر هذا الوجود، وأول الدين هو معرفة مصدر هذا الوجود، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له، وكمال الاخلاص له نفي الصفات عنه. و(اول عبادة الله معرفته) كما يؤكد سيد المتقين علي بن ابي طالب (عليه السلام).
فقد يعبد المخلوق خالقه بفريضة الصلاة والصيام والزكاة، وقد يعبده بالجهاد والقتل في سبيله، ولكن تبقى معرفة الله أعظم من كل انواع التعبد، فعبر معرفة الله تتم الفرائض، وعبرها ايضا يقبل ما دونها. فمن صلّى ولا يعرف لمن صلّى، أو صام ولم يعرف لمن صام، ومن جاهد وقُتل ولم يعرف في سبيل من جاهد وقُتل.. ستذهب اعماله سدى وحسرة، وقد يخسر الدنيا والآخرة، حيث سيضل سعيه ويقعد مذموماً مدحوراً.
*التوحيد .. الخطوة الأولى
يقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) : (والذي بعثني بالحق بشيرا ؛ لايعذب الله بالنار موحِّدا ابداً، وان اهل التوحيد ليشفعون فيشفَّعون". ثم قال (صلى الله عليه وآله): (إنه اذا كان يوم القيامة أمر الله تبارك وتعالى بقوم ساءت أعمالهم في دار الدنيا الى النار فيقولون : يا ربنا كيف تدخلنا النار وقد كنا نوحدك في دار الدنيا ؟ وكيف تحرق ألسنتنا وقد نطقت بتوحيدك في دار الدنيا ؟ وكيف تحرق قلوبنا وقد عقدت على ان لا إله الا انت ؟ ام كيف تحرق وجوهنا وقد عفرناها لك في التراب ؟ ام كيف تحرق ايدينا وقد رفعناها بالدعاء اليك ؟ فيقول الله جل جلاله : عبادي ساءت اعمالكم في دار الدنيا فجزاؤكم نار جهنم. فيقولون : يا ربنا عفوك اعظم ام خطيئتنا ؟ فيقول تبارك وتعالى : بل عفوي. فيقولون : رحمتك اوسع ام ذنوبنـا ؟ فيقول عز وجل : بل رحمتي، فيقولون : إقرارنا بتوحيدك أعظم أم ذنوبنـا ؟ فيقول تعالى : بل إقراركم بتوحيدي أعظم. فيقولون : يا ربنا فليسعنا عفوك ورحمتك التي وسعت كل شيء. فيقول الله جل جلاله : ملائكتي، وعزتي وجلالي ماخلقت خلقا أحب اليَّ من المقرين بتوحيدي، وان لا إله غيري، وحق عليَّ ان لا أُصلِي اهل توحيدي - أي لأحرفهم بالنار- ادخلوا عبادي الجنة)
وقد جاء في مأثور الدعاء : (من اكثر طرق الباب اوشك ان يسمع الجواب). والمرء اذا نادى الله بغير انكسار فليستغث مرة اخرى، فلعل بينه وبين الله الف حجاب، وكلما قال الداعي : يا الله، كلما خرق حجاباً من هذه الحجب حتى يصل الى مصدر النور، فيجيبه الله سبحانه وهو اللطيف بعباده : لبيك وسعديك، عبدي ادعني اجبك. ولعل الدعاء الاهم الذي ينبغي ان ندعو به هو : ان يقينا الله نار جهنم، "رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلْظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار" (آل عمران /191-192)، فالبعض في هذه الدنيا يطمح لان يكون الاول في كل مضمار من مضامير الحيـاة، والبعض الآخر يكتفي بالفتات من كل شيء. البعض يدعو الله لان يمنحه امرا بسيطا لا يتناسب حتى واحتياجاته الدنيوية، اما البعض الآخر فلا يكتفي بالطلب الى الله سبحانه وتعالى ان يقيه عذاب نار جهنم فحسب، بل يتطلع ويسمو الى الدرجة الاعلى ليتمنى على الله أن يقيه الخـزي في يوم القيامة، بنفس الدرجة التي يطلب فيها ان يرزقه الرضوان الالهي الذي قال القرآن الكريم عنه انه اكبر من الجنة ذاتها، و انه هو الفوز العظيم. "وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الاَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ" (التوبة /72).
ان ذلك كله منوط بمستوى معرفة العبد بربه بعد معرفته بنفسه كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله : (من عرف نفسه فقد عرف ربه) وهذه المعرفة هي المقياس الأوفى المحدد لشخصية الانسان، وغير ذلك من المقاييس لا يعدو كونه هباءً غير ذي بال، لا سيما إذا تذكرنا ان مظاهر الوجود لا محالة آيلة الى الزوال والانعدام في يوم من الايام كان عند الله موقوتاً.
ولا ادل على ما تقدم بان آيات القرآن المجيد تحدثنا وبمطلق الوضوح والصراحة عن هذه الحقيقة ؛ حيث تقول : { رَبَّنَآ إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِِيمَانِ أَنْ ءَامِنُوا بِرَبِّكُمْ فَاَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّاَتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ } (آل عمران/193(
*المعرفة ثمن الجنة
روى أبوذر الغفاري رحمه الله انه قال : خرجت ليلة من الليالي فاذا رسول الله (صلى الله عليه وآله) يمشي وحده ليس معه إنسان فظننت انه يكره ان يمشي معه أحد، فجعلت أمشي في ظل القمر، فالتفت فرآني فقال: من هذا؟! قلت: ابوذر جعلني الله فداك. قال: يا أباذر تعال، فمشيت معه ساعة. فقال: إن المكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من أعطاه الله خيرا فنفخ فيه بيمينه وشماله وبين يديه وورائه وعمل فيه خيرا. قال : فمشيت معه ساعة، فقال : اجلس هاهنا، وأجلسني في قاع حوله حجارة، فقال لي : إجلس حتى أرجع إليك. قال: وانطلق في الحرَّة حتى لم أره وتوارى عني فأطال اللبث، ثم إني سمعته عليه الصلاة والسلام وهو مقبل وهو يقول : وإن زنى وإن سرق، قال : فلما جاء لم أصبر حتى قلت : يا نبي الله جعلني الله فداك من تكلمه في جانب الحرة؟ فإني ما سمعت احدا يردّ عليك شيئا، قال: ذاك جبرائيل عرض لي في جانب الحرة؛ فقال: بشِّر أمتك انه من مات لا يشرك بالله عز وجل شيئا دخل الجنة، قال : قلت: ياجبرائيل وان زنى وان سرق ؟ قال نعم وإن شرب الخمر.
كبار علمائنا ومحدثينا مثل الشيخ الصدوق والعلامة المجلسي يعلقون على هذا الحديث بان مثل هذا الانسان الذي تحدث عنه الامين جبرائيل (عليه السلام) لا يموت حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى الى التوبة قبيل مماته، ولا ينبغي الاغترار بتلك الاخبار والاجتراء بها على المعاصي.
مع ذلك يبقى الحديث بمفرداته الصريحة دليلاً على الرحمة الإلهية، لكن لمن؟ هذا هو السؤال الفيصل الذي من شأنه ان يرفع اللبس والغموض عن هذا الحديث أو ما يشابهه من الأحاديث التي يُخيّل للبعض إن فيها بعض المبالغة في السماحة، والحقيقة؛ لا توجد أية مبالغة ولا سماحة غير محسوبة، إنما هي المعرفة الحقيقية والكاملة بالله تعالى وبشأنه ومنزلته ومكانته وأين يكون....؟ حيئنذ يفهم الانسان إن الشرك المقصود في الحديث لا يكون فقط في عبادة الأصنام على شاكلة المجتمع المكّي قبل بزوغ فجر الاسلام، إنما هو في كل أمرٍ يتبعه الانسان ويقتفي أثره سواء أكان في ميدان المال أم الشهرة أو المنصب أو الشهوة الجنسية و... غيرها كثير تُعد بالحقيقة علائم ودلالات شرك بالله تعالى.
ويحدثنا القرآن الكريم عن إثنان من العبّاد والزهاد في بني اسرائيل أحدهما (برصيصا) والآخر (بلعم بن باعورا)، وقد حمل الاثنان من العلم والمعرفة ما لم يحمله أي انسان آخر آنذاك، فقد كانا يحملان الإسم الأعظم، لكن حاول أحدهما الإيقاع بنبي الله موسى حسداً منه و للتقرب من فرعون، أما الثاني فقصته معروفة عندما انزلق في مهوى الرذيلة وعبادة الشهوة وارتكب جريمة الزنا مع فتاة مريضة أمّنها أهلها عنده علّه يشفيها بدعائه! فقتلها ثم دفنها، وكانت نهايته عند خشبة الاعدام عندما تمثل له الشيطان الذي كان يمتطيه بالكامل، فقال له اسجد لي وأنا انقذك!! ففعل وما هي إلا لحظات حتى شبّت به نيران العقاب الدنيوي قبل الأخروي فقال عنه سبحانه وتعالى: "وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الأعراف /175)، وفي آية أخرى يقول تعالى: "كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (الحشر 16).