الحرية.. جوهرة ثمينة لا تباع في الأسواق
|
*طاهر القزويني
الناس صنفان في الواقع الاجتماعي: إما احرار، وإما عبيد، فالحر هو الذي لايبيع نفسه من أجل طمعه، فهو حرٌ حتى إن كان عبداً، أما العبد فهو الذي يبيع نفسه ومصيره من أجل طمعه! كيف يحدث ذلك؟
لقد رأيت أثرياء وهم يتذللون ويتخضعون من أجل الحصول على حفنة من الأموال، ورأيت فقراء يهبون المال الكثير بنفس طيبة، فذاك الغني هو عبد لأطماعه وأمواله، وذاك الفقير هو غني بنفسه وقيمه وعزته الرفيعة.
وقد اعتاد الطغاة أن يشتروا ذمم بعض الناس الذين يوالونهم، فمن كان عبداً لأطماعه واهوائه وشهواته سيكبله الطغاة ويجعلونه مطيتهم في تحقيق الأهداف العليا، بينما نجد في الطرف المقابل ذلك الانسان وعلى الرغم مما به من حاجة وفاقة إلا إنه لايتنازل عن عزته وكرامته من أجل حفنة من الأموال أو منصب حكومي وغير ذلك.
فالحرية الفردية تنبع أول الأمر من ذات الإنسان ومن صميم إرادته، فإذا كان عزيزاً وكريم النفس لن يستطيع أحد أن يسترقه ويستعبده حتى وإن جربوا بحقه أنواع الأساليب القهرية، وقد لاحظنا في العراق كيف أن نظام صدام البائد حاول أن يثني فئة من الشباب المؤمن فلم يفلح في كسر عزتهم وكبريائهم، بينما كان كثير غيرهم على استعداد لبيع كل شيء عزيز يملكونه من أجل كسب رضا السلطان.
المشكلة هنا ليست في أن الحكومة تستخدم أساليب القهر والإذلال لتستعبد الناس، بل المشكلة هي أن هناك من لديه الإستعداد لقبول العبودية بأقل الأثمان فهنا الإستعداد ذاتي وليس له علاقة بالظروف الخارجية .
ونحن نجد في الثقافة الإسلامية أن هناك علاقة بين الانقياد للشهوات والأهواء وبين العبودية السياسية والإجتماعية، فكلما كان الفرد ضعيفاً أمام شهواته فإنه سيكون بنفس الضعف أمام العدو الخارجي، وهكذا يمكن تقسيم الأعداء إلى قسمين: العدو الداخلي و العدو الخارجي، فإذا فشل المرء أمام عدوه الداخلي سيستسلم أمام عدوه الخارجي قطعاً، أما إذا كان صلباً أمام عدوه الداخلي فإنه سيكون بنفس مستوى الصلابة أمام عدوه الخارجي.
إذن... من أجل تقوية أنفسنا أمام أعدائنا الخارجيين يجب أن ننتصر على عدونا الداخلي، وكلما حققنا نجاحات حقيقية على هذا الصعيد، سنحقق نفس المقدار من النجاح على الصعيد الخارجي.
لنضرب مثلاً على ذلك، العراقيون يحاولون دوماً أن يلقوا بمسؤولية الإرهاب الذي يحدث في بلدهم على العدو الخارجي، كالقاعدة أو الاحتلال أو الدول الاقليمية و... ونحن لا ننفي ذلك، ولكن أليس هؤلاء الاجانب والأغراب أو الأعداء الخارجيون يستخدمون الأراضي العراقية؟ ألا يتعاملون مع عراقيين؟ ألا يجدوا من يتعاون معهم ويمدهم بالسلاح والعتاد والغذاء خلال تنفيذ عملياتهم الارهابية.
إذن... العدو هو في الداخل ويجب أن نضع حداً لهذا العدو الداخلي حتى نستطيع أن نمنع الأغراب عن التدخل في الشأن العراقي، فذلك المغربي أو الجزائري أو الفلسطيني والسعودي الذي يأتي إلى العراق من أجل القيام بعمليات إنتحارية لايستطيع أن يقوم بهذه الأعمال إذا كان بمفرده، ولابد من وجود عراقيين يمنحونه الأرض التي يسكن فيها، وهناك عراقي يستلمه من الحدود، وآخر يجلب له الغذاء، وآخر يوفر له الأسلحة، وآخر يهيئ له السيارة المفخخة التي سيفجر نفسه فيها أمام المسجد أو الحسينية أو داخل السوق الشعبي، هؤلاء كلهم عراقيون وهم أعداء الوطن والحرية والإنسانية، ويجب حل مشكلة هؤلاء قبل التصدي للأعداء الذين اتوا من الخارج.
فهؤلاء لايريدون الحرية للعراق، ولايريدون أن يعيش الناس أحراراً، هم باعوا أنفسهم لقوى أجنبية وإقليمية من أجل الإضرار بوطنهم ومقدساتهم وإذا عدنا قليلاً إلى الوراء سنجد أن هؤلاء هم تربية الطاغية صدام الذي أراد أن يحول الشعب العراقي إلى مجموعة من العبيد لكنه لم يستطع إلا أن يغير فئه من الناس هؤلاء الذين ارتضوا أن يكونوا عبيداً وأذلاء على طول الخط.
وعلى الرغم من احتلال العراق من قبل القوى العظمى إلا إن هذا الاحتلال لم يكسر من عزة وكرامة هذا الشعب الأبي الذي لن يرتضي الضيم والعبودية، وقد جابه هذا الشعب الإحتلال بقوة إرادته وتمكن من أن يفرض شروطه عليه، وقد وصف الإمام الصادق عليه السلام شخصية الإنسان الذي يقدر الحرية بأحسن وصف حيث يقول (إن الحرّ حرّ على جميع أحواله، إن نابته نائبة صبرلها، وإن تداكت عليه المصائب لم تكسره وإن أشر وقهر واستبدل باليسر عسراً كما كان يوسف الصديق الأمين لم يضرر حريته أن استعبد وقهر وأسر). بحارالانوار ج71، ص96.
فهذا أعظم وصف للإنسان الحر الذي لايتنازل عن كرامته وعزته في كل الظروف والأحوال،فهو حتى وإن كان في قيد الأسر فأنه يتصرف بشجاعة من دون إنكسار أو ضعف.
وهناك قصة تاريخية تكشف الأبعاد الحقيقية للشخصية الحرة الأبيّة، ومنها يجب أن نتعلم معنى الحرية: فقد ذكر أن يزيد بن معاوية دخل المدينة وهو يريد الحج فبعث إلى رجل من قريش فأتاه فقال له يزيد: أتقرّ لي أنك عبد لي، إن شئت بعتك وإن شئت استرقتك فقال له الرجل: والله يايزيد! ما أنت بأكرم مني في قريش حسباً، ولا كان أبوك أفضل من أبي في الجاهلية والاسلام، وما أنت بأفضل مني في الدين، ولابخير مني فكيف أقرّ لك بما سألت؟
فقال له يزيد: إن لم تقر لي والله قتلتك، فقال له الرجل: ليس قتلك إياي بأعظم من قتلك الحسين بن علي عليهما السلام إبن رسول الله صلى الله عليه وآله، فأمر به فقتل. ذكر هذه القصة الإمام الباقر عليه السلام في الكافي، خ313.
فالحرية ليست منحة تعطى للناس من دون ثمن، بل لها قيمة عالية وهي شجرة لا ترويها إلا الدماء، صحيح أن الشعب العراقي قدم سيلاً من الدماء في طريق حريته، لكن هذه الحرية هي كالجوهرة يجب أن تصان وتحفظ لكي لاتقع بأيدي غير أمينة فيدنسونها كما دنسها المجرم صدام وحزبه الكافر، ويجب أن ننتبه في الانتخابات القادمة بأن لانبيع هذه الجوهرة لأناس لايعرفون قيمتها بل قد يستفيدون منها ضد آمال وطموحات هذا الشعب المضطهد.
|
|