داء النفاق.. العلاج أم القبول بالأمر الواقع؟
|
*كريم محمد
من أيـن يبدأ النفاق في شخصية الانسان ؟ وكيف يجب أن نعالجـه؟ وماهي حقيقـة أزمـة النفـاق ؟
ان هذه مجموعة من الاسئلة اذا تمكنا من الاجابة عليها سيكون بمقدورنا مواجهة حالة النفاق في المجتمع، فنحن لا نستطيع معالجة مرض ما حتى نشخصه على هيئته الحقيقيـة ، أو نتعرف على أسبابه على الأقـل . والاهتمـام البالـغ الذي ينبغـي ان نوليه لحالة النفاق انما ينبع من أبعـاد ثلاثة:
البعد الأول: لاننا بشر تعترينا الكثير من الابتلاءات من كل جانب ومكان ، وفي كل وقت وأوان . ومن ثم فنحن معرضون للإصابة بداء النفاق مالم نصمد أمام الابتلاءات .
البعد الثاني: لأن المجتمع يضم فيما يضم اناساً يحملون صفة النفاق لاسباب مختلفة، ونحن ولا مراء في ذلك مجبرون على الاحتكاك بهم، وهذا الاحتكاك ان لم يكن بداعي المعالجة ، فانه سيأتي بداعي التعامل اليومي، فالمرء ماذا بوسعه ان يتصرف فيما لوكان أحد اخوانه - والعياذ بالله - مصاباً بمرض النفاق ؟ فبداعي قابلية التأثير والتأثر المخلوقة في الانسان والتي تسايره في كل وقت ، لابد له من أن يخلق له المناعة ضد سريان المرض اليه بالدرجة الأولى ثم يعمل على ازاحة هذا المرض عن أخيه أو تحديده بالدرجة الثانية .
البعد الثالث: انتشار هذه الحالة والظاهرة في عالم اليوم، ليس على الصعيد الفردي، الذي كان سائداً فيما مضى من الزمن، وإنما توسع ليمتد على صعيد التعامل الدولي والاقليمي والمحلي .
نعود لنتساءل : كيف نواجه النفاق كمرض ؟ وماهي أسبابه الحقيقية ؟
نقول: ان الانسان حينما يعيش حياة هادئة طبيعية خالية من المشاكل ، وخالية من التعرض للابتلاءات اليومية؛ لن يستطيع معرفة أبعاد شخصيته السلبية منها والايجابية . فهو غير قادر على تحديد مستوى تحمل صدمة خسارته المالية - مثلاً - ما لم يعمل في التجارة والأسواق . وهو لايستطيع ان يدعي الكرم ما لم يحل أحدهم ضيفاً عليه . وليس بامكانه الادعاء بانه متسامح في حال عـدم تنازلـه وتواضعـه في شؤون المنافسة على تسنم المناصب .
فالفارق كبير جداً بين موازين القوة وموازين الفعل وفق الحسابات الفيزيائية، فمن طبيعة بني البشر العجز عن اكتشاف قابلياتهم وطاقاتهم دون وجود ميادين عملية للاستفادة من هذه الطاقات والقابليات .
فمن يثبت لنا ان هذا الانسان مؤمن وليس بمنافق، اذا لم يتعرض الى فتن المال والقوة والجنس والتعصب والتحزب والرئاسة والحسد والعيوب والآلام ؟ ومن يثبت لنا ان هذا الفـرد مؤمن وليس بمنافق ما لم ينجح باجتيـاز وغلبة هذه الفتن الجبـارة ؟
كان أمير المؤمنين علــي (عليه السلام) جالساً بين عدد من أصحابه في مسجد الكوفة ذات يوم ، وعند ذاك مرت امرأة أمامهم ، فما كان من بعض من يدعي صحبة الامام إلاّ ان لاحقوا المرأة بنظراتهم المريبة ، فأمرهم الامام بغض انظارهم عن الحرام .
ان هذا امتحان وفتنة ذات حدين؛ الاول: امتحان لمعرفة من يصبر حيال ارتكاب العمل الحرام، والثاني: فتنـة لأمير المؤمنين (عليه السلام) وهو سيد المتقين ، في ممارسة مهامه و واجباته كحاكم للمسلمين يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
ثم ان النفاق مأخوذ من (النفق) وهو الموت ، لذا قد يكون احد جوانب الانسان ميتة ، وتتفاوت نسبة الموت لديه، واصطلاحاً يمكن القول ان المنافق من كانت روحه ميتة، والشيطان يعمل على استمرار حالة الموت في هذه الروح.
وينقل عن السياسي الامريكي المخضرم و وزير الخارجية في عقد السبعينات من القرن الماضي هنري كيسنجر، انه ينصح موظفي السلك الدبلوماسي الامريكي في محاوراتهم مع مسؤولي الدول الأخرى بالنصيحة التالية: (اضرب حيث لا يكونون) اي ان الدبلوماسي الامريكي ينبغي عليه - من وجهة نظر كيسنجر- أن يستغل جوانب الضعف في نظرائه، وان يستغلوا النقاط والمفاصل التي ينعدم فيها تأثير مفاوضيهم. فهو - كيسنجر - يرى ان انعدام التأثير بمنزلة عدم الوجود! فعليه ينبغي الضرب على هذه النقطة حتى حصول المراد.
وحينما يصلي الانسان الضعيف النفس صلاته تراه هادئاً وقوراً ، وحال دخول أحدهم في مصلاه تراه يستجيب لوساوس الشيطان الرجيم والنفس الأمارة ودعوتها بضرورة اضفاء مزيد من الوقار والاهتمام بقراءته وركوعه وسجوده لكسب المديح والثناء من الناظر اليه، وهو بطبيعة الحال يغفل أشد الغفلة عن ان الله جلت قدرته خبير بالظاهر والباطن ، بل هو أقرب اليه من حبل الوريد ، وأعلم به من نفسه . انه لايهتم باطلاع الباري عليه بقدر اطلاع الناس عليه، ولا ينظر أو يترقب ثواب الرحمن الرحيم بقدر ترقبه لكيل المديح والثناء عليه من قبل الناس الذين لايضرونه ولاينفعونه شيئاً..!
ينقل أحد علماء الدين إنه كان يسير في شارع باحدى المدن في نهار شهر رمضان المبارك، يقول: واذا بي أرى بعض الرجال متحلقين حول بعضهم يلعبون بورق القمار ويدخنون السجائر! وما أن اقتربت منهم مخفضاً رأسي وسلمت عليهم، فقاموا احتراماً لي مُحيين وقد جمعوا أوراق القمار واطفئوا لفافات التبغ، فشكرت احترامهم لي كشخص روحاني ، وقلت لهم : أراكم قد احترمتموني ولم تحترموا أوامر الله سبحانه؟! ان الله هو الذي أمركم بالصوم فلم تطيعوه، ونهاكم عن الميسر فلم تنتهوا... انني لا أملك لكم من دون الله نفعاً ولا ضراً ، فهو الذي ينبغي ان تخافوه وتحذروه وتمتثلوا لأوامره التي فيها نجاتكم وخلاصكم .
المهم فـي الأمر ان الرياء من أشد انواع النفاق خطراً على سلوك الانسان. فمـن النفاق ان يظهر المرء البشاشة على ملامح وجهه لأخيه ثم يطعنه في الظهر، ومن النفاق ان لايطابق قول الانسان الحسـن فعله الحسن. وقد قال تبارك وتعالى في كتابه المجيد: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ" (الصف/ 2-3) . فمهما يكون عليه داء النفـاق من خفـاء فان الله خبير بـه ؛ مطـلع عليه ؛ فهو الذي يعرف خافية الإعين وما تخفي الصدور.
لكن هل مرض النفاق.. هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة، هي حالة لا علاج لها، ويجب أن نستسلم لها...؟
طبعاً كلا، فأحد سبل معالجة هذه الحالة المرضية، هو خوض جهاد النفس، وهو الجهاد الأكبر، وإن كان عسيراً وصعباً للغاية، لكنه ضروري ولازم لسلامة الفرد والمجتمع، وعليه كان لزامـاً على المؤمنين أولاً أن يعرفوا معنى النفاق وأبعـاده، وأن يكونوا في حالة جهاد دائم للنفس ، وان يضعوا هذه النفس على المحك المميز ليكونوا على بينة من أمرهم ، تحاشياً لحالة العجالة والجهالة وللتغلب على وساوس الشيطان وتآمر النفس. وبذلك تكون ذممهم قد برأت أمام الله سبحانه وتعالى.
والآية الكريمـة التي تقول: "بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ" (القيامة/14) تعني فيما تعني ان المرء أعرف بنفسه من غيره وانه من الجدير به ان يستمر في واقع المعرفة هذا، وأن العزم الراسخ بعد التوكل على الله عز وجل، كفيل بأن يصل بالانسان الى شاطئ الامان والرضوان ، تبعاً الى مفهوم النظرية القرآنية "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِمْ" (الرعد/11) .
ان طبيعة بني البشر التي جبلوا عليها تشير الى انهم معرضون دوماً للخطأ والخطيئة ، وهم في صراع دائم مع ما يحيط بهم من فتـن وابتلاءات وتحديات، وهذا لايعده الله سبحانه وتعالى عيباً عليهم البتـة، بل العكس هو الصحيح تماماً . اذ ان هذا الصراع وهذه الفتن التي تترى عليهم ، انما هي نعمة وفرصة وفرها الله لهم لينجح من نجح منهم على بينة ، ويسقط من سقط على بينـة .
|
|