الانسان وسبل التعامل مع حقائق الغيب
|
*أنور عز الدين
الغيب محيط بعالم الشهود، كما السماء محيطة بالأرض، فأينما تذهب فوق البسيطة تجد السماء محيطة بك، وأينما تذهب في الحياة فلابد أن يحيط بك الغيب، شعرت بذلك أم لم تشعر.
ومن عرف كيف يتعامل مع هذه الحقيقة المؤكدة، وكيف يتعايش مع الغيب، وكيف يؤمن بهذا الغيب، وكيف ينطلق منه، سيحقق أهدافه وتطلعاته في عالم الواقع والشهود، وسيتمكن من إقامة العدل والوصول الى الحرية والأمن وسائر الأهداف المشروعة الأخرى في الحياة.
ومن جهل أو تجاهل هذه الحقيقة أو لم يعرف كيف يتعامل معها، فسيغرق- لا محالة- في ظلمات عالم الشهود ومتغيراته، ثم لن يخرج منها؛ إذ سيتحول الى مجرد ضحية من ضحايا عالم الشهود ومتغيراته المحيطة به.
إنّما مثل دور وتأثير الغيب على الإنسان كمثل دور وتأثير الأعصاب على الجوارح، فهي لا تتحرك ولا تشعر دون اتصالها بالأعصاب التي تأخذ وتؤدي وظيفة الايعاز الى المخّ والروح.
الغيب الدليل الصحيح الى الله
إنّنا نعيش في عالم يوصف خطأ بعالم الصدف، حيث كثيراً ما ننسب وقوع الوقائع والأحداث والمتغيرات غير المرتقبة الى الصدفة، كأن يلتقي أحدنا صديقاً له على غير موعد، أو تتوقف عجلات سيارة ما على شفا وادِ سحيق دون تدخل من قبل سائقها، فيقال عن هذا وذاك إنّه حدث صدفة؛ إلّا أن الحقيقة تجانب وتضاد مع هذه التسمية وهذا الوصف، فهي تدخّل غيبي في مجريات عالم الشهود، وهذا بالذات ما نطلق عليه من ناحية أخرى اسم القدر والقضاء، فهاتان الحقيقتان تتحكم فينا الى حد كبير.
أنّ من الصحيح القول بأننا نحن الذين نأكل الطعام ونشرب الماء ونزاول بقية الأعمال بصورة مباشرة، ولكننا كثيراً ما نغفل أو نتغافل عن الآلاف من القوانين والأوامر الالهية المحيطة بنا والتي من شأنها التحكم بحركتنا وتمكننا من الانطلاق. فقد تكون حركة واحدة غير طبيعية يتعرض لها مخّ الانسان، أو غصّة بسيطة لدى شربه الماء، كافيتين للقضاء عليه تماماً إلّا أنّ الله تبارك وتعالى لّما كان قد كتب له عمراً محددّاً فإنّه قد تكفّل بحفظه ورعايته ودرء النوائب عنه.
ثم إنّ الناس قد يبذلون المزيد من جهودهم ومخططاتهم للقيام بعمل ما، حتى أنهم يتقنون تماماً من إحكام تلكم الخطط والتدابير،إلّا أنهم يفاجؤون بالفضل الذريع والإحباط القاتل دون أن يعرفوا لذلك سبباً حسب ما تتيحه لهم إمكاناتهم. وهذا بالذات ما حصل لوكالة الفضاء الامريكي عام 1986، حيث أطلقت المكوك الفضائي تشالنجر بمعنى (التحدي)، ففوجئوا بانفجاره وتناثر أشلائه بعد أقل من نصف دقيقة على إنطلاقه، ولم يهتدوا لمعرفة الأسباب الحقيقية التي تسببت بهزيمتهم.
هذه الحقيقة ليست فقط تدلل على دور الغيب في حياة الانسان، بل هي تمثل دليلاً مهمّاً على وجود الله عزّ وجلّ، وأنّه هو المسيطر على شؤون مخلوقاته. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): (عرفت الله سبحانه بفسخ العزائم، وحل العقود، ونقض الهمم).
إنّ من الأخطاء البشرية الفادحة والقاتلة الاعتقاد بأنّ الله جل جلاله قد خلق الخلق ثم فوضّ شأنهم إليهم، أو أنّه قضى على نفسه بعدم التدّخل في شؤونهم! فقد "قالت اليهود يد الله مغلولة"؛ أي أنّه قد فرغ من الأمر منذ أن خلق أول مخلوق، وإن استدامة الحياة تتواصل بالتزاوج والتلاقح، نافين عنه سبحانه الإرادة والبداء، ومفوضين الى أنفسهم مطلق القرار والحركة. وعليه فإن اليهود يؤكدون في توراتهم المختلقة والمكتوبة بأيديهم بأن الله بدأ الخلق يوم الأحد، ثم نظمه يوم الاثنين، ثم قسم الأرزاق يوم الثلاثاء، وهكذا حتى وصل الى يوم الجمعة فأنهى كلّ شيء، ويوم السبت بدأ باستراحته الطويلة!!
إنّ مثل هذه الأفكار الجاهلية الكافرة هي التي أنزلت لعنات الله والناس على اليهود، وهي التي أدّت بهم الى التشرذم في الآفاق، وهي التي كرست فيهم الحقد الدفين على سائر الأمم. فقد قال الله تعالى بهذا الشأن: "غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ".
هنالك طريقان من جملة طرق نحو تكريس حالة الغيب في النفوس والتعامل مع حقائقها في الحياة ومعايشتها باستمرار:
الطريق الأول: الدعاء
إن الإيمان بقوله سبحانه وتعالى: " بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ" يثير في نفس الانسان المسلم الرغبة في الدعاء، بل إن قول الله المشار إليه إنما هو دعوة مباشرة للإنسان أن يطمع بما عند ربّه سبحانه. فلا يظنّ، الواحد منا أنّ الدعاء والإلحاح فيه شيء غير ذي بال؛ فهو اعتراف مطلق بوجود الله الواحد الرازق الوهاب، الذي ينفق كيف يشاء ويرزق بغير حساب.
وعلى ذلك عُدّ الدعاء في العقيدة الإسلامية مخّ العبادة، وقد روي عن ميسر بن عبد العزيز، عن الامام جعفر الصادق (عليه السلام)، أنه قال: (يا ميسر، ادع ولاتقل إن الأمر قد فرغ منه، إن عند الله عزّ وجلّ منزلة لا تنال إلا بمسألة، ولو أن عبداً صدّ فاه ولم يسأل، لم يعط شيئاً، فسل تعط). وقال الامام موسى الكاظم (عليه السلام): (عليكم بالدعاء، فان الدعاء لله، والطلب الى الله يرد البلاء وقد قدر وقضي ولم يبق إلا امضاؤه، فاذا دعي الله عزّ وجلّ وسئل صرف البلاء صرفه. وهكذا فان الدعاء يمثل الوسيلة الأولى لمعرفة كيفيّة التعامل مع حقيقة الغيب.
وأودّ هنا نقل نصّ دعاء عظيم ممّا جاء على لسان أئمة أهل البيت عليهم الصلاة والسلام، حيث يعدّ باباً واسعاً من أبواب التربية الإنسانية، فقد جاء فيه: (إلهي هب لي كمال الانقطاع إليك، وأنر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك حتى تخرق أبصار القلوب حجب النور فتصل الى معدن العظمة تصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك...).
وأتساءل: أين هو معدن العظمة؟ وكيف يستطيع الإنسان المؤمن – وبتوفيق الله وبنور بصيرته- أن يخرق بنور قلبه حجب العلم والقدرة والعزّة والكبرياء والأسماء فيصل الى معدن العظمة؟ ومن هو ذلك الإنسان الذي يتمكن من كل ذلك؟ والإنسان أمام هذا النصّ العظيم والمقدس؛ هل يتمكن من السيطرة على أحاسيسه وتوازنه العقلي والعاطفي، بل هل يكون في يقظة أم يغرق في الخيال؟!
وأتأسف بشدة على هذا الإنسان الذي يستطيع بلوغ هذه الآفاق اللامتناهية، ولكنّه يختار العيش في أوحال الدنيا وظلمات عالم الشهود، فيقضي فرصته المحددة وعمره القصير بالاهتمام بماذا يأكل ويشرب وكيف يحصل على المال، فتراه يشبه البهيمة المربوطة؛ همّها علفها..
الطريق الثاني: الولاية الإلهية
إن الولاية الإلهية على الأرض تتمثل في ولاية الأنبياء ثم الأئمة المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وهي الآن تتجلّى في ولاية الإمام الحجة بن الحسن عجل الله فرجه. وقد يسأل سائل عن السبب في تخويل الأنبياء والأئمة هذه الولاية؟ أو ليست ولاية الله شاملة ومحيطة بالناس؟
ويتكرس الجواب في حقيقة مشيئة الله عزّ وجلّ في أن تكون للدنيا قوانين، وأن تسير هذه القوانين وفق الصورة الطبيعية والمنطقية، ولو لم يكن الأمر كذلك لا ضطررنا الى رفع أصابع الاتهام، أو على الأقل الى مناقشة معظم الحقائق والقوانين والمسلّمات الكونية.
فمثلاً: إذا كان الله هو نور السماوات والأرض، فما الحاجة الى خلق الشمس وضيائها إذاً؟ وإذا كان الله هو الجمال بعينه، فما الداعي الى تصوير الخلائق على هيئة جميلة؟ وإذا كان الله هو مصدر الرحمة، بل هو الرحمة بعينها، فلماذا كان نزول رحمته على مخلوقاته عبر وسائل محددّة كالرياح والغيوم والأمطار؟ أوَ ليس بمقدور الله سبحانه الاستغناء عن هذه الوسائل والتعامل مع مخلوقاته بشكل مباشر؟
بلى، إنّ ذلك من مقدوراته التي لا تحدها الحدود ولا تعرف كنهها العقول... ولكن حكمة الله اقتضت أن نتقرب ونتخذ إليه الوسيلة، كما قال ربنا عزّ وجلّ: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ".
|
|