تراثنا الثقافي وتجارب التاريخ تعطينا رؤية لما وراء المكاسب السياسية
|
*إعداد / بشير عباس
لماذا كلما تقدمنا في حل مشاكلنا السياسية خطوة تأخرنا خطوتين...؟! ماهو السر في ذلك؟ أوليس في القران الكريم والاحاديث النبوية الشريفة و روايات اهل البيت، حلولاً مناسبة لمثل هذه الحالات؟ ثم ماهي جذور المشكلة؟ هل هي فينا كافراد؟ أو في بلادنا ومحيطنا؟ أو في القوة المؤثرة فينا؟
القران الكريم يحدثنا في سورة النمل عن أربعة نماذج من الدول والحضارات قامت ثم أبيدت والعبرة بالعوامل والاسباب.
النموذج الأول: يتمثل في النبي سليمان، الذي جمع بين النبوة وبين العلم وبين الملك، فقد كان عادلاً ويحكم دولةً قويةً منبسطة على رقعة واسعة من الارض.
النموذج الثاني: مملكة (بلقيس) التي كانت قائمة على اساس الشورى، وانتهى بها المطاف الى الايمان والتسليم الى الحق.
النموذج الثالث: قصة ثمود وهم قوم صالح الذين كانت حضارتهم حضارة سليمة وكانوا مستبصرين ولكنهم انحرفوا انحرافا سياسياً فدمروا شر تدمير.
النموذج الرابع: قصة قوم لوط حيث هم الآخرين كانت لهم حضارة ممتدة وقوية ولكنها انحرفت انحرافا اخلاقياً فابيدت.
ونحن نقف أمام هذه النماذج والقصص القرآنية الحقّة، أيُّ نموذج نراه صالحاً للاستفادة منه لحل مشاكل بلادنا؟ علما ان السياسة ذات تأثير بالغ على مسار الامم وقديماً قالوا: (اذا فسد السلطان فسد الزمان)، و(الناس على دين ملوكهم)، وفي احاديث ان الله تعالى يرحم اهل قرية بصلاح امامهم ويعذب اهل قرية اخرى بفساد امامهم، والآية القرآنية تؤكد هذه الحقيقة: "يوم يُدعى كل أناس بامامهم"، وهم الساسة والقادة واصحاب الحل والعقد، فهل نتوسل بنموذج النبي سليمان عليه السلام، كونه نموذجاً للحكم الالهي السليم والعادل والمقسط وفي نفس الوقت القوي المقتدر؟ أم نريد نموذجاً من نوع اخر ؟
التخلّص من النظرة الضيّقة
اذا فكرنا وتأملنا بعمق في امور حياتنا وحاولنا الخروج من دوامة الاحداث السياسية المتقلبة والمتواصلة، وأخذنا بنظر الاعتبار البعد الحضاري والقيمي في مشكلة عدم الاستقرار السياسي، سنجد أننا أمام عبر ودروس كثيرة من التاريخ، وحينئذ تظهر امامنا عدة حقائق:
الأولى: إن الوحدة تعبير عن التحول في الامة، وأيّ أمة لن تتوحد إلا اذا ارتقت الى مستوى معين من النضج وتتوفر لديها عوامل عديدة ومهمة ومؤثرة، واذا وصلت مستوى الوحدة فانها تستطيع ان تحقق اهدافها، ومن جملة تلكم العوامل: الاقرار بالحياة المشتركة وأنها خير لهم من حياتهم الخاصة والمنفردة، حيث يكون تفكير الانسان بانه لو يعيش مع الاخرين ويتعايش معهم في أجواء ودّية وسلمية سيحظى بوضع افضل.
الثانية: يجب ان تحكم الناس قوانين مدونة في دستور، من شأنها ان توصل بعضهم ببعض، وتكون قائمة على أسس ومناهج واضحة وليس على اساس الهوى أو على اساس القرارات المرتجلة القائمة على المصالح الآنية.
الثالثة: وهو الاهم فيما يتعلق باوضاعنا الجارية في العراق، فهو وجود الاهداف المشتركة الكفيلة بتوحيد مواقفنا وصفوفنا.
مثالٌ على ذلك؛ لنفترض ان انساناً يريد ان يصلح غرفة نومه، فالامر هنا يخصه هو و زوجته وحسب، فالامر يقع في نطاق ضيق، أما اذا اراد ان يصلح داره الذي يضم زوجته وابناءه وافراد عائلته الكبيرة واسرته الواسعة، فان الأمر سيعني الجميع، فيشترك الجميع في تصليح الدار، واذا كانت المشكلة تهمّ المنطقة كلها فأهل المنطقة لابد ان يشتركوا في حل تلك المشكلة، واذا كان هناك هدف يرتبط بمدينتهم فأهل المدينة سوف يشتركون في تحقيق ذلك الهدف وهكذا... تترامى الاهداف وتتوسع، بتوسع رقعتها فتجمع الناس جميعاً، كما حصل ويحصل في العالم من تطورات خطيرة على صعيد المناخ، وما يسمى بـ (الاحتباس الحراري) الذي يهدد سكان الأرض باجمعهم، الامر الذي نرى التعبئة والعمل المشترك على قدم وساق في جميع انحاء العالم لمواجهة هذه المشكلة التي تنذر البشرية على سطح الكوكب بارتفاع متزايد وعلى مدى الزمن في حرارة الطقس وتقلّص البرد وهطول الامطار والثلوج، وكذلك الحال عندما شهد العالم انتشار أمراض خطيرة ومعدية مثل (انفلونزا الطيور)، وبعدها (انفلونزا الخنازير)، كل هذه الظواهر والازمات التي لها صفة عالمية تستوجب عقد المؤتمرات العالمية أيضاً للتباحث والتشاور وايجاد الحلول الناجحة لمعالجة هذه الظواهر.
البحث عن جذور المشكلة
نحن في العراق أمامنا السؤال الملحّ؛ ما هو السبيل للخروج من الازمة السياسية القائمة؟
هناك حقائق وأمور واضحة في العراق لا يجهلها أحد، وهي أننا نشعر بوجود مصالح مشتركة لهذا الشعب و البلد في وضع غير طبيعي، وقد اضطر العراق لخوض ثلاثة حروب مدمرة، ثم انه ابتلي بسلطان جائر و دكتاتور أفسد البلاد والعباد، كما ان الفجوات الموجودة في هذا البلد غائرة وعميقة جدا، مع كل هذه الحقائق، ألا يكون العراق اليوم بحاجة الى وحدة الشعب والتفكير الجدّي في المواجهة؟ ألا يجب ان تكون لهذا الشعب الارادة، وعند الساسة الاستراتيجية الواضحة؟ وإلا فان ابتهاجنا بان بلدنا سيكون البلد الثالث في حجم احتياطي البترول، لن يكون ذو معنى، فوجود هذا الاحتياطي لا يعني تحقيق الرافاهية وتطور الخدمات والسيولة النقدية، فكم من بلد في العالم ينام أهله طاوون من الجوع، وهم يعيشون فوق بحيرات من البترول او على معادن ثمينة هائلة، لأن الاخرين يستفيدون من تلكم الثروات فيما أهل البلد يعيشون بلا عيش وبلا مأوى.
بعد مرور حوالي سبعة أشهر على العراق من دون حكومة ولا مجلس نواب، لكننا ما نزال نفتخر – ومن حق العراقيين ان يفتخروا- باننا أول من كتب الدستور في تاريخ البشرية قبل حوالي عشرة الاف سنة، وما تزال آثار هذا الدستور منقوشة على صخرة أثرية، ولكن السؤال: بعد كل تلك الفترة الطويلة والعهد المتمادية، ماذا اصبح مصير العراق صاحب هذا الدستور (المسلّة)؟ وهل تقدمنا الى الامام أم تراجعنا الى الخلف؟ اليس من المفروض ان نجتمع ونفكر على مستوى سياسين او علماء او حتى الناس العاديين، لتكريس روح العمل المشترك ثم مواجهة هذا العدو المشترك وبالنتيجة تحقيق الهدف المشترك، فاذا تبلور لدى الشعب العراقي هذا الوعي، عرف حينئذ انه امام تحديات كبيرة، ولاننا امام هذه التحديات فلابد ان نقتحم الحدود الوهمية التي امامنا ونشكل الحكومة بالتوكل على الله تعالى، وليس هذا وحسب، إنما نجعلها قوية ورصينة وقائمة على اسس من القيم الالهية، ونضع لها برنامجاً يكون قفزة لتغيير مسار البلد وتغيير واقعه نحو الاحسن والافضل.
أما اذا ابقينا على مشاكلنا الخاصة ورؤانا الضيقة، فلن نتمكن من حل هذه المشكلة البسيطة ونصل الى برّ الامان.
يقولون: كان (انشتاين)، ذلك العالم الالماني المعروف يعاني من مشكلة في كتابة كلمة (اثنان)! وهو ذلك العملاق في الرياضيات، ونحن أيضاً مع كل المعلومات والقدرات والامكانيات نقف عاجزين أمام فهم طبيعة الظروف المحيطة بنا، فهناك من يعترض على التدخل الخارجي للبلد، وهذا من كل انسان عراقي، لكن اذا كان هذا البلد ضعيفاً ومنقسماً على نفسه ولا يستطيع ان يشكل حكومة رغم مرور سبعة اشهر، فمن الطبيعي ان يكون هنالك تدخلات اجنبية، فاذا لا يتدخل هذا البلد سيقوم بذلك البلد الآخر، إذن، لابد من حل المشكلة من أنفسنا قبل الآخرين، وفي هذا البلد العقلاء والحكماء والعلماء والشخصيات القادرة على تغيير المعادلة.
سليمان والدرس لأصحاب المناصب
إن سليمان النبي على نبينا واله وعليه افضل الصلاة والسلام، وهو ذلك الرجل الايماني والرباني، وهو ربيب الوحي، واجه في حياته اتهاماً من قبل حشرة صغيرة هي (النملة)، فيما هو في عزّ قدرته وهيمنته، والقرآن الكريم يوضح لنا الحكاية: "حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ" (سورة النمل /18)، هنا اتهمت هذه النملة الصغيرة هذا النبي العظيم بانه هو و جنوده (لا يشعرون)! وهذا الاتهام جاء من شعورها بالمسؤولية، لكن من جهة ثانية كان هذا الاتهام سبباً لأن ينتبه النبي سليمان الى حقيقة هامة، وبعد أن سمع مقالة النملة عبر القدرة التي وهبها إياه الله تعالى، "فتبسم ضاحكاً من قولها"، والتبسّم دلالة على التعجب من هذا الكلام ومن هذه الحشرة الصغيرة، لكن هذا التعجب تحول عند سليمان الى درس، وطالما يعطينا الله تعالى الدروس في كتابه المجيد من خلال النملة أو الذباب أو البعوضة أو الفيل.
وبعد أن "فتبسم ضاحكاً من قولها" قال: "ربي أوزعني ان أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ"، فهذا النبي يخاطب ربه باني الان محاط بنعمتك وهذا ملك كبير اعطيتني اياه، ولم أكن لاحصل عليه بجهدي أو بعرق جبيني ولم ارثه من آبائي، فقد كان داود راعيا للغنم قبل أن يلتحق بجيش طالوت ويقتل جالوت، إنها حقاً نعمة عظيمة، فالدرس العظيم هنا، أن الله تعالى اعطى سليمان كل الملك العظيم، لكن اعطى النملة الصغيرة الشعور والادراك، فلا ينبغي التفاخر والمكابرة بهذا الملك.
هنالك البعض من الناس بمجرد أن يرى (الكرسي) يفقد كل شيء...! انسانيته وصلاته بالرحم وارتباطه بالتاريخ والقيم وكل شيء، فهل يمكن أن يوجد انسان في العالم تصل هيمنته ونفوذه وقدرته كالتي كانت لنبي الله سليمان؟ فقد سخّر الله تعالى الانس والجنّ، وعلّمه منطق الطير ومنطق النملة وغير ذلك، مع ذلك يقول هذا الانسان العظيم: "ربي اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي"، أي انني عاجز عن الشكر لهذه النعم العظيمة التي اسبغتها عليّ الا بتوفيقك، بمعنى ان النعمة فاضت على قدرة سليمان في الشكر، طبعاً الشكر هنا لا يعني شكر الانسان النعمة قلبا ولسانا فقط، "وقل اعملوا آل داوود شكرا" وسليمان منهم، ربنا قال: (اعملوا)، أي اني اذا حصلت على وظيفة فهل انا مستعد ان اقوم بواجبي في مستوى العطاء وان أؤدي حق هذا المنصب؟ وأنا أتكلم عن نفسي أيضاً؛ باني عندما أضع العمامة على رأسي، هل انا قادر على القيام بدور المعمم في المجتمع؟ بلى... قد اكون قادرا بتوفيق الله تعالى.
العبرة بالعاقبة
نبي الله سليمان لا يطلب من الله تعالى التوفيق لشكر نعمائه، إنما يطلب التوفيق أيضاً للعمل الصالح، "اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحا"، بمعنى إن سليمان يخشى ضغوط السياسة والسلطة وأن تأخذ الأنفة والعظمة، لان اغراء النعم قد يكون أشد على قلب الانسان المؤمن من أقسى الطغاة، والدليل إن كثيراً من الناس في أيام القمع والديكتاتورية كانوا صامدين كالجبل، لكن حينما أتت ايام الرخاء والاغراءات و.... فقد توازنه! وفي التاريخ شواهد كثيرة ولا اريد ان اضرب الامثال، والتاريخ امامنا لنا أن نقرأه، وكيف ان شخصاً أمضى ثلاثين أو اربعين سنة في النضال وعاش الظروف الصعبة، لكن بسنتين ضيّع كل السنين الماضية لمجرد انه أغري بمنصب معين او حصل على صفة معينة. لذا يكون في حالة قلق وحذر مادام لم يسلّم الامانة الى رب العالمين، "واعبد ربك حتى يأتيك اليقين" فاذا أوصل الامانة بيد عزرائيل عليه السلام يكون آنئذ ذلك الرجل البطل .
يقال ان اهل ري كتبوا رسالة الى امامنا الحاضر الغائب (عجل الله فرجه)، قالوا له: ياابن رسول الله علمنا دعاءً قصيراً، فجاءهم الجواب: "اللهم اجعل عاقبة امورنا خيرا"..
ومن هنا فان سليمان النبي قال: "اوزعني ان اشكر نعمتك التي انعمت علي وعلى والدي وان اعمل صالحا ترضاه وادخلني برحمتك في عبادك الصالحين"، أي بفضلك يا الهي وفضلك اوسع واكبر من الملك، أن تجعلنا مع الصالحين هناك يوم القيامة. وإلا فاين صار هيكل سليمان الذي كان الجن يعمل من أجله؟ انه اصبح جزءاً من التاريخ، لكن بقي سليمان عليه السلام مع الصالحين.
وانطلاقاً من الحديث النبوي الشريف: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)... وصيتي الى نفسي و وصيتي الى اخواني وبالذات اخواني الذين يُمتحنون ويفتتنون بالواقع السياسي، ان كل واحد بينه وبين الله أن يحاول التقدم نحو الاخر ولو بخطوة، لنوحد صفوفنا ونفكر في الهدف الاعظم، ونتوكل على الله أولاً وثم نسعى الى تحقيق هدفنا بكل اخلاص وإيمان وبكل توجه اليه سبحانه وتعالى.
أسال الله سبحانه وتعالى ان ينزل علينا روحاً من عنده ويجمع كلمتنا ويؤلف قلوبنا لنحدد مسيرنا الصحيح ويوفقنا ويوفق شعبنا لسلطة سياسية واضحة خالصة وجهها لله تعالى، وان شاء الله شعبنا يكون سمحاً بعد هذه الرحلة الطويلة من المشاكل، فسيحظى بالراحة والامان يوماً ما، وينتقل الى المستقبل بوجه مشرق، ويعيش أولاده واجياله في وضع غير الوضع الذي عاشه هذا الجيل، وهذا ما يستحقه هذا الشعب حقاً، نسأل الله تعالى في هذه الليالي المباركة وهي ليالي الجمعة ونحن في كربلاء عند قبر الحسين (ع) ان يوفق شعبنا لما فيه الخير والصلاح انه ولي التوفيق.
|
|