قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الفساد والمفسدون
محمد علي
للإسلام رؤية مميزة في مواجهة الفساد والإفساد باعتباره عاملاً من عوامل الهدم والتخلف في أي مجتمع أو أمة ولذلك تحدثت الكثير من الآيات القرآنية عن الفساد وحذرت من آثاره السيئة على الفرد والمجتمع بطرق متعددة فكرياً وسياسياً واجتماعياً وبيئياً ويمكن مراجعة القرآن الكريم لنعرف هذه الحقيقة ويكفي أن ربنا عز وجل يقول: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (القصص، 77)، لنعرف أن أي مفسد بعيد عن محبة الله عز وجل، ولكن التعاليم الإسلامية لم تكتف بذلك بل وضعت برنامجا شاملا لمواجهة الفساد والمفسدين من خلال تربية أخلاقية وسلوك عملي يؤسس لتحصين الفرد والمجتمع ضد الفساد نتطرق هنا إلى بعض منها:
أولاً: الانسجام بين القول والفعل إذ أن أخطر التحديات التي تواجه الفرد هي أن يقول ما لا يفعله أو يكون سلوكه على الصعيد العملي غير متطابق مع ما يتفوه به من الخطاب أو الحديث وهي مشكلة واقعية تعاني منها الكثير من المجتمعات التي تتعود على الاستماع إلى شعارات كبيرة ورنانة وخطابات ووعود من قبل حكوماتها ولكنها لا ترى لذلك أي تطبيق على أرض الواقع إلا بنسبة تكاد لا تذكر إذا ما قورنت بما قيل، ولذلك يكون الفساد هنا مضاعفاً إذ أن الناس بمرور الزمن يتشكل لديهم تصور بأن ما يقال هو مجرد إدعاءات فارغة لا تسمن ولا تغني فيكفرون بأنظمتهم وبسياساتها وهو ما يشكل مدخلاً لأزمات متعددة تساهم في إعاقة البناء والإصلاح. وإذا كانت التقارير سواء الصادرة عن مؤسسات الدولة ولجان النزاهة والرقابة، او الصادرة عن البنك الدولي والمنظمات الدولية، تتحدث عن حجم فساد مخيف ومتشعب، فمن المتسبب بهذا الفساد أهي البرلمانات و الحكومات المتعاقبة ووزاراتها ومؤسساتها والمحافظات ومجالسها، والاحزاب والكتل المتنفذة في السلطة والقرار، أم أن المتسبب في ذلك هم الناس الذين ليس لهم مشاركة حقيقية في صناعة القرار( اللهم إلا في ايصال المسؤول الى موقع عبر اصواتهم !) ، وهم يعانون ويشكون في شتى المجالات والملفات التي تهمهم ؟؟؟. المشكلة أن أكثر من يتحدث عن محاربة الفساد والمفسدين هم المسؤولون في الدولة ومن بيدهم القرار فيما الكثير منهم أكثر من يمارس نوعا وحجما ما من الفساد !، فكيف يمكن أن يتم معالجة المشكلة من خلال فاقد للشيء لا يستطيع أن يعطيه بطبيعة الحال، وهنا يقدم القرآن الكريم برنامجاً راقياً في تقويم السلوك والتربية الذاتية حين يقول ربنا عز وجل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ، كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ" (الصف، 2، 3).
ثانياً: التوزيع العادل للثروة بين الناس عامل كبير للقضاء على الفساد لأن الفقر والحاجة وصعوبة العيش مدخل إلى الكثير من الأمراض النفسية والاجتماعية كالسرقة والغش وتعاطي المخدرات والكسل وغيرها، ولذلك فإن الإسلام عمل على تحصين المجتمع ضد احتكار الثروة من قبل جماعة دون أخرى يقول ربنا عز وجل: "مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاء مِنكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" (الحشر، 7)، وحث الرسول الأكرم على تقاسم الثروة من خلال حديث نبوي شريف في غاية الروعة فقال: "الناس شركاء في ثلاث الماء،والكلأ، والنار" ، فدعا إلى شراكة مجتمعية في المال العام حتى ينمو المجتمع بشكل متوازن فلا يشعر البعض بالغبن، وهذا ما يعاني منه الكثيرون على صعيد الواقع في حياتهم اليومية، معاشيا ، وسكنيا، وصحيا، وبطالة وفقرا، و.. و... وبهذا كيف لا يمكن أن ينتشر الفساد فيطال المرافق المختلفة في الدولة؟. والمفارقة المحزنة أن التوصيات التي ترتبط بمعالجة الفساد والقضاء عليه تُرفع إلى من أيديهم منغمسة بالفساد ويُنتظر منهم أن يتخذوا خطوات جادة للقيام بخطوات عملية في سبيل مكافحة الفساد !، وهي مفارقة لا ادري أهي تدعو للحزن والأسى أم تدعوا للضحك بلا توقف..
ولأن الفساد لا يرتبط بمجتمع دون آخر وهو موجود حتى في أرقى الدول وأكثرها انضباطاً لذلك فإن تلك الدول ولمعالجة قضية الفساد أو الحد منها فقد أوجدت أنظمة وإطارات سياسية واقتصادية لكي تقوم بدور المراقب والمتابع والمحاسب وحتى تصنع من نفسها دولة القانون والمؤسسات فقد جعلت القانون والقضاء المستقل هو سيد الموقف يطال الكبير والصغير في أي موقع لتضمن مواجهة الخلل في أي مرفق من مرافق الدولة أما عندنا فالشعار المرفوع وهو دولة القانون والمؤسسات فقط على الورق ! أما على صعيد الواقع فلا رقابة حقيقية ولا استجواب ولا عزل ومحاسبة جدية، لأن الكل يغطي على فساد بعضه البعض لاسيما عندما يتعلق الامر بحيتان الفساد، وليس بموظف صغير هنا وهناك ليس له سند وظهر سياسي وحزبي، واذا ما حدث واشهرت ملفات الفساد فكثيرا ماتكون كأوراق صغظ وابتزاز سياسي متبادل..
استذكر هنا قولاً جميلاً للإمام علي (ع) في عهده لمالك الأشتر: "ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنزلة سواء، فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان، وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة، وألزم كلاً منهم ما ألزم نفسه" . فهل تتعلم حكوماتنا وبرلماننا ومسؤولونا ومؤسساتنا الدرس؟. والله من وراء القصد.