المكتبة الاسلامية و إعادة الأمجاد
|
*كريم الموسوي
عندما نستذكر المقولة الشهيرة في مجالسنا (مصر تكتب ولبنان تطبع والعراق يقرأ)، نستدل في نفس الوقت على أننا أمة الثقافة والفكر والوعي، لكن ما أن نلتفت من حولنا، لا نجد من سبل المطالعة والثقافة سوى القشور والاوراق الصفراء وما يخمد العقل والفكر ويشبع النزوات ويجاري المصالح الشخصية. فأين ذهبت المكتشفات العلمية في شتى الصنوف ؟ واين ذهبت كتب التشريع التي سنّت القوانين الالهية المطابقة للفطرة البشرية، في مجالات الحياة كافة؟ واين اصبحت مؤلفات الفكر الاسلامي التي تكرّس العقائد الحقّة في النفوس وتجعل الانسان يعيش حياته مطمئن النفس مرتاح الضمير، يرتبط بعلاقة وثيقة مع الخالق جلّ وعلا ومع الخلق في آن واحد؟
إن من نعم الله تعالى علينا أن كرمنّا بأهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله ليكونوا الامتداد الحقيقي للرسالة وللعلوم المتصلة بالسماء والتي لا تشوبها شائبة. واذا القينا نظرة سريعة على مكتباتنا نجد ان اهل البيت عليهم السلام لم يدعوا زاوية مظلمة إلا وسلطوا عليها الاضواء بفكرهم وتشريعاتهم واحكامهم. إذن؛ أين المشكلة يا ترى؟
المكتبة العربية – الاسلامية
قبل الخوض في غمار الموضوع، نوضحأن المقصود من (العربية – الاسلامية)، هو النتاج الثقافي والفكري الذي كتب باللغة العربية طوال العصور الماضية، وإلا فان الجوهر والمظهر يعود الى أصل الاسلام الذي جاء به الرسول الأكرم وحمل لواءه الأئمة المعصومون من بعده وما يزالون.
نعتقد أن ثقافة اهل البيت عليهم السلام هي أرقى الثقافات الانسانية، لانها منبعثة من صلب الرسالة ؛ ولكن في نفس الوقت يجب الاذعان الى الحقيقة المرة التالية: وهي، ان هذه الثقافة على الرغم من كونها الأسمى والأرقى بين الثقافات البشرية إلاّ انها اكثر الثقافات إنطواءً وكتماناً، وابطأها سيراً وانتشاراً، لذا نجدها تتأرجح بين طرفي نقيض: بين الرفعة والضعة، وبين الظهور والاندثار. يبدو هنالك سببان موضوعيان ربما من جملة اسباب أدت الى احتجاب هذه الثقافة الأصيلة عن الانسانية:
السبب الأول: الظروف السياسية التي واكبت حركة التقدم العلمي والحضاري، فالمعروف تاريخياً إن الامامين الباقر والصادق عليهما السلام لم يتمكنا من تقديم كل هذا العلم الجمّ الذي وصلنا جزء منه، لولا الفسحة الزمنية التي تخللت انهيار الدولة الاموية وظهور الدولة العباسية، ففي تلك الفترة انتعشت حلقات الدرس وتوافد الآلاف من طلبة العلم حول الأئمة الاطهار، وتمت كتابة الحديث والبحث والتحقيق وغيرها من سبل العلم والمعرفة. لكن ما لبثت تلك الفترة ان انتهت بعد ان قويت شوكة العباسيين وتداركوا الموقف، فهم يعلمون جيداً، اذا بقت الحركة العلمية والثقافية في يد أئمة أهل البيت عليهم السلام، فان سحب البساط من تحتهم سيكون أمراً في غاية السهولة، لذا وجدنا تشديد الضغوط على الامام موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام مع صعود هارون (الرشيد) على كرسي الحكم، ثم توالت الاحداث الجسام ودخل الحكام العباسيون في مواجهة مكشوفة مع أئمة اهل البيت لتحجيم دورهم وابعادهم عن الحياة السياسية والاجتماعية.
السبب الثاني: وهو يعود الينا نحن الذين ندّعي الموالاة لأهل بيت رسول الله، نفرح لفرحهم ونحزن لحزنهم، لكن ما أن يأتي دور الثقافة والفكر والنشر، نجد التنصّل والتباطئ والتسويف وغيرها من سبل الخذلان، لكن مع ذلك أمامنا الفرصة لأن نعود من جديد بهذه الثقافة الى الواجهة والسيادة على الواقع، ونحن نعلم ان لايوجد اليوم من يشكك في مصداقية هذه الثقافة ويقول انها لا تفضي الى سعادة البشرية وحل المشاكل والازمات التي يعاني منها انسان اليوم.
لكن بدايةً علينا تشخيص الداء قبل وصف الدواء، و أول خطوة على هذا الطريق القاء نظرة فاحصة على المكتبة الاسلامية والوقوف عند النواقص والمشاكل التي تعانيها. علماً انها تضم بين رفوفها أمهات الكتب العلمية والفكرية والثقافية.
من ابرز المشاكل والعقبات أمام المكتبة الاسلامية، اللغة القديمة التي كتبت بها، وهي تعود الى قرون بعيدة، ربما الى القرن الثالث او الرابع الهجري أي قبل حوالي ألف عام، لنتصور المسافة البعيدة بين طبيعة الذهنية لأخواننا الذين سبقونا بالايمان، وبين ما نحن عليه من قدرة الاستيعاب، إذن؛ هنالك بعض المؤلفات لايحيط بكنهها سوى العلماء وطلاب العلوم الدينية، فهم وبعد جهد جهيد يتمكنون من التعرف على منطق العلماء السابقين، هذا بعد ان يتفرغوا ويخصصوا جلّ عمرهم في تعلّم لغة المؤلفات القديمة، وحل ما أغلق وغمض من عباراتها، وعلى سبيل المثال لا الحصر، فان لغة كتب فقهية مثل (شـرائع الاسلام) و (اللمعة) و (المكاسب) وكتب الاصول مثل (الكفاية) وغيرها كثير، لا يفهمها ابناء الجيل الحاضر، انما يفهمها علماء الدين في الحوزة العلمية وحسب.
يذكر سماحة المرجع الديني السيد محمد تقي المدرسي (دام ظله) أن العالم القانوني الشهير عبد الرزاق السنهوري والذي يصفه سماحته بان أكبر مقنن عربي ومن اساطين علم القانون المعاصرين، ذكر له ذات مرة بانه حينما يريد الاطلاع على الفكر الاسلامي في مجال القانون ومن خلال أمهات الكتب الاسلامية القديمة فانه يصاب بالعجز عن فهم محتواها ومعرفة عباراتها. ويضيف سماحة السيد المرجع بان هذا العالم الكبير الذي وضع القوانين المدنية لاكثر من تسع دول عربية كان يحاضر يوما في كلية الحقوق بجامعة بغداد حول (العيب الخفي)، و زعم ان الاسلام لم يتعرض لهذا الموضوع قائلاً: بحثت كثيراً في الكتب الاسلامية فلم اعثر على كتاب اسلامي قانوني تناول هذا الموضوع الهام. فانبرى له احد الطلاب قائلاً: أيها الاستاذ...! لقد تناول الاسلام هذا الموضوع. فردّ عليه السنهوري: أتحداك في هذا، فأنا أجزم بعدم وجود كتاب اسلامي عالج هذا الموضوع. فأجابه الطالب : حسناً، سأثبت لك خلاف ما توصلت اليه، وسآتيك غداً بكتاب طرح هذا الموضوع.
يقول سماحته بان هذا الطالب الجامعي كان قد درس العلوم الدينية في النجف الاشرف، وجاء الى بغداد لدراسة العلوم الحديثة في كلية الحقوق، وفي اليوم التالي جاء هذا الشاب بكتاب (المكاسب) لشيخ الطائفة مرتضى الانصاري (طاب ثراه) وقدمه الى الاستاذ، وكان ذلك الموضوع مطروحاً ضمن حاشية كتبها شرحاً لهذا الكتاب آية الله العظمى المرحوم السيد محمد كاظم اليزدي صاحب كتاب (العروة الوثقى).
فتح (السنهوري) الكتاب، وبدأ يقرأ هامشه باذلاص قصارى جهده وطاقته، فاكتشف في طيات هذا الكتاب وفي اسطر حاشيته التي كتبت بأشكال هندسية علماً جماً وكنزاً مخبوء، وفي المحاضرة التالية أذاع (السنهوري) ما اكتشفه، واسهب القول فيه، فعندما اعتلى منصة الخطابة وجه كلامه الى الحاضرين قائلاً: ان هذا الشاب علمني علماً لم يعلمنيه احد طوال حياتي - واشار بيده الى الطالب الذي جاءه بالكتاب - لقد ثبت لي ان القانون الاسلامي تعرض لموضوع (العيب الخفي)، و أوفى حق هذا الموضوع من جميع جوانبه، وتعد معالجته هذه أنضج من كل ما كتب حول هذا الموضوع في القانون الفرنسي والروماني والروسي والبريطاني وغيره، ثم التفت الى الطالب الجامعي متسائلاً:لماذا طمرتم - انتم اصحاب هذه الكتب، ومالكو مفاتيح ما اغلق علينا فهمه - هذه الكتب في مطامير ومعتقلات، ولماذا اخفيتموها عنا؟!
الكتابة بأسلوب معاصر
الحادثة الآنفة الذكر تثبت لنا عظمة ثقافتنا وانزوائها معاً، ترى من المسؤول عن ذلك ؟ ومن هو الذي ينبغي عليه ان يقوم بدور الوسيط لكي يوضح لغة علمائنا الكبار ؟
نحن بحاجة في عصرنا هذا الى منطق مبسط وواضح كما يقول تعالى:"وَءَاتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ" (ص/20) أي الخطاب الواضح الذي يفصل الحق عن الباطل، ومع ذلك فان الادب الذي كتب به كتاب الشرائع او اللمعة وسائر الكتب الفقهية هو أدب جزل، ولكن ربما يقال: ان الادب قد تغير وتطور، فيجب ان نغير نصوص تلك الكتب الى عبارات واضحة يستسيغها الانسان المسلم أينما كان، وفي غير هذه الحالة سنبقى بعيدين عن تراثنا العلمي والثقافي العظيم، ونبقى محتاجين لمن يطعمنا الثقافة والتربية لنتعلم كيف نتصرف مع اطفالنا وزوجاتنا واموالنا وحياتنا كلها.
لنضرب هنا مثلاً بالامة الالمانية؛ فقد كانت هذه الامة قبل نهضتها، متمزقة متفرقة، تحكمها الصراعات، ويسودها التناحر، وكانت اراضيها مقسمة بين الدول التي تحيط بها كالامبراطورية النمساوية و روسيا القيصرية وفرنسا، وما تبقى منها كان عبارة عن سبع وعشرين ولاية متناحرة، يحارب بعضها بعضا، وفي خضم هذا الوضع المتوتر ظهر رجل من بين اوساط هذه الامة فنفخ فيها روح الوحدة، فجمع شتاتها، وشعب صدعها حتى اصبحت من اقوى الأمم الاوروبية وأعظمها، ولم يكن هذا الرجل نبياً من الانبياء يمتلك معاجزهم بل كان أعزلاً، إلاّ من قلم خُطّ به علوم من تقدمه بأسلوب واضح سلس يفهمه الصغير والكبير، فانتشرت كتبه في اوساط الشعب الالماني، وأثرت فيه أيما تأثير، فحولتها من امة ضعيفة واهية الى امة قوية مقتدرة، وهذا الرجل هو الفيلسوف الكبير (نيتشه).
ونظير (نيتشه) الالماني (هبرس سبنسر) الانجليزي، الفيلسوف الشهير الذي قدم خدمات كبيرة الى الامة الانجليزية تفوق ما قدمه غيره من سائر العظماء السياسيين الانجليز، لقد استطاع هذا الرجل كتابة النظريات الفلسفية بنهج مبسط، حتى جعلها في متناول الجميع، مما اسهمت في تقدم بريطانيا.
من هنا ندرك ان مشكلتنا ليست في اصل الثقافة، وانما في اللغة التي يخاطب بها المجتمع ؛ فهي لغة صعبة لا يفهمها الجميع. واذا القينا نظرة سريعة الى الكم الهائل من التراث الاسلامي الذي خلفه لنا أهل البيت صلوات الله عليهم، وايضاً العلماء الكبار من ابطال العلم والمعرفة من امثال الشيخ الكليني والشيخ المفيد والشيخ الصدوق وغيرهم كثير، نجد ان طلبة العلوم الدينية والمثقفين أمام مسؤولية عظيمة لإعادة كتابة المنهج الرسالي باسلوب عصري ولغة اكثر سلاسة واستساغة للقارئ، بل لابد ان تكون الكتب والكراسات حول التربية والثقافة والفكر والعلم بحد ذاتها عامل تشجيع وجذب للمطالعة، مع وجود ظاهرة الهروب الكبير من المطالعة لدى ابناء الأمة والالتصاق بالشاشة الصغيرة التي تقدم المعلومات الجاهزة والسريعة والمجانية، إن موضوعات من قبيل حقوق المرأة والطفل والمعاملات التجارية والحياة الزوجية بل حتى موضوع الجنس، من الامور الحيوية والهامة التي طالما سلّط الاسلام الضوء عليها، وطالما تجاهلها يراع معظم كتابنا، فجاءتنا الكتب والمجلات التي تتناول موضوعات كهذه منطلقة من افكار بعيدة كل البعد عن الفطرة الانسانية، وتجعل الانسان مجبراً على فعل كل شيء لأنه لا بديل.
|
|