طموح الانسان والاهداف السامية
|
*العلامة الشيخ نمر باقر النمر *
إن الإنسان العاقل الرشيد لا يُقَدِّم رِجْلاً ولا يؤخر أخرى، ولا يحرك ساكناً إلا بعد أن يحدد الهدف؛ ومن ثم ينطلق من روح الهدف ليختار البوصلة التي تحدد المسار الذي يوصله إلى الهدف؛ ومَنْ لا يعرف الهدف لا يستفيد من البوصلة، وسيتخبط ويتيه في المسارات المجهولة التي لا هدف محدد لها، ولا نقطة لنهايتها، والعاقل لا يتحرك على أساس ضربة حظ قد تصيب وتفتح للإنسان المسالك، وقد تخيب وتؤدي به إلى المهالك.
إذاً في البدء لا بد من تحديد الهدف الأسمى من خَلْق الإنسان ووجوده الذي تتفرع منه الأهداف السامية الأخرى بتراتب طولي أو باصطفاف عرضي من أجل بلوغ الهدف الأسمى؛ والتي ما هي إلا سُبُل للوصول إليه؛ فكل هدف سامٍ هو هدف لهدف سامٍ أعلى وأسمى منه؛ وهكذا إلى أن تنتهي الأهداف السامية إلى الهدف النهائي الأعلى والأسمى من كل الأهداف التي لم تكن أهدافاً سامية إلا لأنها سبيلاً إلى الهدف النهائي الأعلى والأسمى الذي خُلِقَ الإنسان من أجل الوصول إليه.
الغاية لا تبرر الوسيلة
والهدف الأعلى والأسمى هو الذي يحدد الأهداف التي تتفرع منه؛ وكل هدف من هذه الأهداف لها وسائلها، والعوامل التي تؤدي توسيع دائرتها أو تضييقها؛ ولذلك فإن الهدف السامي لا يرتضي الوسائل الدنيئة؛ فهو في غنىً عنها، لأن (الغاية لا تبرر الوسيلة)، والغاية السامية تأبى وتتناقض واتخاذ وسيلة غير سامية، كما في الحديث الشريف: (لا يطاع الله من حيث يعصى)، فالهدف الذي به يطاع الله لا يمكن أبداً أن يتحقق عبر معصيته؛ والذي يُسْتَوحَى من وحي السماء، ويُسْتَنْبَط من قيم الرسالة، ويَهْدِي ويُرْشِد إليه العقل لا يتحقق أبداً بأدوات يُوحِي بها شياطين الإنس والجن، أو تنسجها قيم الجاهلية، أو تتخيلها تصورات البشر، أو ينتجها الهوى؛ فحينما يكون الهدف من بعثة الرسل هو العبودية لله، واجتناب الطاغوت حيث يقول الله سبحانه وتعالى: "وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ"؛ فسوف تكون جميع الأهداف التي تتفرع منه والأسس والوسائل مصطبغة بصدق الحديث، وأداء الأمانة كما يقول الحديث الشريف: (لم يبعث الله نبياً قط إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة).
وهكذا حينما يكون الهدف هو التحرر من الرجس من الأوثان؛ فإنه لا بد من التحرر من قول الزور أولاً؛ وكما للأهداف السامية حرمة لابد من تعظيمها، ولا يجوز تَعَدِّيها أو الاستخفاف بها؛ فكذلك للأسس والوسائل الموصلة للأهداف السامية حرمة لابد من تعظيمها، ولا يجوز تَعَدِّيها أو الاستخفاف بها أيضاً. يقول الله سبحانه وتعالى: "ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ"
إن اعتماد واتخاذ الوسائل الجاهلية من الكذب والنفاق وقول الزور هو السبب الرئيس في عدم تحقق الأهداف الرسالية السامية؛ ومع الأسف يقع الكثير من المؤمنين في منزلق الكذب والنفاق وقول الزور مما يعيق حركتهم نحو الأهداف السامية.
الإنابة الى الله
إن اللهَ سبحانه وتعالى لم يخلق الكون عبثاً أو لهواً أو لعباً. يقول الله سبحانه وتعالى: "وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ"، ولم يخلق اللهُ الإنسانَ عبثاً. يقول سبحانه وتعالى: "أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ"، كما لم يترك الإنسانَ سُدى من دون رقيب ولا حسيب، "أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى"، ولم يخلق الإنسانَ لكي يُعَذِّبه، "مَّا يَفْعَلُ اللّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا".
وكل المصائب التي تحيط بالناس وتُكَدِّر معيشتهم لم تحدث إلا بسبب بعضٍ ممَّا كسبت أيديهم من سوء عملهم وتفكيرهم وسلوكياتهم وتصرفاتهم التي أبعدتهم عن الهدف الأسمى الذي خُلِقوا من أجل الوصول إليه، "وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ، فالظلم هو الذي يهوي بالإنسان في الوادي السحيق بعيداً عن قمة الهدف الأسمى الذي خُلِق الإنسان لبلوغه؛ والظلم هو سبب العذاب والمآسي والويلات التي تحيط بالبشرية. يقول الله سبحانه وتعالى: "يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِّنَ السَّمَاء فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللّهِ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُّبِينًا".
بل إن الله سبحانه وتعالى يتغاضى عن معاصي وظُلم العباد حينما يكون هناك المصلحون الذين يتحملون مسؤولية إصلاح العباد والبلاد والوقوف بوجه الظلم والجور، يقول سبحانه وتعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ"، فالهدف من إنزال العقوبة والعذاب على بعض الأعمال السيئة هو العودة إلى الطريق الذي يوصل إلى الهدف الأسمى الذي خُلِقَ من أجله الإنسان.
ومع أن الهدف من المؤاخذة الإلهية للناس هو العودة إلى الهدف الأسمى، إلا أن الله رحمةً بعباده لم يعاقب الناس إلا على بعض ظلمهم وليس على كل ظلمهم، لأنه لو لم ينزل العقوبة بأن ترك الناس يعملوا ما يشاؤون ولم يحُل بينهم وبين أعمالهم الشيطانية لازدادوا ظلماً وجوراً وعدواناً ولقاموا بإفساد الأرض ومَنْ عليها؛ والنتيجة أنه لن يبقى على وجه الأرض من دابة، ولا يستحق أحدٌ البقاء حين يكون الظلم والجور هو سيد الموقف في كل شؤون الحياة ومجالاتها.
إن الناس حين لم يؤمنوا بمنظومة الحق؛ بدءاً من الإيمان بالله والرسول والرسالة؛ ومروراً بالعقل والعلم والمعرفة؛ وختاماً بالعدل والجزاء؛ وكذَّبوا بقيم السماء، كانت النتيجة انعدام الأمن وتعطل القدرات، والعجز الذي ينتج التخلف. يقول سبحانه وتعالى:"َلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ"، ولو أنهم آمنوا بالله والعقل والعلم، ومنظومة القيم الفضلى التي تنضوي تحت مفهوم الحق، وأقاموا العدل بالحق؛ لارتفع الظلم والجور، وتحقق الأمن العام والشامل؛ مما يُمَكِّن العقل البشري من استخراج خيرات الأرض، وكنوز السماء، وعاش حياة السعة والرفاهية في جميع المجالات والأبعاد. يقول سبحانه وتعالى: "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ".
إن كل ما نَزَل به الوحي من العبادات والمعاملات والأحكام والنُظُم والتشريعات والسنن والحِكَم والمعارف والتوجيهات والإرشادات؛ كل تلك السُّبُل الموحى بها من السماء تكاملت، وجُعِلَتْ صراطاً وحيداً إلى الله؛ وأمَرَ الله العباد باتباع هذا الصراط، واجتناب ما عداه من السُّبُل من أجل بلوغ التقوى، فقد جعل الله التقوى الباب المفتوح الذي لا يُغْلَق للخروج من كل الأزمات والضغوط السياسية والأمنية والاقتصادية والاجتماعية وغيرها؛ وجعل التقوى أيضاً الباب المفتوح الذي لا يُغْلَق للدخول في كل الخيرات والنعم المادية والمعنوية، ولم تكن التقوى هي الباب المفتوح للخروج والدخول فحسب؛ بل هي القوة التي بها يتمكن الإنسان من تجاوز كل العقبات والصعاب، ويفك كل عقدة، ويزيل كل عسر؛ وبالتقوى تتيسر كل الأمور أجمع ومن دون استثناء. يقول سبحانه وتعالى:" وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا".
اتباع الحق ولو بأغلى الأثمان
وفضلاً عن إن الله جعل التقوى باباً لرحمته الواسعة، فقد اختار العدالة وجعلها أقرب السُبل لبلوغ التقوى لأن الظلم هو الذي يحجب القلب عن نور التقوى. يقول سبحانه وتعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".
ولكن قبل الحديث عن أهمية ومفردات العدالة التي بها تتحقق كل الأهداف السامية؛ لابد من الحديث عن النبع الصافي الزلال للعدالة؛ وهو الحق الذي به فقط يكون الهدف هدفاً سامياً ومشروعاً؛ وهكذا كل الأسس والوسائل تأخذ سموها ومشروعيتها من الحق فقط لا غير؛ وبالحق فقط تتحقق العدالة؛ فلن تتحقق العدالة التي لا تتجزأ إلا بالحق. يقول سبحانه وتعالى: "وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ? ويقول الله سبحانه وتعالى: ?وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ".
إن إتباع الهوى وعدم التواضع للحق؛ هو السبب لاستكبار النفس، وهو ما يسبب الجحود بالرغم من يقين النفس بالآيات الواضحة، والأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة؛ والجحود يؤدي إلى الضلال والتيه والتخبط؛ ولكي لا نتجه الى منزلق الضلال يجب علينا أن نتواضع للحق ونتبعه ونتمسك به ونحكم به.
إن الله وعَد المستضعفين من أهل الحق الذين لا يحكمون إلا بالحق وبه يعدلون بالاستخلاف والسلطة والحكم، وجَعْلِهم الزعماء والقيادات للناس، وجَعْلِهم الوارثين لكل كراسي العروش في دول العالم أجمع، وإعطائهم القدرة والمِكْنَة على الحكم، وإدارة البلاد، وقيادة العباد. يقول سبحانه وتعالى: "وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ 5 وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ"، ولكن الله سبحانه وتعالى يبين فلسفة الاستخلاف والتربع على العرش والتمكين؛ وأن كل ذلك ليس هدفاً لذاته؛ فالسلطة والحكم ليس هدفاً ولا غاية للمؤمنين؛ وإنما وسيلة وسبيل لإقامة الحق والعدل للتحرر من عبودية الأرباب من دون الله، والدخول في العبودية الخالصة لله، والتحرر من عبودية المال، وتحقيق العدالة الاقتصادية، ونشر الفضيلة، واقتلاع الرذيلة.
وهذا أمير المؤمنين يجسد دولة الحق والعدالة؛ وهو الذي يدّعي الكثير اليوم الاقتداء به والزهو بالانتماء الى شيعته، فالعدالة عنده هي الهدف، والدولة والإمارة ليست سوى وسيلة للعدالة التي لا يجوز أن تنتهك بذريعة حفظ النظام والدولة؛ فضرورة حفظ النظام والدولة لا تُجَوِّز الظلم، وانتهاك العدالة بأي حال من الأحوال؛ ويجب اجتناب الظلم، والتزام العدالة حتى ولو أدى ذلك إلى اختلال النظام، أو سقوط الدولة التي لا قيمة لها إلا بإقامة الحق والعدالة؛ وهذا ما التزم به أمير المؤمنين في خلافته. وإليك مشهد واقعي في عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) من تطبيق العدالة، ومجانبة الظلم ولو أدى ذلك إلى اختلال النظام، أو سقوط الدولة..
خرج الرجلان - طلحة والزبير - من دار أمير المؤمنين، وقد يئسا من مناهما وهي الإمارة والسلطة، فجعلا يفكران في كيفية الخروج إلى مكة، والالتحاق بعائشة، إلى أن صار رأيهما على هذا؛ وجاءا إلى أمير المؤمنين وقت خلوته وقالا: قد جئناك نستأذنك للخروج الى العمرة، لأنا بعيدا العهد بها. فأذَنْ لنا فيها! فنظر أمير المؤمنين في وجهيهما، وقرأ الغدر من فلتات لسانهما، ودوران عيونهما، وقد احمر وجهه، ولاح الغضب فيه فقال: والله ما تريدان العمرة، ولكنكما تريدان الغدرة، وإنكما تريدان البصرة!
فقال الرجلان: اللهم غفراً، ما نريد إلا العمرة.
فقال أمير المؤمنين: احلفا لي بالله العظيم أنكما لا تفسدان علي أمر المسلمين، ولا تنكثان لي بيعة ولا تسعيان في فتنة.
فحلفا بالأيمان المؤكدة فيما استحلفهما عليه من ذلك؛ فخرج الرجلان من عنده، فلقيهما ابن عباس سائلاً: أذن لكما أمير المؤمنين؟
فقالا: نعم.
ودخل ابن عباس على الإمام ؛ فابتدأه الإمام قائلاً: يا ابن عباس: أعندك الخبر؟ فقال ابن عباس: قد رأيت طلحة والزبير.. فقال أمير المؤمنين: إنهما استأذنا في العمرة، فأذنت لهما بعد أن أوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يحدثا فساداً. ـ وبعد هنيئة ـ قال: والله يا بن عباس: إني لأعلم أنهما ما قصدا إلا الفتنة، فكأني بهما وقد صارا إلى مكة ليسعيا إلى حربي، فإن يَعْلِي بن مُنْبِه الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك، وسيفسد هذان الرجلان علي أمري، ويسفكان دماء شيعتي وأنصاري، فقال ابن عباس: إذا كان ذلك عندك يا أمير المؤمنين معلوماً، فلم أذنت لهما؟ هلا حبستهما، وأوثقتهما بالحديد، وكَفَيْتَ المؤمنين شرهما؟ فقال أمير المؤمنين متعجباً: يا ابن عباس أتأمرني بالظلم أبدأ؟ وبالسيئة قبل الحسنة؟ وأعاقب على الظُّنَّة والتُّهْمَة؟ وأؤاخذ بالفعل قبل كونه؟ كلا والله، لا عَدَلْتُ عما أخذ الله عَلَيَّ من الحكم والعدل، ولا أبتدأ بالفصل، يا ابن عباس: إنني أذنت لهما وأعرف ما يكون منهما، ولكني استظهرت بالله عليهما والله لأقتلنهما ولأخيبن ظنهما، ولا يلقيان من الأمر مُنَاهُما، وإن الله يأخذهما بظلمهما لي، ونكثهما بيعتي، وبغيهما علي.
إن الهدف السامي والحقيقي من الاستخلاف والتربع على الكرسي والتمكين والسلطة والحكم والقضاء هو إقامة الحق، وبسط القسط والعدالة ونشر الحرية ودفع الباطل ودحض الظلم والجور، واقتلاع جذور الاستبداد؛ فالإمارة والسلطة والحكم والدولة لا قيمة ذاتية لها أصلاً؛ نعم لها قيمة حيثية فهي من حيث إقامة الحق، ودفع الباطل لها قيمة من تلك الحيثية ليس إلا؛ فإذا فقدت الإمارة والسلطة والحكم والدولة حيثية إقامة الحق، ودفع الباطل سقطت قيمتها فضلاً عن شرعيتها.
|
|