وعي الغيب
|
*كريم محمد
بين المنهجية التي يتبعها الانسان المؤمن، وتلك التي ينتهجها الآخرون مسافة بعيدة ؛ فالمؤمن اذا ما أبصر ظاهرة، وتعامل مع حدث فانه يكل تفسيرهما الى ظواهر وأحداث أخرى متصلة بهما، في حين ان نظرة الآخرين للظواهر والاحداث هي نظرة غير متكاملة لأنهم يفصلون بين الظواهر، فيقفون عند حد معين .
ومن الواضح ان الفكر التجزيئي نابع من الفكر المتخلف، لأنه ينظر الى اي شيء بمعزل عن ارتباطاته بالاشياء الاخرى، وعلى سبيل المثال فعندما ينظر الانسان المتبع لهذا الفكر الى ثمرة ما، فان نظره هذا ينحسر في اطار ذات الثمرة او يتجاوز ذلك قليلا، كأن يعرف ان هذه الثمرة هي من نتاج شجرة معينة، دون ان يبصر ماوراء ذلك من سلسلة مراتب تنتهي الى فكرة الغيب الذي يمد الكائنات بالروح والحياة .
وفي اطار ذلك الفكر الشامل يجب ان نفكر في ذلك الروح الذي جعل الكون بهذا التناسق العجيب ؛ فمن هو ذلك القوي العزيز الجبار الخالق المصور الذي قدر فهدى، والذي انشأ كل شيء، وجعل هذه الحياة ممكنة بعد ان مكن الانسان من سبر اغوار الكون اللامتناهي عبر تلك الاجهزة الدقيقة التي تستطيع ان تلتقط وتحلل الاشارات الضوئية وهي على بعد ملايين السنين الضوئية .
ومن خلال درك هذه الحقائق الكبيرة لايتسنى للانسان الا ان يؤمن بأن وراء كل ذلك نظاما، اذ من المستحيل ان يقوم كل ما نراه صدفة ومن دون مدبر، او ان نتصور هذا النظام دون منظم .
التفكير الشامل نتاج الايمان
ان المؤمن ينفذ ببصيرته الى هذا المدى البعيد، بينما تتوقف بصيرة الآخرين عند حدود الشهود، ولو فهمنا هذه الحقيقة لانفتحت امامنا ابواب المعارف والعلوم على مصراعيها ولا يكون ذلك الا عبر الايمان الذي يدفع الانسان صوب التكامل، ويدعوه الى ان ينظر في كل شيء، وهذا لايمكن الا عندما ينفذ المؤمن ببصيرته الى رحاب الغيب، والى هذه النقطة المهمة يوجهنا الله تعالى في محكم كتابه الكريم من أجل ان يعرف كـل انسان قـدر نفسـه دون ان يتجـاوز حـده بالتطـاول علـى القـدرة الالهيـة، كمـا يقـول تعالى: "نحن خلقناكم فلولا تصدقون، أفرايتم ماتمنون، أ انتم تخلقونه ام نحنالخالقون"
وقد يخطىء البعض في نظرته لمسألة الخلق، فيتصور انها قد تكون ضمن ارادة الانسان، وهذا عين الخطأ لأن مثل هذه النظرة تفضح عن محدوديتها، لانها تحجب عن الانسان فهم اساس الخلق وحقيقته.
وكما ان الخلق راجع الى الله تعـالى، فان الموت كـذلك راجع اليه تعالى، وهكذا الحال بالنسبة الى مرحلة ما بعـد الموت فهي الاخرى من شأن الله العزيز الجبار، وباختصار فان كل القضايا التي لها صلة بالغيب انما هي خاصة بالله تعالى والانسان يعجز عن كشف سرها .
اضف الى ذلك ان عملية القدرة على الخلق الالهي لاتنحصر في كائن معين كالانسان وانما تشمل الكائنات كلها بصورة مطلقة، لذلك يعقب تعالى بالقول: " افرأيتم ما تحرثون، أ أنتم تزرعونه أم نحن الزارعون، لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون"
ارادة الخالق هي التي تقرر
ومن هنا يتبين لنا ان ارادة الله هي الاساس، فعلى الرغم من كل مساعي الزراع في تهيئة الارض ونثر البذور ومتابعة سقاية الارض، الا ان مشيئة الله في اثمارها او عدم اثمارها تبقى سيدة الموقف.
ثـم يشيـر اللـه تعالى بعد ذلك الى المطر فيقول : "أفرأيتم الماء الذي تشربون، أ أنتم أنزلتموه من المزن أم نحن المنزلون، لو نشاء لجعلناه أجاجا فلولا تشكرون"، فلولا المطر لاستحالت الحياة في معظم بقاع العالم ان لم نقل على الارض كلها، ولايخفى ان هذه الرحمة مسيّرة بارادة الله، فيصيب بها من يشاء، ويحرم منها من يشاء، ولعل من أبرز وجوه الرحمة الالهية في المطر، انه تعالى لم يجعله أجاجا، بل جعله شرابا سائغا يروي العطشان .
فما مر ذكره لم يأت الا تذكرة لمن انشرح قلبه للهدى، لكي ينتبه ويفكر حتى يصل بنفسـه الى مرحلـة معرفـة الحقائق التي تقف في مقدمتها حقيقة ان كل الامور ترجع لله سبحانه وتعالى، ومتى ما توصلنا الى هذه الحقيقة، حينئذ نتمكن من ربط القضايا ببعضها بنظرة ثاقبة، وبصيرة هادية، وعندئذ سنكون في هذه الدنيا اسيادا للطبيعة، ونكون في الاخرة ملوكا في الجنة ان شاء الله، أما إذا لم نستوعب هذه الحقيقة التي هي مفتاح فهم واستيعاب الحقائق الاخرى، فلنكن بانتظار خطر كبير يتمثل في التخلف والانحطاط الدنيوي، والعذاب الشديد الاخروي.
|
|