قسم: الاول | قبل | بعد | الاخير | عناوين اقسام | عناوين جميع اقسام

الطريق الى ثقافة الحياة
*سلام ابراهيم
من أهم مميزات الحضارة الاسلامية أنها تنشر (ثقافة الحياة) وليس (ثقافة الموت)، وهذا ما جعل الملايين من البشر وعلى مر الاجيال ينظرون الى الدين الاسلامي بإكبار وإجلال، ويمكن ملاحظة هذه القاعدة الحضارية في جميع نواحي الحياة الانسانية، فنجدها في سلوك الفرد والمجتمع وفي بناء الاسرة والتعامل الاقتصادي والسياسي وحتى العسكري، فلا شيء يحمل طابع الموت، إنما يبشر بالحياة والعمل والتطور بغض النظر عن الفوارق بين البشر، سواء العرقية منها أو القومية أو الاجتماعية. بينما نلاحظ سائر المذاهب والحضارات، فان التاريخ يسجل لها الحروب الطاحنة والنزاعات والصراعات التي تفتقد لثقافة بديلة تدعو الى الحياة والعيش الكريم، وإن دعت الى الحياة، فانها تقتصره على فئة معينة، والباقي من فئات المجتمع وسائر البشر فانهم غير مصونين من الموت والهلاك في سوح المعارك او بين وقوعهم ضحية فتن داخلية او خارجية.
ثقافة الحياة .. ثقافة البذل والعطاء
هذه الثقافة الحضارية لم تأت من فراغ، إنما تستمد قوتها وديمومتها من مفهوم (العطاء) الذي يُعد أهم مقومات المجتمع الاسلامي، ومن خلال مصاديقه الرائعة والعظيمة في الحياة، انتشر الدين الاسلامي في الآفاق، ولعل أهميته ومحوريته تأتي من بدايته في أول خطوة لتأسيس الحضارة الاسلامية في المدينة المنورة فيما عُرف تاريخياً بـ (المؤاخاة) بين المسلمين المهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وآله من مكة، وبين المسلمين الانصار أهل (يثرب)، والتي تحولت فيما بعد الى (المدينة). فقد أطلق النبي الأكرم دعوته التاريخية والحضارية بأن يؤاخي كل مسلم أخاه المسلم، وليس هذا وحسب، بل وأن يقاسم كل مسلم أخاه كل ما يملك من مال وطعام ومسكن، وبلغ مستوى الدرس في العطاء، لأن يتخلى المسلم عن زوجته الثانية ليتزوجها أخاه المسلم.
هكذا علّم رسول الله المسلمين الأوائل ثقافة العطاء والبذل، ليزيل من نفوسهم نزعة (الأنا) والاستئثار والأخذ دائماً وبأي ثمن، بل علّمهم ويعلمنا أيضاً إن هذه الثقافة هي التي تضمن لنا الحياة السعيدة والتكافل الاجتماعي، وليس حب الذات والكسب السريع على حساب حقوق الآخرين. وفي آية كريمة وصريحة يحثّ القرآن الكريم على تكريس هذا المفهوم في النفوس؛ "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ" (الأنفال /24).
صحيح إن الديانة المسيحية – مثلاً- كانت تحمل قبل الاسلام قيماً اخلاقية، لكنها كانت محصورة بسلوك الفرد، وتدعو لأن يكون الانسان الفرد صالحاً ومستقيماً في طريقه نحو الله تعالى. وليس بالضرورة ان ينعكس السلوك الحسن والقيم الاخلاقية والدينية لهذا الانسان على بقية أفراد مجتمعه، ولذا لا نجد مجتمعاً مسيحياً في العالم يستقي تعاليمه وقوانينه مباشرة من الديانة المسيحية او من تعاليم النبي عيسى عليه السلام. بل ان الانسان المسيحي متروك له كل الخيارات ليجد ما يناسبه نفسياً او روحياً ليتخذها منهجاً في حياته بغض النظر عن العواقب والنتائج بعد الموت لأنه مغفور مبرور كما يزعمون!
الثقافة ليست للثقافة
إن ثقافة الحياة تتحقق وتنجح عند انسان يتخذ من الثقافة وسيلة للعطاء والبذل والتضحية، وليس مجرد شعاراً او لباساً يتزيّن به ويحقق من ورائه مصالحه الخاصة، فهو قد يكون صاحب ثقافة عملية او ثقافة دينية، لكن عندما تكون هذه الثقافة او لنقل (السمة)، مجرد مائز بينه وبين الآخرين، فانه يصدق عليه قول النبي الأكرم صلى الله عليه واله: (عالم بلا عمل كشجرة بلا ثمر)، وهكذا تنتهي هذه الثقافة بالانسان الى ان يكون أنانياً ذاتياً، يتاجر بعلمه وبثقافته، وهذا يسبب عزوف الناس عن أي مصدر من مصادر الثقافة والوعي، مثل الكتاب او الصحف اوالمجلات وايضاً من الحوارات والمحافل الفكرية والثقافية مثل الندوات والمحاضرات وغيرها.
من هنا يكون لزاماً علينا تحديد الهدف من الاهتداء الى الثقافة عبر العلم والدراسة، فقبل كل عمل وخصوصا التعلّم لابد من تحديد الهدف، حتى اذا كان الأمر مجرد مطالعة كتاب، أو كتابة سطـرٍ واحد، و قبل ان يدخل الطالب قاعة الدرس لابد وان يجعل نصب عينيه ان الذين استهدفـوا من وراء العلم الحصول على مغانم ومكاسب مادية لم يفلحوا في الحياة، أما الذين اتخذوا - منذ البدء- العلم وسيلة للكمال الروحي، والتقرب الى الله تعالى فانهم يتمكنون من توظيف علمهم لسعادة الناس. ولذا نجد تأكيد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله على أن يكون العالم في موقعه الصحيح ولا يشذّ عن الطريق طرفة عين، يقول صلى الله عليه وآله: (صنفان من أمتي ان صلحا صلحت أمتي، وان فسدا فسدت أمتي ؛ قيل يا رسول الله ومن هما ؟ قال : الفقهاء والأمراء).
لنعُد الى القرآن الكريم
نحن كبشر تتقولب افكارنا حسب المحيط الذي نعيش فيه، وكثيرا ما يكون المحيط الاجتماعي الذي نعيش فيه فاسدا، وامامنا الواقع الذي تعيشه الامة الاسلامية؛ فلنسأل انفسنا؛ هل هذا العدد الهائل من الكتب والصحف والمجلات والقنوات الفضائية ومواقع الانترنت صالحة أم فاسدة؟ وهل الافكار المتناثرة هنا وهناك جديرة بان يتناولها الانسان؟ وهل القصص التي نغذي بها أطفالنا كانت كلها ذات مغزى تربوي وتعليمي سليم، أم انها رسمت في أذهان الاطفال صوراً مشوهة عن الحياة؟
واذا اردنا ان نحصن انفسنا وجيلنا من الافكار الضارة وسط هذه البيئة التي تتماوج بأفكار مختلفة، علينا بالعودة الى القرآن الكريم، ولكن مشكلة الانسان المسلم انه يتعامل مع القرآن كما يتعامل مع أي كتاب آخر، في حين ان النبي صلى الله عليه واله يقول: (فضل القرآن على سائر الكلام كفضل الله على خلقه).
ونحن نتساءل؛ أليس من الجفاء ان لا نقرأ القرآن الكريم؟ واذا قرأناه لا نحاول ان نفهمه ونتدبر آياته، أليس من الجفاء ان يدعونا الخالق تعالى الى تدبر القرآن ثم لا نستجيب لدعوته؟ والآية الكريمة صريحة جداً: " أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءَانَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ" (محمد /24)
ان التدبر في القرآن الكريم يمثل بالنسبة الى المثقف اكثر من ضرورة واكثر من مجرد واجب، لان ضلالة الانسان المثقف أشد واكثر تأثيراًَ من ضلالة الانسان العادي، لان ضلالة الاول ستؤدي الى ضلال الاخرين. وعليه فان القرآن الكريم يعد بالنسبة الينا منظاراً للرؤية الصائبة، ومنهاجاً للتفكير السليم، فهو ليس مجرد معلومات بل هو منهاج قبل كل شيء، فالقرآن يلعب الدور الاكبر في تكوين ثقافة الانسان المؤمن، ويمكننا ان نوضح هذا الدور في ثلاث نقاط على سبيل المثال لا الحصر :
1 - ان القرآن الكريم يمثل أداة لرؤيتنا، فنحن ننظر الى العالم من خلال هذا الكتاب، وهذا هو معنى مصطلح (البصائر) او هو احد معانيه، فالقرآن يحدد لك كيف تنظر الى الطبيعة، على سبيل المثال في قوله تعالى: "الَّذِينَ يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا
خَلَقْتَ هذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ" (آل عمران/191). فعندما ننظر الى الطبيعة لابد ان ننظر اليها عبر هذا الاطار الفكري، فالكون هو آية الله، ومجلى لاسمائه الحسنى، ونحن عندما ندرس الثقافات المختلفة يجب ان نجعل من القرآن اطاراً لدراساتنا هذه.
2 - لقد بين القرآن كثيرا من السنن والقوانين الالهية في الكون، وعندما نقرأ القرآن يجب أن نفهم هذه السنن، ومن ثم لكي نفهم الحياة بعمق.
3 - ان القرآن الكريم يصنع شخصية الانسان، فنحن حينما ننظر الى الطبيعة فانها سوف لا تستفزنا ولا تدعونا الى ان نغتر بها، ولذلك فان تقييمنا لهذه الطبيعة وللظواهر الاجتماعية والمجتمع انما هو تقييم عادل لان القرآن الكريم هو الذي عودنا على هذه العدالة. "وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ الْسَّمْعَ وَالْبَصَرَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً" (الاسراء / 36). وإذن؛ فان القرآن الكريم هو منظار للرؤية وسنة للحياة، وبالتالي اصلاح للانسان لكي تكون رؤيته وثقافته في الحياة صائبتين.