الذين يُحرّفون الحسينَ عن مواضعه
|
*السيد محمود الموسوي
إن عملية التحريف مهمة العلماء في المجتمعات التي ترفض الحق والهدى، وهي أخطر من الضلال الفردي، لأن الجاهل يتخطى بجهله الهدى ونور العلم ويضل عن الطريق القويم بمفرده، ولكن عملية التحريف هي إفراز إرادة السوء، ونتيجة خبث السريرة وطموح الفاسد في الإفساد، ومن يباشرها فإنما يباشرها عن علم ودراية بالحقائق، إلا أنه اكتشف أن تلك الحقائق لا تنصبّ في قالبه، ولا تخدم أهدافه، ولا تلبي رغباته في الإستحواذ والهيمنة، فلا يقتصر على الضلال، بل يسعى لإضلال الناس وتخدير عقولهم وتكبيل نفوسهم، لأن ضلال الناس مصدر قوته.
وهذا العمل لاريب أخطر وأقبح من الأول، لذا وجب فضحه، وتعرية خططه، لكي يتحصّن المجتمع من أعماله، فلا تلتبس عليه اللوابس، ولكي يبصر الناس الحقائق كما هي محفوظة مكنونة دون تحريف أو تزييف.
يحرفون الحسين
من الحقائق الربانية التي يعمل العاملون على تحريفها، هي حقيقة (الحسين إماماً) وحقيقة أن (الإمام الحسين إنتماء مقدس) .. لكن كيف يتم هذا التحريف ؟
الإمام الحسين (عليه السلام) هو إمام حق مفترض الطاعة ومعصوم عن الزلل، مطهّر من كل دنس، سليل الإمامة الإلهية، وثالث أئمة الهدى بعد النبي (صلى الله عليه وآله)، ومن صلبه بقية الله من الأئمة المعصومين التسعة (عليهم أفضل الصلاة والسلام) وهو وارث الأنبياء والأئمة، قتيل العبرة، وبهداه يجب الإعتبار.
هذه الحقيقة الناصعة هي التي تضع الإمام الحسين (عليه السلام) في الموضع الذي خصّه الله، والمكانة السامقة التي تبوأها بتشحطه بدمه باذلاً مهجته في سبيل الله خالصاً مخلصاً، وهذه الحقيقة هي التي يُراد لها أن تحرّف، لذا يعمل العاملون على مساس خصائصها الربانية، وتوهين جوانبها الإلهية، وهكذا رأينا في الآونة الأخيرة أن هنالك بعض الخطوط أو الخيوط ممن هي على غير الولاية لأهل البيت (عليهم السلام)، تحاول أن تؤطّر الإمام الحسين (عليه السلام) في خطابها الدعوي والثقافي، وتحاول أن تستجدي عقول الناس باسم الإمام الحسين، متاجرة بقضيته المقدّسة في سوق فاسدة، وهي تجارة بائرة خاسرة أمام نور العقل وهدى المعرفة.
فبعد أن سكتوا عن الإمام الحسين (عليه السلام) وعن فضائله القرون، هاهم ينطقون كفراً، ويلحدون ألسنتهم عن حق الإمام الحسين (عليه السلام)، بعدما رأوا الناس تنجذب بالحس الحسيني نحو ساحة الحق، وقد أيقنوا أن الإمام الحسين (عليه السلام) يثير بحركته دفائن عقول الأحرار، ويزكي نفس الإنسان ويعزز فطرته التي فطره الله عليها، فلم يكن بد لهم إلا أن يعمدوا إلى التحريف فيما يمكن أن توجبه الثورة الحسينية من الإيمان، فيصبح المجتمع ـ حسب ما يطمحون ـ في ظاهره محباً للحسين ومتعاطفاً مع قضيته، ومؤيداً لأهدافه، ولكنه في الحقيقة والواقع مخالفاً لمنهجه، متبايناً مع مقاصده، فذلك هو الإيمان الكاذب الخادع، وذلك هو الإنتماء الذي يحادّ الإنتماء المقدّس للإمام الحسين (عليه السلام)، وذلك هو التحريف.
مواضع الحسين
ولكي لا ننخدع بأباطيل المحرفين، ولكي نبيّن وهن مسارهم، وهشاشة حجتهم، علينا أن نكشف الحق والحقيقة في الموضع الأسمى للإمام الحسين (عليه السلام) والإعتبار الرباني الذي رتّبه الله فيه، وتلك المدارج التي تسنّمها وتربّع عليها خالداً في إمامته لا يحيد فيها عن الحق قيد أنملة، ولا يركن إلى شيء من الغلط والشطط في كل تحركاته وكلماته.
فنظرة سريعة، وتأمل عابر، على بعض الروايات التي وردت عند غير الشيعة الموالين، يمكن للعقل النظيف والفطرة الصافية أن تدرك أن موضع الإمام الحسين (عليه السلام) هو موضع المعصوم الذي يفترض طاعته وموالاته كإمام، لا كرجل صالح عادي، فهذه صحاح أهل السنة والجماعة والأسفار التي تروي لهم التاريخ، تصدح بالحق والحقيقة كالشمس في رابعة النهار.
وهنا ندرج القليل مما ورد في تلك الأسفار التي يؤمنون بصحة صدورها عن النبي (صلى الله عليه وآله)، إلا أنها تحتاج إلى إلتفاتة بسيطة ليدرك الإنسان بعقله الحقائق، ويشع قلبه بنورها، ففي صحيح الترمذي، في الجزء الثاني، في الصفحة 306، يقول: روى بسندين عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) :1 (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة).
فإذا كانا سيدا شباب أهل الجنة، أليس ذلك تعبيراً عن مسيرتهما في الحياة، بأنها كانت متطابقة مع الحق؟ وإذا عرفنا أن أهل الجنة كلهم شباباً فإن الإمام الحسين هو سيد أهل الجنة.
وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي في الجزء الثاني في الصفحة 238 روى بسنده عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) : (لما استقر أهل الجنّة في الجنّة قالت الجنّة: ياربّ أليس وعدتني أن تزيّنني بركنين من أركانك؟ قال : ألم أزيّنك بالحسن والحسين؟ قال: فماست الجنّة ميساً كما تميس العروس).
والحديث الذي لا يختلف فيه اثنان كما في صحيح الترمذي في الجزء الثاني منه روى بسنده عن يعلى بن مرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): (حسين مني وأنا من حسين، أحب الله من أحب حسيناً حسين سبط من الأسباط).
وهذا مسلم في صحيحه يدرج حديثاً واحداً فقط تحت عنوان "باب فضائل أهل بيت النبي (ص)، وهذا الحديث دال على أنه لايمكن أن يدعي مدع أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله) هم غير فاطمة والحسن والحسين وعلي (عليهم السلام)، إلا مفتر قد أخذ الباطل منه مأخذه.
يقول مسلم في هذا الحديث: خرج النبي (ص) غداة وعليه مِرط مُرحل، من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فأدخله معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء عليٌ فأدخله، ثم قال: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً".
الحسين كلمة الله
إن الإنتماء للإمام الحسين (عليه السلام)، هو إنتماء مقدس، لا ينبغي أن يمسّه الغلو، ولا يصيبه القلو، فهو كلمة الله، وقد طهره الله وأذهب عنه الرجس، حيث قال تعالى: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً"، فعندما غالى أهل الكتاب في عيسى (عليه السلام)، بيّن لهم الله تعالى أن عيسى هو رسول الله وكلمة الله، كما في قوله عز وجل: "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ". (النساء/ 171).
فالإيمان بأن عيسى بن مريم هو كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، هو الإيمان الحقيقي الذي لا يشوبه الغلو ولا القلو، والإمام الحسين (عليه السلام) هو أيضاً الكلمة الطيبة التي ذكرها الله تعالى في قوله "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء. تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (إبراهيم/ 24-25)، حيث روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين، في الجزء الثالث، في الصفحة 160، بسنده عن مولى عبد الرحمن بن عوف، سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: (أنا الشجرة، وفاطمة فرعها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، وشيعتنا ورقها، وأصل الشجرة في جنة عدن، وسائر ذلك في الجنة).
|
|