بصائر... قبسات من رؤى ومحاضرات سَمَاحَة المَرجِعِ الدّيني آيةِ اللهِ العُظمى السّيد مُحَمّد تَقِي المُدَرّسِي
المجتمع الذي يقوم على أساس التضحية الحسينية يضمن نجاحه وتقدمه
|
*إعداد / بشير عباس
إن المنهج الاسلامي والبرنامج الإلهي الذي طبقه الانبياء جميعاً ونفذه رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله) ودعا اليه أئمة الهدى وقام بالدعوة إليه والتبليغ له علماؤنا الربانيون، يختلف جذرياً عن البرنامج الجاهلي والمنهج البشري الذي تسير عليه الأنظمة الوضعية في العالم كله، ولذلك فإن هذه الأنظمة لا تستطيع أن تصلح جانباً إلا وتفسد جوانب أخرى، ولا تستطيع أن تحل مشكلة إلا وتخلق مشاكل جديدة وكبيرة شتى.
فما هو ذلك المنهج الإلهي؟ وما هو المائز بين ذلك المنهج الذي جاءت به رسالات الله من عنده وبين تلك المناهج التي جاءت به الأنظمة الوضعية البشرية ؟
*الأخلاق أساس البناء
إن المنهج الإلهي يبدأ بتزكية النفس ومن ثم يصنع مجتمعاً إلهياً متميزاً، ومن ثم يتحول هذا المجتمع الإلهي تدريجياً الى دولة ربانية وحضارة سماوية، ويبدأ هذا التسلسل من الانسان كفرد، ويستمر مع التجمع وينتهي بالدولة، هذا المنهج يختلف عن المنهج الآخر الذي يبدأ بالدولة ثم بالمجتمع وينتهي بالفرد، فالأصل الأصيل في منهج السماء هو ما قاله ربنا سبحانه وتعالى: "هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ "، ومعنى يزكّي: أي يزكي النفوس من الاحقاد والغل والضغائن والإصر ومن كل الفواحش الباطنة التي تعشعش في ضمير الانسان بوعي منه أو دونه، وحينما تتزكى النفوس برسول الله و تطهر بالوحي، ستتلاحم وتتعاون وتتكامل فتتحول الى أمة، وعندما تصبح أمة ستكون هنالك من خلالها دولة ونظام حكم.
بينما المنهج الآخر يأتي برجل يجمع حوله مجموعة من الناس الذين يبحثون عن السلطة والمال والمصالح الفردية الذاتية ثم يهيمنون على مصائر الناس ويسحقونهم ويحولون عباد الله الى خِول ومال الله الى دولة فيما بينهم، فانه يختلف عن ذلك المنهج، لكن ما هو الفرق بالتحديد؟
إن المنهج الإلهي مثله كما يقول ربنا سبحانه وتعالى في آية كريمة: "مثل كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء"، فهذه الشجرة أصيلة و متجذرة في الأرض وفي التربة الصالحة، ومن ثم تنتشر فروعها، بينما مثل النظام والمنهج البشري هو: "ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار" أي تفتقد للعمق، لذا فان النظام الاسلامي الذي ننشده لا بد ان يكون معتمداً على الأمة الاسلامية والمجتمع الاسلامي والاخلاق والآداب والأحكام الاسلامية، وإذا كان المجتمع والأحكام غير اسلامية والأخلاق غير إلهية والآداب غير رفيعة، فهذه الدولة مهما كانت لن تكون اسلامية وهذا المجتمع بدوره لا بد أن يعتمد على أناس عندهم روح الإيمان وتزكية النفس والصلاح والإصلاح، لأن هؤلاء سيكونون المجتمع، والمجتمع بدوره يكون الدولة.
هنا سؤال: هل أسس رسولنا الأكرم (صلى الله عليه وآله)دولة؟ الجواب هو: نعم، ولكن حصل هذا في النهاية، أما في البدء وفي مكة المكرمة فقد كان النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) مشغولاً بتزكية النفوس وتربية الجيل القادم.
جاءه رجل من أصحابه واشتكى عند النبي في مكة المكرمة عما يلحق به وبسائر المؤمنين من الأذى، وكان النبي عند الصفا وعند الحجر قريب من الكعبة، فلما سمع جلس شبه مغضب وقال: إن الذين كانوا من قبلكم كانوا يمشطون بأمشط من نار، وما كانوا يتأوهون فاصبروا واستقيموا ولا تتأوهوا ولا تضجروا فهذا طريق الحق، وبهذا الأسلوب كان النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) يربي مجتمعه، وحينما مر نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله) على سمية وياسر وهما زوجان وابنهما عمار بن ياسر وكانا يعذبان في طرقات مكة، و يوضع عليهما حجارة ثقيلة حامية بحرارة الشمس، وكان أولئك الفسقة الفجرة من قريش يحاولون بهذا التعذيب أن يصرفوهما عن دين رسول الله، ولم يقل النبي لهم سأدعو لكم بالخلاص، بل قال: (صبراً يا آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، أي هذا هو طريق الجنة، والذي يريد أن يصل الى الجنة فلا بد له أن يمر على هذا الطريق الصعب والشائك، فأنتم لن تنالوا الجنة بالتمني والتضنّي أو بالدعاء فقط، "أن تنصروا الله ينصركم" فلا بد أن يبدأ النصر من داخل الانسان ومن ذاته، بعد أن يغير نفسه.
لذا نجد تلك الفتية المؤمنة التي كانت في مكة المكرمة و تربّت على يد رسول الله، نالت التزكية النفسية فطهُرت قلوبهم وتآلفت وتجندت أرواحهم فأصبحوا كتلة قوية ثم دخلوا المدينة المنورة، وقد تكونت الأمة الاسلامية والمجتمع الاسلامي منذ دخول المهاجرون الى المدينة المنورة ومنذ أن دخل الأنصار في الاسلام ومنذ أن تآخى الانصار والمهاجرين في الله حتى أن الرجل من أهل المدينة (النصير) قاسم أخاه (المهاجر) في المسكن فيعطيه داراً اذا كان لديه داران، و يزوجه اذا كانت لديه زوجتان، بل تقاسموا في كل شيء، وتآخوا في الله سبحانه وتعالى، وبهذا تكونت الأمة الاسلامية في المدينة المنورة بعد هجرة النبي (صلى الله عليه وآله)، فبعد أن كانت مدينة صغيرة، تحولت الى مركز للإشعاع الحضاري في العالم، وكل ذلك بفضل أولئك الفتية الذين آمنوا بربهم.
عندما نقرأ سورة الحشر، نلاحظ كيف أن هؤلاء "كانوا يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة"، فكانوا يطفئون الضياء، ويكتفون بالطعام المحدود، ولكن عندما كان يأتيهم الضيف كانوا يجلسون مع الضيف وقت الأكل وكانوا يمدون أيديهم الى الطعام كأنهم يأكلون ولكنهم كانوا يرفعونها فارغة الى أفواههم لكي يأكل الضيف هذا الطعام، والخصاصة بمعنى كانوا يعيشون حالة من الفقر المدقع، والانفاق من قبل الفقير تكون له قيمة عند الله سبحانه وتعالى، أما الغني فإنه من الواجب عليه الانفاق، أما الفقير فإنه ينفق من عشاء ليله وليلة أطفاله في سبيل الله.
في إحدى الحروب جاء الى النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) رجل وقال له: يا رسول الله فلان وفلان وفلان... وعدد عشرة من الأصحاب جرحى وملقون على الأرض وهم ينزفون دماً وفي آخر لحظات حياتهم، أتأذن لي أن أحمل لهم الماء، فقال له: بلى احمل لهم الماء. فالانسان عندما يكون مجروحا أو ينزف دماً يحتاج الى الماء، كذلك في حالة الاحترار، ولذلك فإنه مستحب شرعاً إذا كان هناك شخص محتضر أن يقطر في فمه قطرات من الماء، فحمل هذا الرجل الماء وذهب الى هذا الجريح الأول وقال له: اشرب الماء فأنت جريح وتحتاج الى الماء، ففتح الجريح عينيه وقال: أ رسول الله حي؟! فقد سمعنا أنه استشهد، فقال له: كلا، بل هو حيّ، فقال الجريح: بلغه عني السلام، فقال له: أشرب الماء، فقال الجريح: بل صاحبي جريح وساقط هناك وهو عطشان أكثر منّي، يقول: فذهبت الى الثاني فقال: اعطه للثالث والثالث للرابع و... هكذا الى عاشر عشرة، كل من مرّ عليه وأعرض عليه الماء يعرض عن الماء ويقول صاحبي عطشان اكثر مني، فأعطه الماء، يقول: وصلت الى عاشر جريح فحولني الى الأول ولمّا جئت اليه وجدته قد فارق الحياة، والثاني كذلك، حتى استشهدوا جميعاً عطاشى لم يتذوقوا شيئاً من هذا الماء.
ابو ذر الغفاري (رض) تخلّف عن النبي (صلى الله عليه وآله) في إحدى حروبه، بسبب ضعف الجمل الذي كان راكباً عليه، فقال انا انزل وامشي فنزل ومشى حتى وصل الى ماء لطيف وفرات، وهو عطشان والذي يمشي يحتاج الى الماء فحمل مقداراً من الماء وأراد أن يشرب فقال لنفسه: والله لن أشربه، فيجب أن يشربه النبي أولاً من ثم أنا اشرب الماء، فكيف لي أن أشرب وربما يكون النبي عطشان؟ فحمل الماء وجاء المدينة وكان المسلمون جلوس والنبي جالس فيما بينهم، فقال النبي (صلى الله عليه وآله) لهم تعالوا واستقبلوا هذا الرجل الوفي الذي جاءكم فقد آثرني على نفسه وجاءني بالماء، فجاء ابو ذر حاملاً معه الماء وقال للنبي (صلى الله عليه وآله) يجب ان تشرب أنت أولاً حتى اشرب بعدك وقد عزمت على أن لا أشرب الماء حتى تشرب أنت.
هذه النفوس الطيبة هي التي كونت الأمة الاسلامية، فقد كانت البداية بالنفوس الزكية والاخلاق الحسنة ثم استمر هذا الطهر الداخلي.
عندما نريد أن نبني مدينة ما، يجب بدايةً أن نسوي الأرض، فإذا كان بها مكان عال وآخر منخفض وحفرة واحجار واعشاب نجمعها، ثم نسوّي الأرض، ثم بعد ذلك نفتش عن الطابوق أو المواد الانشائية الجيدة، وإذا كان الطابوق ضعيفاً، فانه سيهدد مستقبل البناء، لاسيما إذا كان هذا النوع من الطابوق داخل في الأساس، إذن، نحن نفتش دائماً عن الطابوق الجيد والقوي حتى نبني طابوقة فوق اخرى ليكون لدينا بيت ومن ثم بيت الى جواره ثم تتكون المدينة والشوارع والحدائق، وبالنتيجة تتكون لدينا مدينة كاملة، أما بعض الناس يقول: لنبني مدينة بدون طابوق!! أو ليكن الطابوق غير معد بصورة صحيحة، ونتيجة هذا البناء ستكون السقوط، وما نشهده اليوم مثالٌ على ذلك، فعندما تكون النفوس غير سليمة ويتسنّم الفرد منصب الوزير أو المدير، أو أي مسؤولية أخرى، فإنه لن يتردد في الاستئثار بالأموال ويبيع الأمة ويرتشي ويفسد في الأرض، والذي يفسد في الأرض ويده في جيوب الناس، فهذا لا ينفع أن يكون وزيراً أو مديراً أو حتى شرطياً! لأن حتى الشرطي يمكن أن يأخذ مبلغ من الأموال ويفتح المجال للمجرمين ليفجروا أنفسهم، كما حصل خلال الزيارة الأربعينية، وفي إحدى الاعتداءات الآثمة سقط أكثر من عشرين شهيدا وعشرون جريحاً من زوار الامام الحسين (عليه السلام).
*العراقيون يبحثون عن الصالحين
على الشعب العراقي أن يفتش عن الصالحين ليكوّن بهم حكومة الصالحين، فالصالح قد يكون في هذا الحزب أو ذاك التجمع او هذا الائتلاف، لا يهم ذلك، إنما المهم أن يكون صالحاً، أي أن يتصف بالأمانة و الوفاء والتديّن و يعرف كيف يتصرف مع الأمة، لا أن يكون عند وصوله أموال الناس يتحول كالذي وصفه أمير المؤمنين (ع) (تخضمون أموال الناس كما يخضم الإبل نبتة الربيع)! إذن، فالاشكال في ذلك الطابوق الذي بنينا به بيتنا ومجتمعنا، فقد كان غير متماسك وغير مضمون فتكون النتيجة أن البيت ينهار على رؤوسنا.
في الآية الكريمة من سورة (آل عمران) يبين القرآن الكريم الشروط الموضوعية لبناء الأمة الاسلامية، فربنا سبحانه وتعالى يقول بعد آيات مباركات: "ولتكن منكم أمة"، ولم يقل حكومة، "ولتكن منكم أمة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون"، فالمفلح السعيد هو الذي يصل الى أهدافه ويحقق تطلعاته.
إن القرآن الكريم دستور حياتنا ومنهجنا وفرقاننا ونورنا وضياؤنا وميزاننا، فلا تقرأوا القرآن الكريم وكأن النص باللغة (الهندية) أو (الصينية)، إنه نصّ عربي مبين، وعلينا أن نتدبر في الآيات وربنا يقول: "أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها"، فعلينا أن ندرس الآيات الكريمة لا أن ندرس الآية الواحدة فقط، فما هي العلاقة بين الآية الأولى والآية الثانية في هذه السورة؟ ولماذا قال الله بهذا الشكل؟
إن إمامنا أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: استنطقوا القرآن، أي دعوا القرآن ينطق لكم، واسألوه، ثم اطرحوا الاسئلة على أنفسكم والقرآن سيجيبكم، هذه من سمات الأمة الصالحة، أما الأمة الطالحة فيقول عنها الله تعالى: "ولا تكونوا كالذين تفرقوا"، إن أمامنا تحذير قرآني بألا نتفرق على مصلحة مجتمعنا وبلدنا، لكن اذا حصلت المحورية على المصالح، فإننا سوف نفترق لا محالة، لأن المصلحة والأهواء تفرق بينما الحق يوحد، "ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم". إذن، هذه أمة وتلك أمة، فهذه الأمة ستحقق النجاح، بينما الأخرى سيؤول مصيرها الى الزوال والخسران بسبب تفرقها وتمزقها، كما يقول شاعرهم:
وتفرقوا شيعاً ولكل قبيلة أمير المؤمنين ومنبرُ
وفي هذه الحالة ينطبق قوله تعالى : "يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، بدايةً يبين القرآن الكريم الوجوه التي أسودت، أي الوجوه التي كانت في البداية بيضاء، وكانوا يدعون الى الله والى الخير، لكن فيما بعد تلوثت واسودّت بحب الدنيا و أوساخها وبالمصالح الخاصة والافكار المنحرفة "أما الذين أسودت وجوههم أكفرتم بعد أيمانكم"، هنا التساؤل الإلهي العريض: ما الذي أدى بكم الى التفرقة بعد أن كنتم يداً واحدة على العدو، إن المصير كما يقول الله تعالى: " فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فهؤلاء بدلاً من أن يفكروا بمصالح الأمة ومصيرها وخدمة الناس، فكروا في جماعتهم وأصحابهم.
ثم تتحدث الآية الكريمة عن هوية الأمة الأخرى المفلحة، "وأما الذين ابيضت وجوههم"، وهم الذين لم يختلفوا ولم يتفرقوا بل تعاونوا، "ففي رحمة الله هم فيها خالدون"، وهي رحمة الله في الدنيا وفي الآخرة.
*العراق يتألق في العالم بالأربعين
إن العراق أصبح اليوم يضرب به المثل في العالم، فإما يكون حديثاً طيباً لمن روى، وإما -لاسمح الله- يكون أحدوثة يتكلم عنها الناس في السوق، فاذا قلنا نحن المؤمنين حكمنا العراق مدة عشر سنوات، وقام هذا الشعب بدوره في مختلف المجالات، فعندئذ سيكون حديثاً حسناً لمن روى.
والعالم شاهد عبر الشاشة الصغيرة خلال زيارة الأربعين وهو مشدوه ويقول: سبحان الله من حرّك هذا الشعب وعبأه؟ وكيف؟ ولماذا يطوي الآلاف تلك الصحاري سيراً على الأقدام؟ كنت ألاحظ واستقبل الشباب فيما كانت أقدام البعض منهم تنزف دماً على مشارف كربلاء، وأرى ذلك الزائر وهو متهاوي من الارهاق ويسحب بنفسه ولكنه عندما يقول: (لبيك يا حسين)، يصبح قلبه كزبر الحديد، وعزيمته تكون أقوى من الجبال، فيأتي و يزور أبا عبد الله الحسين (عليه السلام) وبكل صدق وصبر.
إن العالم بدأ اليوم يتأثر بهذه المشاهد، علماً إن أحد الأخوة نقل لي بان القناة (....)، تتكلم ضدنا، وأقول له: إن الغربان تنعب والضفادع تنقنق، فلا يهمنا ذلك، لأن البلابل تُغرد، فقد كشف الشعب العراقي للعالم كله مذهب أهل البيت ليس بكلامه وإنما بفعله.
حصل أن فتاة كانت تصرخ وتصيح وسط الأشلاء المقطعة بسبب الانفجار الانتحاري على الطريق بين بغداد و ديالى، وهي تبحث عن أمها، يقول ناقل المشهد: قلت لها: إن أمك - وهي كبيرة في السن- جاءت في طريق ابي عبد الله الحسين (ع) واستشهدت في هذا الطريق، لكن لاحظي ذلك الطفل وذلك الشاب... نعم، هذا هو طريق الحسين، فالذي يريد طريق الحسين فهذا هو، وإلا لجلس الانسان في بيوته، ثم قال: بين الاجساد الممددة وذوي الشهداء والاشلاء المقطعة، صدر صوت واحد و رفيع: (لبيك يا حسين لبيك ياحسين...)!
لقد أصبح الشعب العراقي كأمة في الحقيقة مثل أعلى في كل أمة، فاذا سأل شخص من دولة مجاورة أو بعيدة في العالم عن أمة اسلامية ذات عزم وايمان وأريحية وكرم وجود، يأتيه الجواب: إنه الشعب العراقي. واذا سأل، أين أراهم؟ فان الجواب هو: خلال زيارة أربعين الامام الحسين (عليه السلام)، على الطريق بين كربلاء وبغداد، أو الطريق بين كربلاء والنجف، نلاحظ السيل المتدفق والمنهمر، وعلى أي طريق كان الناس يزحفون الى زيارة قبر أبي عبد الله الحسين (ع)، فبات ضريح أبي عبد الله (ع) كعبة العاشقين، والناس كلهم يستهويهم اسم الحسين (ع)، فعندما يقول: (يا حسين)، واذا بالجمهور كله يتوكل على الله.
في زيارة الأربعين تجمع بعض الناس وقوفاً حول قارئ او رادود يقرأ والمكان ضيق ولكن كل واحد فيهم يطاول الآخر حتى يرى الرادود، ربما سمع هؤلاء شعراً عن فاطمة الزهراء (ع) تقول عن لسان الحال باللهجة العاميّة: (أدوّر على ابني وين ما كان)، فقد سمعوها و وعوها، والآن هم ايضاً يبحثون عن ابي عبد الله الحسين في كل مكان، ففي أي منطقة في العراق يرفع علم مكتوب عليه (يا حسين)، اذا بالناس يجتمعون هناك ويقولون أين القارئ؟ وأين الرادود؟ فنحن حاضرون للتعزية.
من هنا نطمح ان يحضى هذا الشعب بحكومة تشبهه، حكومة جود و كرم. وقد تمنى بعض المسؤولين أن يسير الوزراء والمسؤولون على الأقدام مع الناس، بل إن كثيراً منهم كانوا كذلك، فلا يجب أن نبخس حقهم، وهم في ذلك يتفهمون الناس ويدركوا ماذا يريدون منهم؟ إن الناس تقدموا على المسؤولين في هذه المسيرة وحملوا الراية أمامهم، و وصلوا بها الى كربلاء.
اقول شيئاً ربما لا تسمعونه في مكان آخر، ان عدداً من الزائرين تعرضوا للافتراس من قبل الحيوانات الوحشية فاكلتهم الذئاب والسباع! وقسم آخر غرقوا في مياه النهر العام الماضي، و لكن الزائرين لا يأبهون، بل يواصلون المجيء الى كربلاء هذا العام وكل عام، وكلما زادت المشاكل يزدادون توهجاً وتألقاً وعزيمة، لأنهم يسلكون خط الشهداء وخط الدماء السائلات وخط العبرات الساكبات، ويسلكون ذلك الخط الذي عُبد بالدم ولانهم يعلمون أن ذلك الدم سوف يغلب على السيف، وسوف يكتب الانتصار ويسقط عروش الطغاة وسوف يكشف زيف المنافقين في العالم.
ومن أجل ذلك يوظفون مجموعة من الفضائيات ليلقوا بالشبهات الواحدة بعد الأخرى دون جدوى، وهي محاولات يائسة وبائسة، لأن من يريد النزال والمواجهة عليه أن يقف على الأرض، لا أن يكون مثل الخفافيش تبحث عن الظلام والغيلة والغدر، كأسلوب حرملة وسعد وشمر والغدارين والخناسين، فيأتون ويفجرون الزائرين، وهذا دليل فقدانهم للحجة، بينما نحن نمتلك الحجج البالغة والقوية.
من مشاهد الغدر والغيلة والدنائة ما تنقله لنا واقعة كربلاء، وإن تقرؤوا التاريخ لن تجدوا نظيراً للحالة التي استشهد بها أبو الفضل العباس (عليه السلام) ففي كل قوانين الحروب في العالم، تقول : اذا شاهدت شخصا يحمل جريحاً لا تستهدفه، واذا رأيت علامة الصليب الاحمر أو الهلال الاحمر على السيارة فلا تستهدفه، واذا وجدت شخصاً يحمل الماء فلا تستهدفه أيضاً، لكن الغدارين من أتباع يزيد ترصدوا للعباس وهو يحمل الماء للاطفال الذين أمضوا فترة طويلة محاصرين ويعانون العطش الشديد، واستهدفوه دون أن يقاتلوه، فكان الهجوم غدراً، حيث كمن له عدو من وراء نخلة فضربه على يده اليمنى ثم على يده اليسرى.
هنالك سؤال – ونحن نتطرق الى بطولة أبي الفضل العباس- بان الدم عندما يتدفق من اليدين المقطوعتين فكم من الوقت يبقى للانسان في الحياة؟ فاذا نزف الانسان من يديه فانه سيقع ويموت قطعاً، لكن لماذا ذلك أتى صاحب العمود الحديدي وضربه على رأسه؟!! و لماذا رشقوه بالسهام؟ وقد سقط الماء وأريق على الأرض، وهو ليس عنده يد ليحارب، هل السبب في أن تصاب إحدى عيني أبي الفضل بإحدى تلك السهام؟!
إن شوكة بسيطة اذا تصيب عين أي انسان فانها تجعله يضجّ من الألم لأن العين حساسة للغاية، واذا بسهم طويل يصيب عين أبي الفضل (ع)، فجلس على الفرس و وضع السهم بين رجليه حتى يسحب السهم من عينه، وإذا باللعين يضربه بذلك القضيب الحديدي، وتبقى البطولة في محلها لا تتزعزع.
نرجو من الله سبحانه وتعالى بجاه ابي الفضل العباس وبجاه الحسين (عليهما السلام) أن يستجيب دعوات كل هذه النفوس الملتهبة الطيبة وهؤلاء الذين أتوا من مختلف اقاصي الأرض ومنهم من جاء من الهند سيراً على الاقدام الى العراق، وكلنا ندعو الله سبحانه وتعالى ان ينزل علينا الرحمة ويبعد عنا النقمة ويؤلف بين قلوبنا ويجمع كلمتنا على التقوى والعمل الصالح ويهيئ لنا الصالحين وان يجعل هذه الأمة الطيبة الطاهرة وهذا المجتمع النظيف الذي طُهر بذكر أبي عبد الله الحسين (ع) ومصائب الحسين ان يجعله أن شاء الله مجتمعاً ينتهي الى الصلاح و الإصلاح والفلاح والسعادة الرفاهية و التقدم إنه ولي التوفيق.
|
|